*عدنان حسين أحمد
على الرغم من صغر سن الفنان البريطاني باثولوميو بيل (1989)، إلا أن تجربته الفنية التي تتمثل بمعارضه الشخصية الثلاثة التي أُقيمت في لندن وديربي تكشف عن موهبة كبيرة لا يمتلكها غيره من الفنانين التشكيليين.
بلغت موهبة باثولوميو بيل الفنية حدود الفرادة النوعية التي أشار إليها نقاد الفن التشكيلي ومتابعوه ضمن حدود المملكة المتحدة، خصوصا بعد حصوله على جائزتي جوناثان فايكرز وديروينت فالي ميلز.
تتعاضد الأشكال والمضامين في إبراز عناصر القوة في الأعمال الفنية لبيل الذي درس الرسم في كلية ويمبلدون للفنون، كما درس التصميم في جامعةغلوسي سترشاير، الأمر الذي منح لوحته مصدرا أساسيا من مصادر القوة والتوازن، هذا ناهيك عن اللمسة الجمالية التي تتوفر في غالبية لوحاته إن لم نقل كلها على الإطلاق.
يستمد بيل موضوعاته حتى هذه اللحظة من ثلاثة مصادر مهمة وهي الأساطير، والقصص الفوكلورية، والشعر البريطاني على وجه التحديد وعلى رأسها أعمال شيكسبير و ت. س. إليوت، وربما تتوسع أبحاثه في السنوات القادمة التي سوف تشهد مراحل جديدة في قراءاته الثقافية، وتطوره الفكري الذي قد يلامس بعض الجوانب الفلسفية لتمثّل الصور الشعرية وتطويعها على سطوحه التصويرية اللافتة للانتباه.
لا نريد الخوض في موضوعي الأساطير والقصص الفوكلورية التي عالجها بيل في أعماله الفنية السابقة، ذلك لأن معرضه الشخصي الرابع الذي تنظمه جمعية الفنون الجميلة بلندن وقد افتتح في 24 يونيو ليستمرّ إلى غاية 29 أغسطس 2014 يتمحور حول ثيمة عنوانها “كومة من الأصنام المحطمة”، وهي جملة مستعارة من البيت الثاني والعشرين من قصيدة “الأرض اليباب” المؤلفة من خمسة مقاطع أبرزها “دفن الموتى”.
ونظرا لأهمية العنوان فسوف نقتبس المقطع المهم الذي يمتد من البيت التاسع عشر حتى البيت السادس والعشرين من “دفن الموتى”، الذي يقول فيه ت.س. إليوت بترجمة الدكتور عبدالواحد لؤلؤة: «ما هذه الجذور المتشبثة، أية غصون تنمو/ من هذه النفايات المتحجرة؟ يا ابن آدم/ أنت لا تقدر أن تقول أو تحزر، لأنك لا تعرف غير/ كومة من مكسّر الأصنام، حيث الشمس تضرب/ والشجرة الميتة لا تعطي حماية، ولا الجندب راحة/ ولا الحجر اليابس صوت ماء. ليس/ غير الظل تحت هذه الصخرة الحمراء/ “تعال إلى ظل هذه الصخرة الحمراء”.
ربما يتبادر إلى الذهن دائما سؤال جوهري مفاده: هل يمكن ترجمة الأعمال الأدبية إلى منجزات فنية إبداعية كاللوحات والمنحوتات والأعمال التركيبية وما إلى ذلك؟ وما هي درجة الدقة في تجسيد هذه الأعمال؟ لا شك في أن الجواب يظل متأرجحا بين السلب والإيجاب.
فلوحة “أوفيليا” التي استوحاها الفنان البريطاني جون إيفرت ميليه من مسرحية “هاملت” تبدو متطابقة جدا مع الصورة الشعرية التي وردت في النص المسرحي آخذين بنظر الاعتبار هيمنة المناخ الواقعي الذي لا يخلو من لمسات تعبيرية واضحة.
أما الفنان باثولوميو بيل الذي نفّذ هو الآخر لوحاته بأسلوب تشخيصي أيضا، لكنه استعان بالتعبيرية التجريدية التي تذكرنا بأعمال جاكسون بولوك وهانس هوفمان. وقد نجح إلى حد كبير في تمثل الصور الشعرية الإليوتية الغامضة وتجسيدها على السطوح التصويرية، ولعلي أشير هنا إلى لوحة “الجذور المتشبثة” التي اختصرها بيل بهذا الشكل الملتوي الذي يغوص في أعماق التربة، وفي خلفية اللوحة نلمح رجلا وحيدا غارقا في التفكير والعزلة.
في لوحة “أية غصون تنمو؟” ثمة تجسيد واقعي لهذه الغصون التي نمت وأحاطت بإنسان طاعن في السن، محني الرأس والقامة، غارقا في اليأس والضياع هذه المرة. ربما اللوحة المعنونة بـ”كومة من الأصنام المحطّمة” هي الأكثر إرباكا بين جميع لوحات المعرض، ذلك لأنها تخلو من الأصنام الحقيقية المحطمة، اللهمّ إلا إذا اعتبرنا الفيغرات الأربعة التي تهيمن على مساحة اللوحة برمتها، هي أصنام رمزية محطمة من الداخل، وأنها تعاني من الضياع المطلق الذي كان يشعر به الناس بعد الحرب العالمية الأولى.
لا يمكن فهم بعض لوحات هذا المعرض دون العودة إلى قصيدة “الأرض اليباب” بغية فك رموزها ومشفراتها البصرية. وكلنا يعرف أن الصخرة هي من الرموز المهمة في شعر إليوت لكننا لا نرى في لوحة “تحت الصخرة الحمراء” ما يشير إلى وجودها الفيزيقي.
لكننا نستطيع أن نستدل عليها من خلال المستطيل الأحمر الذي يتصاعد فيه خيط مستقيم سوف يتلولب في نهايته ليذكرنا بـ”الجلجثة”، وهو المكان الذي صلب فيه المسيح وانفلق فيه الصخر.
لا يجد المتلقي صعوبة في تأويل بعض اللوحات مثل “البحار الغريق” فمن خلال المركب المحطم نستدل على البحار الغريق. أما الخطاب البصري الأكثر أهمية في هذه اللوحة وسواها من لوحات هذا المعرض، هو المناخ الفضائي أو الأوتموسفيري الذي يضع المتلقي أمام مشهد واسع استدعاه الفنان، بغية اللعب على الأشكال الفنية التي تجمع بين ثنائية الواقع الملموس والأحلام الفنتازية الغامضة، التي تتسيّد فيها فواجع الحرب التي حوّلت جنتنا الأرضية إلى “أرض يباب”.
______
*العرب