سأنتظره


*محمد العريشية


كان المطر قد بدأ بالهطول، لم تكن الشمس قد بزغت بعد، بيد أن الرؤية كانت تهز حناجر الطيور بالزقزقة، والريح تسوط أغصان أشجار السرو الطويلة. وكان الرجل قد بلغ الكوخ قبل الفجر، إذ قطع الليل مشياً تحت الغضب والبرد.

مشى ناحية حفرة نار أمام الكوخ قرفص قربها وحرك الرماد بساطوره فتوهج بصيصاً وما لبث أن مات بفعل المطر. عضّ على شفته السفلى وهو يرمي بنظره نحو باب الكوخ وقال في ذات نفسه:
حقاً إن الجبال لا تلتقي…
نهض ودار حول الكوخ واطمأن إذ كان المطر يطمس أثر خطواته. جلس على شجرة رتم وراح يتأمل صخور بحر وضعت بعضها فوق بعض على شكل نصف دائرة وقال محدثاً نفسه:
ـــ قبل اسبوع لم تكن الصخور هنا، ماذا كان ينوي أن يفعل بها؟ ربما يكون قد فقد الكثير من وزنه إن كان هو من جلب الصخور من الشاطئ؟
خلع قفازه الخشن ومرر ساطوره على ظفر ابهامه وأحدث خدشين متوازيين ثم رفع رأسه محدقاً في السماء، وكان المطر قد غسله، ارتفع عواء الريح وشخر رعد بعيد. أغمض عينيه. وتذكر وقد شحب لونه: كان يوم جمعة. وكان القبلي يهوي بالطير من السماء، وقبل أن يذرّ قرن الشمس، وتبدأ الجداجد بإطلاق صريرها على شكل متواصل، نمى إليه صياح أمه في البيت عندما كان يقوم بتهجير فحل لم يتوقف لحظة عن الهدير وعلى الرغم من أنه نزا على الأعنز بيد أنه لم يفترّ عن الضراب. وفيما كان يجالد الفحل لعقد الحبل في رسغ رجله ليشده إلى رجله الخلفية جاءت أمه مزمجرة يتملكها غضب كالسعير.
ـــ أنت هنا تعتقد نفسك رجلاً، وابن الكلب قد أنفش غنمه في الأرض.
أخلى سبيل الفحل الذي راح يخمع تحت تأثير الهجار. وعندما استدار لئلا يواجه نظراتها، التقطت حجراً وحصبته به وصاحت:
ـــ اذهب لإعداد العشاء بدلاً من أختك.
نظر إليها طويلاً من فوق كتفه، ومن دون أن ينبس بكلمة دخل البيت وعاد حاملاً بندقية. سار بين أشجار الزيتون حتى وصل آخر الأرض حيث نزعت أعمدة الخشب، وفتحت ثغرة في السياج تدخل شاة. تلفت حوله فشاهد الغنم غارسة رؤوسها في بقل الزرع، عدها، كانت خمسة عشر. أخذ ينظر إليها إلى أن أظلمت عيناه بفعل الغضب، لقم البندقية ومشى نحوها. مر من أمامه طائر بوم وحط فوق عمود الحد بين قطعتي الأرض وأخذ ينعب فأسكته بحجر. نبح كلب على مسافة من الغنم ثم رفع رجله ليبول على صخرة فصوب البندقية وبدأ به.
اجتمع رجال القرية تلك الليلة لدرء اندلاع عراك آخر وأجبروه على أن يدفع ثمن الغنم التي قتلها بيد أن صاحب الغنم رفض.
ـــ لا أريد ثمنها. لكن أريدكم أن تجبروه على الاعتراف بأن والده قضم جزءاً من أرضنا وقد طالبه أبي بذلك فهدده بالقتل. أقول لكم ما لم تحسموا سبب العداوة بيننا لن يفيد رتق الثوب الممزق.
صاح في غضب.
ـــ والدك لم يتمكن يوماً من النظر إلى عين أبي مباشرة.
لقد هدده. هناك شهود
ـــ لم يثبت أحد ذلك، ومن الأفضل لك أن تصمت مثل والدك وشهوده.
لبس قفازه الخشن وأمسك بساطوره وعاد إلى حفرة النار وتمتم في سره.
سأنتظره. وعندما يخرج لن يشاهد شيئاً سوى الساطور.
ثم راح يفكر، ويروز في ذهنه ثقل ثرثرة الراعي. ولام نفسه بزرع الساطور في الرماد بعنف لعدم حسب حساب الرعاة في مثل هذا الوقت. وقال:
ـــ كان عليّ أن أسلك طريقا آخر.
لم يدرك أنه سلك الطريق الخطأ إلى أن سمع صوت أجراس ووجد نفسه بعد ذلك فجأة في مواجهة كلب كبير يحيط برقبته حبل به أجراس تصلصل. رفع ساطوره وقد باعد ما بين ساقيه. اقترب الكلب يصدر زمجرة وقد انتصب شعره على امتداد ظهره وعنقه ويدمدم في حنق. وحين قفز تلقى لطمة بالساطور فسقط أرضاً ونزف الدم من بين أذنيه، لكنه أصبح أشد جنوناً وعندما أستعد للقفز مرة أخرى سمع صفيراً، ومن مكانه استدار ونظر إلى مصدر الصفير وركض وهو ينبح وتوارى خلف أشجار الرتم. التفت الرجل فرأى الراعي يقبل نحوه، فتى لم يتجاوز العشرين من عمره طويلاً نحيفاً يرتدي قميصاً عربياً فضفاضاً وفوقه معطف عسكري. كان يمسك بعصا طويلة من منتصفها.
من حسن حظك أنك تحمل ساطوراً وإلا أكلك. إنه كلب شديد المراس.
قال الراعي بعد أن صافحه وأضاف:
ـــ أسكن في «الزعفران» هناك قرب «بئر الغراب». وهذا الكلب صديقي لقد شبّ عن الطوق على يدي وأنا من قمت بقصّ أذنيه وذيله ليكون شرساً لكني وضعت الأجراس حول رقبته لينبّه الغافلين في الطريق كي يتداركوا أنفسهم بالاختباء. لقد أكل امرأة قبل أيام.
ثم ابتسم وأردف:
ـــ لا تقل لي أنك من الزعفران؟
تلعثم وهو يكثر من الالتفات وقال أخيراً:
ـــ من هذه الأنحاء.
سار الراعي حتى جلس قرب حفرة النار، رفع إبريقاً قديماً وسكب الشاي في علبة طماطم وقال:
ـــ دعه يبرد فقد شربت الشاي مرة من الأبريق مباشرة فخدد لساني… انظر!
وكشف عن لسانه المتشقق وقال:
ـــ اجلس، إلى أين أنت ذاهب، إنها ستمطر الليلة؟
ـــ كنت هناك في طرف الغابة لجمع الحطب.
قال بنبرة لا تخلو من الامتعاض.
ـــ هل سمعت؟… قيل إن رجلاً قتل أخته لأنها حملت عن طريق الخطأ.
تمالك نفسه ليخفي ردة فعله ونفى بهز رأسه.
ـــ قالوا إن الفاعل بعد أن استولوا على جزء من أرضه، انتقم باغتصاب البنت المنكودة.
زرع الساطور في الرماد بعنف مرة أخرى، ناظراً إلى الكوخ بعينين محمّرتين ثم نهض يدفعه الغضب في اتجاه الكوخ.
ـــ لا، لن أستطيع أن أُخفيك في بيتي لحظة واحدة. لا، لا. لقد قَصّ أثرك حتى الكوخ وعندما لم يجدك هناك ذبح الرجل من الأذن إلى الأذن. لا تحملّني ما لا أطيق. لدي عشرة أطفال من سيعتني بهم بعد ذلك؟ إنه الآن مجنون إلى حد الطيش. لا تملأ رئتيه إلا رائحة دمك، ويحسبك في عداد الأموات حتى من قبل أن يحدد مكانك. أعرف أنك لم تمسسها بسوء، والطبيب أظهر أن انتفاخ بطنها نتيجة مرض. لكن من الأفضل لي أن تنهض وتبحث عن مخبأ آمن. لا، لا . إن الدم لا يصبح ماء. لكن لا أستطيع مساعدتك. انظر، أنا تاجر أغنام أبيع وأشتري ولا يمكن أن أحبس نفسي معك في البيت، ستفوح رائحة وجودك في بيتي يا رجل، وحينئذ سأدفع ثمن حمايتك غالياً. قلت لك إنه لا يعلم أن الطبيب شرّح جثتها، إنه ينتظرك في مكان ما ويشحذ نصل ساطوره بالغضب. لا، لا، لا. انهض واذهب إلى الشيطان.
___________
*كلمات
العدد ٢٨١٢

شاهد أيضاً

قصة “الظل” لإدغار آلان بو

(ثقافات) قصة الظل[1]. إدغار آلان بو ترجمة: عبد القادر  بوطالب                أنت الذي تقرأ ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *