أمريكا ربيع جابر.. رواية ملحمية عن عذابات المهاجرين الأوائل




مهند النابلسي


خاص ( ثقافات )

يلخص الروائي ربيع جابر في روايته “أمريكا”، ومن خلال 430 صفحة و126 فصلاً، قصة حياة مرتا حداد الشابة الفقيرة الجميلة، التي هاجرت لأمريكا من جبل لبنان في بدايات القرن الماضي بحثاً عن زوجها.
ويستعرض خلال روايته الشيقة الأحداث والمغامرات التي واجهتها برباطة جأش، والتي صورت بدقة وتفصيل، المعاناة الشخصية أمام خضم تأثيرات وتداعيات الحربين العالميتين ووباء الإنفلونزا والأزمة الاقتصادية العالمية في العام1929 ، كما تناول بالتفصيل التسجيلي التطورات الاقتصادية والاجتماعية وتأثيرات ذلك على المهاجرين خلال العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين.
ما أدهشني في هذه الرواية الملحمية الطويلة طريقة السرد الشيقة، غير المملة، التي تعتمد على الجمل والفصول القصيرة التي لا تتجاوز في معظمها ثلاث أو أربع صفحات، ومن ثم تقسيم الرواية لأربعة أجزاء. الرواية ممتعة وتدخلك إلى الحدث بواقعية وضمن نمط وصفي ينبض بالحياة، وتشبه لحد بعيد أسلوب هيمنغواي وطريقة وصفه المذهلة، كما أنه يعتمد أسلوب التصوير السينمائي من حيث تمكن الكاتب من إضاءة الأحداث والتفاصيل والإحاطة بالتفاصيل في سيناريو مترابط.
والكاتب لا يلجأ للتنميق والفذلكة، وإنما للتعابير المباشرة المؤثرة، مستخدما في أحيان كثيرة تعابير عامية واصطلاحات أمريكية دارجة، بغرض إدخال القارئ داخل الأحداث وكأنه يصوغ التعابير مستخدماً أسلوب التصوير الثلاثي المجسم (الدارج حالياً في الأفلام)، فعندما يتحدث عن شجرة التين العائلية يقول: غطوا أغصانها ببطانيات الصوف، فلا يتمكن الجراد من أكلها! ثم يقول في أحد فصول “جو حداد” (الثلاثة) مصوراً لحظات ما بعد الموت: كانت هذه اللحظة أغرب ما عرفه في حياته: شعر بأنه يخرج من جسمه ويطفو فوق الأسرة. ينظر إلى الوجوه ويتعرف إليها… مع أن معظمهم نيام! ثم يصور ببراعة مشاهد الحرب الكونية الأولى: وأخرجت من تحت الأرض جثثاً متعفنة…. وبينما يقطع المروج ويرى الرصاص ويحصد السنابل والرؤوس شعر بأنه لا يقهر! ثم يتساءل عن “الإنفلونزا الإسبانية”: لماذا طرد هذا الوباء خارج الذاكرة البشرية، على الرغم من أنه حصد الملايين! ثم يصف الحياة الغريبة لجندي سوري ـ أمريكي: كلما أرسلونا إلى معركة انتهت قبل أن نصل، لم يؤذ حتى يده لأن الحرب قررت أن تمر جنبه من دون أن تلمسه.
ويصور بطريقة سينمائية حدثين مهمين، أولهما تداعيات الحرب الكونية الثانية: غواصات أخرى اختفت عقدين من الزمن في الدائرة القطبية، وعند اندلاع الحرب العالمية الثانية ظهرت من جديد صدئة وشبه معطلة في بحر الشمال، يقودها بحارة ابيض شعرهم وارتخت عظامهم في سنوات الاختباء! ومن ثم ينتقل بنفس الكاميرا الروائية واصفاً تداعيات الانهيار المالي المفاجئ في “وول ستريت” (في العام 1929): لم يرم أحد حجارة على المصرف. الناس داروا دائخين حول الأبواب المغلقة ثم تبعثروا تحت المطر الحزين.
ويتحدث عن ومضات التواصل البشري: وصل الصوت إليه آتياً من مجرة أخرى. وافقها الرأي وهو يبحث في عينيها عن أثر من شعاع قديم. وخيل إليه أنه يرى شيئاً. في اللحظة التالية أظلمت نظرتها وغاب عنه كل أمل! وعن الشوق والحنين للعائلة يقول ببلاغة مجازية: تراصت العائلة، تداخلت الحجارة مثل حائط الدك. نسجوا الخيوط المتينة وتعلقوا هكذا فوق النسيج المتين: كانت الهاوية تحت أقدامهم على الدوام، لن تذهب الهاوية السوداء الفاغرة الفم.. لكنهم في الأعلى، على النسيج المتين، بنوا حياة جديدة. لم يكن بيت عنكبوت.
ويصف حالات الاسترخاء ما بين خضم الأحداث المتواترة: كان الهواء يداعب وجهها ورائحة الملح والطحالب البحرية تنسيها العالم الواقعي! ثم ينهي روايته بطريقة مجازية وكأنه لا يريد لبطلة الرواية أن تموت: هكذا أريد أن أتركها، في الحديقة التي زرعتها تفاحاً في “باسدينا”، تسمع خرير المياه وتحيا إلى الأبد.
تكمن إحدى مزايا جاذبية هذه الرواية في الاختيار الموفق والمعبر لعناوين الفصول، سواء بالعربية أو الإنجليزية مثل: “ناس الطريق” و”سبرينغ فالي” و”جزدان الحرير” و”أخرجوا موتاكم” أو “الحياة الغريبة لجندي سوري ـ أمريكي”…الخ، وفي التتابع المتسلسل للأحداث وكأنه بنى “خارطة طريق” لروايته دمج فيها الأحداث الشخصية لأبطال الرواية مع السياق التاريخي لأمريكا والحربين الكونيتين ووباء الإنفلونزا وانهيار الوول ستريت، وقد ضمن الرواية جملة من المعلومات التاريخية القيمة التي تخص الجالية السورية تحديداً، منها الأسباب التي دعت لنمو عدد السوريين المغتربين إلى خمسة آلاف، وذلك عندما رفعت مصانع فورد الأجور، واشتباك السوريين بالسكاكين في مانهاتن السفلى في العام 1945 بسبب خلافات وانقسامات دينية ومناطقية، كذلك فهو يفاجئنا في الفصل 74 بمعلومة تتعلق بكيفية نجاح السوريين بالحصول أخيراً على الجنسية الأمريكية (في العام 1915 ) على الرغم من قناعة الرئيس ويلسون الذي كان يعتبر السوريين عرقاً أصفر صينياً.
تمكن ربيع جابر خلال روايته أن يقود القراء في رحلة روائية ممتعة حافلة بالشغف والسرد التلقائي مستنطقاً التاريخ، سارداً بجمل رشيقة الوقائع والتفاصيل اليومية، مثل تناوله لأحداث انتشار الانفلونزا الإسبانية وحالات التعامل مع جثث الموتى (الفصول المعنونة: أخرجوا موتاكم)، وكذلك وصفه الدقيق للحالة السائدة بعد انحسار الوباء وانتهاء الحروب.
لقد استطاع بمهارة أن يسلط الأضواء على مصائر أبطاله وعبث الأقدار بهم، وأعتقد أنه استند لكم كبير من الأبحاث والروايات والوثائق الصحافية والمذكرات الشخصية، مما أعطى لروايته نفساً تسجيلياً شيقاً، وحولها لنموذج “عملي” يحتذى في كيفية كتابة الروايات الجميلة الممتعة. أخيراً تكمن المفارقة المدهشة في أنه على الرغم من براعة الوصف ودقة الإلمام بالتفاصيل، إلا أن الكاتب الشاب لم يزر أمريكا ولو مرة واحدة في حياته، وهذا مؤشر على “النبوغ الروائي”، خاصة إذا ما علمنا أن أولى رواياته صدرت في العام 1992. “سيد العتمة” التي نال عليها جائزة الناقد للرواية.
هامش:
رواية ربيع جابر «أميركا» تبادل الأماكن وتبدلها في قصة الهجرة والاغتراب
ترحل الشابة الريفية مرتا من قريتها اللبنانية إلى نيويورك، وعندما تلمح تمثال الحرية المنتصب على الأطلسي، تخاله العذراء مريم، فتتم صلاتها الخائفة. وهكذا تصبح الدهشة والغفلة المقولة الأولى في رواية ربيع جابر الجديدة “أميركا” الصادرة عن المركز الثقافي العربي ودار الآداب معاً.
وعلى أساس مسردوات هذه المقولة، يبدأ الراوي رحلته مبحراً في زمن الهجرة الجبلية اللبنانية إلى أميركا مطلع القرن العشرين إلى منتصفه، يوم غدت تقاليد تلك الهجرة راسخة على امتداد عقود طويلة سبقتها.

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *