«الأشعار الكاملة» لروبرت فروست: بعض المكانة لشاعر رسمي


*إبراهيم العريس


كانت سنوات الأربعين من القرن العشرين عامرة بالشعر والشعراء. كان الشعراء يبرزون بسرعة والمجموعات الشعرية تتوالى صدوراً والتيارات تتنافس والحداثة تبدو منتصرة في وقت خرجت البشرية من أتون الحرب العالمية الثانية وقد آلت على نفسها القيام بمهمة تدمير كل قديم أوصلها إلى تلك المجزرة، لتبني الجديد الذي، في اعتقادها، سيكون من شأنه أن يشفي البشرية من الميل إلى التدمير الذاتي. في ذلك الوقت بالذات، شاءت الصدف، أو السلطات الرسمية الأميركية، أن يصدر كتاب ضخم يضم «الأعمال الشعرية الكاملة» لذلك الشاعر الأميركي الذي كان الأشهر في الأوساط الشعبية في بلاده في ذلك الحين. لكنه كان أيضاً معروفاً خارج بلاده، وبخاصة في أوساط أنصاف المثقفين والقراء البسطاء الذين كانوا قد اعتادوا أن يؤموا المراكز الثقافية والمكتبات الأميركية حيث وُجدت في «العالم الخارجي». ففي تلك الأماكن وحدها، كانت تنتشر كتب بالإنكليزية أو مترجمة تضم أشعار روبرت فروست وتوزع في شكل شبه مجاني، ما وشى بأن السلطات الرسمية الأميركية تعتبر هذا الشاعر ناطقاً رسمياً باسمها في مجال الشعر وبالتالي باسم الإيديولوجيا التبسيطية التي قام عليها الحلم الأميركي الذي سيعتبر فروست مروجاً له. في شكل فيه بعض المواربة، كان يبدو وكأن أميركا تريد أن تجابه بامتثالية روبرت فروست وشعره، تلك المشاكَسة عليها – وعلى الحلم الأميركي بالتالي – التي كان يمثلها مثلاً شعراء مثل والت ويتمان، كما شعراء أكثر معاصرة تمكنوا من تحقيق سمعة عالمية في انشقاقهم على المواطَنة والأيديولوجية الأميركيتين ومنهم تي أس إيليوت وإزرا باوند. بذلك الشكل إذاً، وصل شعر فروست إلى قراء كثر في العالم وقُريء هذا الشعر. لكنه أبداً لم يتمكن من أن يفرض نفسه في زحام توجهات نخبوية كانت تتطلع إلى المشاكسة وإبداء الغضب في انتظار بروز جيل البيت (بيت جنرايشن) الذي سيبرز ثائراً كلياً على فروست كما على الحلم الأميركي بأسره.
> ومع هذا كله سوف يكون من المكابرة إنكار القيمة الشعرية لروبرت فروست حتى وإن كان يبدو منسياً بعض الشيء اليوم. فالحقيقة أن استعراضاً لأشعار المجموعات العشر التي شغلت صفحات طبعة العام 1949 من أشعار فروست الكاملة – ثم ما أضيف إليها من أشعار جديدة في طبعة العام 1963 التي كانت نهائية إذ صدرت عام وفاة الشاعر-، سيضعنا أمام شاعر، صحيح انه اعتُبر الشاعر الرسمي لسلطات بلاده، لكنه يتمتع بلغة مدهشة وقدرة على التسلل إلى داخل الروح لسبر أغوارها، كما بقدرة على التأمل العميق في أحوال الطبيعة، كان يفتقر إليها كثر من شعراء الحداثة الذين جعلوا من التوقف عند جوّانيّتهم والعودة من ثم إلى الأساطير العتيقة، لبّ شعرهم. وإلى هذا، إن عاد المرء إلى أشعار كتبها بروست أوائل سنوات الثلاثين وباستيحاء مباشر من فترة الركود الاقتصادي المرعب، سيجد أمامه شعراً لا يخلو من تأمل فلسفي واجتماعي وديني، يقف في صف الفئات الأكثر حرماناً. أي أنه كان شعراً يقف على الضد من الصورة المعهودة عن فروست لدى قارئيه في المراكز الثقافية الأميركية. ومن هنا تلك الدعوة التي سادت خلال سنوات الستين لإعادة النظر في مكانة فروست وشعره. وربما بالتحديد انطلاقاً من رنة الحزن والأسى العميق التي تسود مجموعاته الخمس الأولى: «وصية صبي» (1913)، و»واد في الجبال» (1916)، و»شمالي بوسطن» (1914)، و»نيو هامبشير» (1923)، وصولاً إلى «خطوة أولى» (1936). ففي قصائد هذه المجموعات والتي صدرت قبل تحوّل بروست شاعراً «رسمياً»، ثمة نفس يلهث يبدو معه الشاعر راكضاً خلف أفكار إنسانية يحاول ألا يتركها تفلت منه.
> والحقيقة أن هذا الجانب من مسار فروست الشعري سيبدو كفيلاً بأن يعيد الاعتبار ليس إلى الشاعر وحده، بل كذلك إلى الشعر الأميركي المعاصر له إذ على رغم أن الولايات المتحدة هي وطن وولت ويتمان وإيمرسون، كان كثيرون ينظرون إليها أواخر القرن التاسع عشر وعند بدايات القرن العشرين باعتبارها بلداً ليس للشعر فيه مكان. فقط بعد ذلك بزمن طويل نُظر إلى الأرض الأميركية على أنها أرض يمكن للشعر، بدوره، أن يكون له فيها مكان على رغم صراخ ألان غينسبرغ واحتجاجه.
> ولعل هذا الفصل بين أميركا وبين الشعر، كان هو الذي يقود خطوات الشعراء الأميركيين في ذلك الحين إلى أوروبا وغير أوروبا باحثين عن مكانتهم الشعرية فيها (ت. أس. إليوت وعزرا باوند). ولكن لئن كان رحيل مثل هذين الشاعرين إلى القارة العتيقة منطقياً بالنظر إلى حداثتهما وأوروبيتهما، فان اختيار شاعر أميركي ثالث هو بروست للرحيل ذات يوم إلى إنكلترا يبدو لنا أكثر مدعاة للعجب، خصوصاً أن فروست الذي كان وكما أشرنا، يعتبر أكبر شعراء أميركا شعبية في القرن العشرين، ظل في شعره كما في حياته وتقلباته محملاً بالقيم الأميركية منافحاً، إلى حد ما، عن الحلم الأميركي. ومع هذه ها هي الحقيقة التاريخية تقول لنا أنه هو الآخر حدث له في 1912، وكان في الثامنة والثلاثين من عمره، أن حمل زوجته وأبناءه مرتحلاً بهم إلى إنكلترا، حيث هناك فقط أتيح له أن ينشر أول مجموعتيه الشعريتين الأوليين «وصية ولد» و»شمال بوسطن». بيد أن قراءة لأشعار فروست المتأخرة عن هاتين المجموعتين وغيرهما من أشعاره الأولى، تضعنا مرة واحدة في وجه العقلية الأميركية نفسها، مما يعني أن فروست لم يكن بحاجة حقيقية للرحيل. وربما كان هذا «الاكتشاف» هو ما دفعه إلى العودة بعد سنوات إلى حضن وطنه الأميركي بعد أن كان قد حقق لنفسه سمعة عالمية طيبة.
> منذ ذلك الحين وروبرت فروست (1874-1963)، يعتبر أكثر شعراء أميركا شعبية في القرن العشرين، وهو تأكيد لا تشوبه شائبة ولكن مما يضعف من شأنه ما قامت به المؤسسة الرسمية الأميركية من استيعاب لروبرت فروست وشعره، إذ راحت تقدمه دائماً بوصفه شاعر الطبيعة والفضاء الأميركيين. وليس من قبيل الصدفة في هذا المجال أن تكون المختارات التي ترجمها يوسف الخال إلى العربية أوائل سنوات الستين من أشعار روبرت فروست نشرت في بيروت الكوزموبوليتية يومها وبدعم مباشر من مؤسسات ثقافية كانت ترتبط بأجهزة الاستخبارات الأميركية – على الأقل كما تؤكد فرانسيس سامرز في كتابها «من يدفع أجر الزمار»-.
> صحيح أن روبرت فروست شاعر أميركي بامتياز، وهو أميركي في أعماقه على رغم سنواته الإنكليزية وعمله مع الشعراء «الجيورجيك»، الذين كانوا يستخدمون لغة بسيطة تنتمي إلى الطبيعة، تكاد تشبه النثر متخذة من داخل العبارة موسيقاها، وصحيح أنه على شاكلة الغالبية العظمى من الشعراء والأدباء الأميركيين، أمضى حياته تحت شعار الترحال والقيام بشتى المهن، من التدريس إلى صناعة الأحذية مروراً بالعمل في مزرعة مما أعطى شعره طابعه الريفي التأملي، كل هذا صحيح، ولكن من الصحيح أيضاً أن فروست كان شاعر القلق في الآن عينه. بل شاعر «الإرهاب الداخلي» على حد تعبير الناقد تريلنغ الذي أعاد اكتشافه أواسط الستينات وشاء، بدراسة عنه، أن يعيد له قيمته المشاكسة والقلقة بعد أن اعتبر من قبل السلطة جزءاً من التراث الأميركي الممتثل.
> مهما يكن فان قراءتنا اليوم لشعر روبرت فروست ستكشف لنا عن ازدواجية أساسية لدى «هذا الشاعر الذي انتمى إلى بلد اللاشعر»: فهو حين يطلق نفسه على سجيتها في تعبيره الشعري يصل إلى الذروة كما في «شمال بوسطن» و»وصية ولد» و»نيو هامبشير» و»ساقية الغرب» وكلها تنتمي إلى سنواته الأولى، أما حين يشاء أن يحول نفسه إلى معلم فكر وإلى شاعر – فيلسوف، كما في قصائد «شجرة الجدود» (1942) و»قناع العقل» (1945) و»قناع الشفقة» (1947) فإنه يفقد قيمته الشعرية، ويبدو بحسب تعبير الشاعر كينيث وايت «أشبه بعضو في مجلس النواب يتحدث عن أميركا وقيمها وفكرها العميق وقد خيل إليه أنه تقمص شخصية في واحد من أفلام فرانك كابرا». مهما يكن فإن فروست أثبت، ذات يوم، أن بإمكان أميركا أن تنتج أيضاً شعراء لا يقفون بالضرورة ضدها وضد قيمها، ولعل هذه قيمته الكبرى بالنسبة إلى الأميركيين.
______
*الحياة

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *