*لانا المجالي
خاص ( ثقافات )
نكايةً بمحلّ الورد الذي زيّن واجهته الزجاجيّة بالأحمر منذ أسبوع، والشّاعر الذي دعاني لحضور توقيع ديوانه “أحبكِ.. والبقيّة تأتي” مساء 14 فبراير، وتُربة بلادنا الحمراء الرّطبة، وفتاوى شيوخ الدّين والأصدقاء في مواقع التواصل الاجتماعي، وثلاث سمكات في حوضٍ زجاجي لم أنجح بالمحافظة على حياتهن، آثرتُ التّراجع عن نشر مقالتي الرّصينة حول واحدة من “قضايانا الرّاهنة و..المصيريّة”، واستبدالها بكتابةٍ رديئة عن الحبّ.
أقول “رديئة”؛ لأنّ كل تجاربي في الكتابة عن الحبّ فاشلة، أنا الكاتبة التي تفتتح نصّها بـعبارةٍ مُبهمة على غرار “عندما كنتُ حَديقة” وهي تقصد “عندما كنتُ عاشقة”، أو تتورط بوصف طقس موت حيوان الفيل، أو دورة حياة نبات الصبّار، أو تفاصيل بناء بيوت العنكبوت، أثناء سرد تفاصيل قصّة حبّ خاضتها.
أقول “رديئة”؛ لأنّ الكتابة عن الحبّ لا تشبه الحبّ، وأنْ تهجر عاشقة رغيف الحبّ السّاخن فوق طاولة مطبخها، لتتضور جوعًا فوق مكتبها، يظهر دون مواربة أنها لم تجد من تتقاسم معه “الملح والخبز”. النّاس عمومًا؛ فئةٍ تعيش الحبّ، وأخرى تكتب عنه فقط محتفظة برشاقتها ومسايرتها للموضة، دون أن أذكر الأنواع الأخرى من البشر!.
وبما أنني أعلنت مسبقًا أن “يحيا الخبز”و..”النوتيلا”، فكل ما أسعى إليه هنا ليس أكثر من إنصاف العلاقة “غير المفهمومة” التي تهزُّ أعماقنا، فتحوّل الرّجل إلى أخرق، وتصيّر المرأة نصف بلهاء.. فنخبل الكون، ونرضي غرور فرويد الذي وسم هذا الفعل باللاعقلانيّة وقرنه بالعمى عن رؤية الحقيقة، ما دفع العقلاء إلى امتطاء ذريعة “حبّ الإنسانيّة و (ماما وبابا والمدرسة) والوطن” عبر وسائل الإعلام في عيد فالنتين القديس، رغم أنه في البدء لم يكن الحبّ إلا ما جمع آدم بحواء- قبل وبعد- خروجهما من الوطن؛ لإعمار الأرض وإنجاب البشريّة!.
في رواية “حانة فوق التّراب” لقاسم توفيق، يقول على لسان أيهم أو بقلمه في رسالة إلى حبيبته شيراز: “علّمني حبّك بأننا نحن البشر لا نحبّ من أجل الحبّ، بل من أجل أشياء أخرى كثيرة غيره؛ نحنُ نحبّ حتى نعي شيئًا من الحقيقة، ولكي نعرف الدّنيا”… وكأنّ الكاتب أو بالأحرى أيهم– لأن “توفيق” في رواية سابقة /”رائحة اللوز المرّ”/ له رأي آخر!- يستدعي تأملات جان لوك ماريون في “ستة تأملات حول ظاهرة الحبّ”، مناديًا معه بأنّ الحبّ قوام الحكمة/ المعرفة/ الحقيقة، معارضًا فرويد وأتباعه العقلاء الذين قدّموا- بحسن نيّة ربما، رغم مخالفتهم تعاليم الأديان- التّناسل وإعمار الكون على فعل الحبّ، فجئنا سلالات عاقلة قويّة، لكن منزوعة الحكمة ببطاريات قلوب معطّلة، الأمر الذي يفسّر كلّ هذا الشّقاء الذي نعيش فيه.
يرى جان لوك ماريون أن تاريخ الفلسفة، هو نسيان لأصلها؛ أي الحبّ، إذ يخفي تعريف أرسطو للفلسفة- “البحث عن المعرفة الحقّة”- الحبّ أو يتناساه ليبقي على الحكمة؛ فيما تدل كلمة فلسفة في اليونانية من الناحية الاشتقاقية على “الرغبة في المعرفة” أو “محبة المعرفة” أو “محبة الحكمة”، هذا يعني، حسب ماريون، أنه يجب كشف مكوّن الحبّ باعتباره سابقًا على المعرفة والوجود، واعتبار فلسفة الحبّ جوهر الفلسفة، وسؤال الحبّ أول سؤال فلسفي، ذلك أن الحبّ ممكن بلا وجود، والوجود غير ممكن بلا حبّ.
ولتفسير أسبقيّة الحبّ على الوجود، يتساءل ماريون: ما الجدوى من الوجود إذا لم يحبّني أحد؟؛ وهو سؤال يقلب الترتيب الذي يعطي أولوية للوجود على الحبّ، ويضع “أن يكون المرء محبوبًا” شرطًا للتفلسف، ولكنه ليس شرطًا وجوديًا، بل مشكلة وجوديّة، ولا بد من التنويه أن الإشارة المجتزأة من سياق أحد تأملاته قد تكون مجحفة بحق ماريون، لأن الحبّ عنده “معطىً بلا مقابل”، ويتعلق بمنح الحبّ وليس أخذه فقط، لكننا لسنا بصدد الخوض فيها على كل الأحوال.
ثمّة مفارقة تستحقّ أن نفكّر بنتائجها؛ لو وافقنا ماريون الذي يرى أن الحبّ قوام الحكمة، وعارضنا فرويد الذي يقول إنه فعل غير عقلاني، فإن علينا الإقرار بأن الطريق الذي يؤدي إلى (الحبّ /الحكمة) محفوف بالجنون واللاعقلانيّة!، ولا عاصم لنا، خصوصصا أن العقل البشري لم يقدم –حتى الآن- نظريّة مقنعة تفسّر آلية وقوعنا في الحبّ،وسبب اختيارنا لأشخاص محددين قد يكون هلاكنا أو نعيمنا رهن نجاح علاقتنا معهم؛ لأنّه- الحبّ- تجربة إنسانيّة وشخصيّة لا يمكن تكرارها مرتين.
ما هو الحبّ؟ سؤال لا يمكن الإجابة عنه، لكننا نتورط فيه ونخطط سلفًا للوقوع بين براثنه حتى لو ادّعينا العكس، فها هو توماس – مثلا- البطل في رواية “كائن لا تًحتمل خفته” لـ ميلان كونديرا، يحاول تفسير حبّه المفاجئ لـتيريزا، فيقول لنفسه في استعارة غير مبررة: إن تيريزا طفل وضع في سلةٍ مطليّة بالقطران ورميت في مجرى النهر؟”، ثم يضفي على حبّه شكل الواجب أو المهمّة المقدسة، يسأل: “هل في إمكان المرء أن يترك سلّة داخلها طفل تنجرف مع مياه النهر الهادرة؟”، .. هكذا حتى يتدخل الرّاوي-بحسن نيّة أو من دونها- لإقناع القارئ بغير الحقيقة، قائلا:”لم يكن توماس يدرك من قبل أنّ الاستعارات شيء خطير، لا يمكننا أن نمزح مع الاستعارات، فالحبّ قد يولد من استعارة واحدة”!.
استعارة واحدة، أو ابتسامة واحدة، أو غيبوبة واحدة، أو … ، لا فرق، كل الطرق تؤدي إلى الحبّ، حيث لا نعود إلى سابق عهدنا بنا أبدًا، أو بالأحرى نعود إلى ما كنّا عليه قبل أن نتوارى تحت ركام العاديّة.
وعندما نذهب إلى الحبّ، إن وصلنا، نتذوق طعم الأشياء البكر، إذ تتكشّف الكائنات الفريدة التي تسكننا؛ الكائنات النّورانيّة المؤمنة، لنواجه – للمرّة الأولى- هشاشتنا الصّلبة، وخوفنا النّبيل، وثورتنا الحمامة، وشغفنا الأخضر، وأصواتنا التي تهتف مع سان جون بيرس: ” أيّها العشّاق، العشّاق، من يعرف دروبنا؟. سيقولون للمدينة: لَيُبحَث عنهم! إنّهم يتيهون!.. وغيابهم مأخذ علينا”، وأصواتنا معه وهو يردّ علينا: “سلامٌ سلامٌ للصّدق الإلهي، وذكرى طويلة على البحر لجموع العشّاق المسلّحة”.