جان ميشيل ألبيرولا فنان مغامر بالمعنيين الجغرافي والحضاري


*أبو بكر العيادي


تقصير الفرنسيين مع الفنان الفرنسي المنسي جان ميشيل ألبيرولا، والذي احتفى به “قصر طوكيو” بباريس مؤخرا، ليس متأتّيا من استهانة القائمين على المعارض والمتاحف الفرنسية بفنه، بقدر ما هو ناجم عن شخصية الرجل نفسه، فالذنب ذنبه إن لم يكن معروفا إلاّ لدى نظرائه وطلبته وبعض المهتمين بالفن عامة.

ذلك أنه يؤثر العزلة حتى وهو في حيّ مونبرناس الشهير، الذي يشهد ماضيه وحاضره بحركة فنية نشيطة، ولا يملك من وسائل الاتصال الحديثة حتى هاتفا، لا جوالا ولا قارا، إذ يفضل تزجية وقته بقراءة كامو وفالتر بنيامين وهولدرلين ورامبو، والبحث في أعمالهم عما يمكن أن يستلهمه لصياغة عمل جديد له فرادته، وباقتفاء خطاهم حيثما حلّوا ليرى العالم كما رأوه، أو لينظر إلى ما رأوه بعينيه هو، لعله يكتشف تفاصيل غابت عنهم أو هم لم يولوها أهمية كبرى.
يتبدّى في لوحاته متشبّعا بتجارب السابقين، عالما بأسرار فنهم، وهو المدرّس، يعتبر نفسه سليل جوطّو وفيلاثكيث، مثلما هو سليل ميرو وكازيمير مالفيتش وسواهم. يقول في هذا الصدد: جئت بعد الجميع، لا أبتكر شيئا، فقط أخطو خطوة إلى الجانب، بمقدار مليمتر.
وإن كان يميل إلى تصوير الواقع على طريقته، إذ يقول أيضا “ما أحاول التعبير عنه هو الواقع، ولكنه واقع في شكل قِطع، في ذهني ما يشبه آلة، تلتقط”. ولذلك عادة ما ينصح طلبته بالنزول إلى الشارع والجلوس في أيّ ساحة من ساحات المدينة، لتلمس ما يجري فيها، والوعي بحركتها وبملامح هذا الخليط العجيب من الناس، الذين يعيشون جنبا إلى جنب، دون أن يعرف في الغالب أحدهم الآخر.
تكعيب روائي
يتميز ألبيرولا كذلك بخلق صلات بين الفن من جهة وبين الأدب والرياضيات من جهة أخرى، في شكل مونتاج متواصل، على طريقة التيار التكعيبي الذي يقول إنه لم يتعلمها من جورج براك وبيكاسو، بل من رواية “عوليس″ للأيرلندي جيمس جويس.
وهو إذ يؤمن بضرورة تلك الصلات، يؤمن أيضا بالعطاء، والفنان الموهوب في رأيه هو الذي يَهِب، ويرضى بأن يُنتزع منه كلّ شيء عدا المعرفة، على غرار الشخصيات التي تؤثث سلسلة لوحات له بعنوان “مَلِكُ لا شيء”، فالفنان في تصوّره هو أرستقراطي زاهد، جالس على عرش غيرِ قارّ، مثل ملك لا يملك أيّ شيء.
ويتميز ألبيرولا أيضا بروح المغامرة ليس في معناها الجغرافي وحده، وإنما أيضا في معناها الحضاري، حيث ينظر إلى العالم المعاصر كمغامرة يتطلب بناؤها تضافرَ جهود الناس أجمعين، ولذلك فهو لا يقتصر على الواقع المحلي، بل يتعدّاه إلى ما يربك سكون العالم، إلى القضايا المجتمعية والإنسانية التي تثير فيه هموما ومفازع فيندّد بها على طريقته، كما في سلسلة “رؤية سكان واتس عام 1965” التي خصصها لانتفاضة السود في حي واتس بلوس أنجليس، وعاد إليها بعد أحداث فرغوسن في الأعوام الأخيرة، أو “زينوبيا” (الزبّاء) عن تدمير المدينة الأثرية تدمر، جوهرة مدائن المتوسط.
ففي لوحاته حركة دائبة، تتغذى بالأحداث اليومية، محلية أو عالمية، مثلما تتغذى بالآداب والسينما، وهو ما ينصح به طلبته كي يطوّروا لوحاتهم. كأن يوصيهم، إذا ما صادفهم مشكل في استعمال اللون الأحمر، بقراءة الفيلسوفة الفرنسية سيمون فايل، لأنها لم تتوانَ عن العمل في المصانع للوقوف على معاناة العمال، ولا عن الارتحال إلى أسبانيا زمن الحرب الأهلية في ثلاثينات القرن الماضي لفهم ما يجري.
ألبيرولا مسكون بروح المغامرة، وهو الذي ولد في مدينة سعيدة بالجزائر عام 1953 قبل أن يجيء إلى فرنسا، لا ينفكّ يتنقّل في جهات كثيرة من العالم اقتفاء لخطى أعلام أثْروا مخيّلته، كالرحيل إلى جزيرة إبيزا لفهم كتاب فالتر بنيامين “التجربة والفقر”، وإلى جزر صاموا على خطى ستيفنسن صاحب “جزيرة الكنز” الذي دافع عن سكّان الأرض ضدّ المستعمر، وإلى أسّيزي بإيطاليا على خطى الزاهد القديس فرانسوا.
رحلة المخيلة
منذ بضعة أعوام بدأ ميشيل ألبيرولا يزاوج بين الفن والسينما، فبعد “كويامارو” الذي صوّر فيه سكان قرية نياغاتا باليابان تحت الثلج، يحلم بتصوير فيلم طويل عن كتاب إتيان دو لابويسي “خطاب في الرّقّ الإراديّ” وعن بولندا تحت الاحتلال النازي، وعن ثورات الربيع العربي.
فهو، كما توحي بذلك سلسلة لوحاته “عقيم لا يُضبَط”، كصفتين لا يكون الفنان فنانا إلاّ بهما، “أنارتيست” (بالجمع بين أنارشيست، أي ثائر على الوضع القائم، وأرتيست، أي فنان)، شأنه شأن مارسيل دوشامب مبتدع هذا النعت، يدين من خلال فنه مجتمعا يعتبر الفنان خارج دورة الإنتاج المادي الصرف، ولا يستطيع ترويضه، لأن روح المغامرة تسكنه.
ومع ذلك يبقى ألبيرولا في جوهره فنانا أصيلا، يصحّ فيه قول الناقد جان دولوازي: “في يديه الهشّتين، يحسن حمل الفن كشيء لا يقدّر بثمن”.
_______
*العرب

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *