لوركا سبيتي وفاروق شويخ على مفترق الشعر



*شوقي بزيع


يبدو المشهد الشعري في لبنان غنياً وواعداً وشديد التنوع، بما جعل من العام المنصرم عاماً للشعر بامتياز. وليس أدلّ على ذلك من غزارة المجموعات الجديدة التي أصدرها بالعشرات شعراء وشاعرات ينتمي معظمهم إلى جيل الشبان. في حين أن قلة من أجيال سابقة لا تزال حاضرة بقوة وثبات داخل هذا المشهد. واللافت في هذا السياق هو التباين الواضح بين أساليب الكتابة وطرائقها لدى الشعراء الجدد الذين توزعوا بين قصيدة الوزن، بشقيها الخليلي والتفعيلي، وقصيدة النثر التي كادت تحتكر المشهد الشعري اللبناني في سنيه الأخيرة. ولما كنت في مقالة سابقة قد تناولت بالقراءة تجربتَي ربيع شلهوب ومحمد ناصر الدين، المتغايرتين لغةً ومقاربة للعالم، فسأحاول استكمالاً لما بدأته أن أسلط الضوء على تجربتين أخريين لكل من لوركا سبيتي وفاروق شويخ، حيث تتباين، هذه المرة أيضاً، التجربتان في الأسلوب والأدوات والحساسية تجاه اللغة والوجود.

ليست مجموعة «مصح عقلي» هي الأولى للوركا سبيتي، التي سبق لها أن أصدرت مجموعات أخرى، من بينها «أنت لي الآن تحرَّر» و «أمكنة شاغرة بين صمتك وثرثرتي». ولعلّ ما يجمع بين أعمال الشاعرة الشابة هو التمحور حول الأنوثة بوصفها جوهراً قائماً بذاته، لا مجرد ملحق هامشي بالرجل أو محل لاستيهاماته ونزواته الجسدية المجردة. ومع أن صاحبة «ليس سوى الأرق» لم تستطع التخلص التام من هاجس الاتكاء على فتنة الجسد الأنثوي المغوي، لمواجهة الرجل على الساحة التي لا يستطيع فوقها أن يربح الحرب، أسهم وعي الشاعرة السياسي والمعرفي في تحقيق نوع من التوازن «الرجراج» بين الأنثى المعتدة بسلطة جمالها الخارجي وبين المرأة الانسانة والمكافحة من أجل جعل الأرض مكاناً آهلاً بالحرية والسعادة والمساواة بين الجنسين. إلا أن لوركا التي كانت بعض قصائدها تتكئ على التأليف وتقصد الغرابة وإعمال الذهن، تذهب هذه المرة إلى الأماكن المتصلة بالقلب وتفاصيل العيش والارتطام المباشر بأسئلة النفس ومكابداتها، فتصيب هدفها معظم الأحيان وتخطئه في مواضع قليلة.

لا يعكس عنوان المجموعة مضمونها بالضرورة. إذ لا نرى هنا محاذاة للجنون ولا نزوعاً إلى الهذيان والتداعي السوريالي، ما عدا بعض الصور التي ترد في القصيدة التي تحمل المجموعة اسمها، مثل: «رتبت لاوعيي في جوارير\ ونوّمته ببعض المهدئات\ قهقهات تغرق هذا العالم الجاف\ المليء بدمى محشوة بالقش». على أنّ العنوان يجد مسوغه الشرعي في كون الشعر ليس سوى نوع من الاستشفاء باللغة، أو هو المصح الرمزي لأمراض العقل وأعطابه. وفي عملها الجديد تنحو سبيتي إلى بساطة التعبير ووضوح القصد اللذين يمنحان القارئ شعوراً بالألفة والتفاعل مع الموضوعات والقضايا التي تتم ملامستها عن قرب، ومن دون مواربة أو إبهام.

وبين هذه الموضوعات لا تزال العلاقة الملتبسة مع الرجل تحتل موقع الصدارة بين اهتمامات الشاعرة المختلفة، كالعلاقة مع الذات القلقة وجغرافيا الأماكن والوطن والمنزل والأسرة والأمومة وغيرها. لكنّ اللافت في قصائد الحب هو أنّ العلاقة مع الرجل ليست علاقة تكافؤ ومساواة فحسب، بل إنّ إحساساً بفائض القيمة الأنثوية يتسرّب إلى النصوص ويدفع إلى الشعور بالغلبة والاستحواذ، وصولاً إلى الشعور بالذنب إزاء الرجل الذي يجبره الحب على الكثير من المشقات والتنازلات الصعبة: «أكبر بحبك\ وأصير أكبر منك\ تمحو وجهك\ تحمل وجهي وتبتسم مثل تمثال… \ كان علي أن أدمرك لأبتكر نظاماً غيرك\ كان علي أن أُلبسك التهمة لأتحرر\ ولكنك ستظل تحبني».

غير أن نصوص المجموعة تتفاوت في عمقها وسويتها بحيث تقع أحياناً في مطب الاستسهال والتوصيف الإنشائي، وتقع أحياناً أخرى أسيرة التسجيع الذي لا مسوغ له في غياب الوزن، فضلاً عن تشتت المعنى وبعده عن الكثافة التي يقترحها الشعر على اللغة: «أحبك لأنك سميع شفيع\ ولأنني بك الكبرياء والخضوع\ أحبك لأنك فن بديع\ ولأني بك أستحيل ربيع».

أما فاروق شويخ الآتي من أوزان الخليل باتجاه شعر التفعيلة فيبذل في ديوانه الجديد «قناديل لحنين داكن» أقصى جهوده لمغالبة جنوحه السابق إلى التطريب الانشادي واستعراض المهارات البلاغية الصرفة. ومع أن الأمر ليس سهلاً بالطبع على شاعر مطبوع ومتمرس ببحور الشعر أشد التمرس، يظلّ صاحب «وجه زينب» يتصارع على أكثر من ساحة مع تجاربه السابقة، التي ركنت حيناً إلى صوفية طقوسية ومستلة من معاجم اللغة، وأفرطت حيناً آخر في استمراء «التقصيب» الجمالي والبلاغي.
واللافت في تجربة الشاعر هو عدم ركونه التام إلى موهبته المجردة التي تظهر تجلياتها منذ بواكيره الأولى، بل هو يعمل باستمرار على مقاربة الشعر من غير وجهة وأسلوب دون أن يأنس إلى منجزه السابق. وأعتقد أن مجموعته الأخيرة، بخاصة في قسمها الأول، تدشن مرحلة جديدة ومغايرة في كتابته، من حيث الموضوعات والرؤى والتصويب إلى الجوهري في الكتابة. فالشعر هنا لا يكتفي بوصف الأشياء وتسييلها في مشاعر وانفعالات وجدانية صرفة، بل يعيد تعريفها وتسميتها واستنطاقها من الداخل. وهو ما يظهر جلياً في قصائد «الهواء» و «مفارقة» و «وقت ضائع» وغيرها. وليس من باب الصدفة أن يعول الشاعر على تكرار مفردة اللسان في العديد من عناوينه، متل «لسان الشبّاك و «لسان النخلة» و «لسان جديد»، بل إن هذه العناوين تخبئ وراءها قناعة تامة بأن على الشاعر أن يتماهى مع الكائنات والموجودات وأن يستكنه منطقها من الداخل، حتى لو أرهقه التحدث بلسانها، كما يعلن الشاعر في إحدى قصائده. هكذا نقرأ على لسان النخلة « فارعةٌ وقامتي تلوي مع الرياح\ كشعلة المصباح\ وأمس هزتني يدٌ ومنت قوت المعجزه\ نسيت في ملهى بدايتي خطى مصيري\ واليوم\ في وجهيَ لا عيون لي\ عيناي في جذوري».

القصائد في عمل فاروق شويخ الجديد قصيرة وموجزة بحيث تبدو أقرب إلى المقطوعات والبرقيات والرسائل القصيرة منها إلى المطولات والإفاضات المسهبة. ورغم نجاح الشاعر الواضح في التخفف من حمولة البلاغة الزائدة التي تثقل العديد من قصائده، فإن بعض مقطوعاته لا تزال تفتقر إلى الانسياب التلقائي والليونة التعبيرية، بخاصة في نماذج الوزن الخليلي كقوله «يحمل وجهي لظلمة أثراً\ ترقُّبٌ رعشةٌ رسوم دماعْ\ منطفئٌ دربي الكليل ترى\ يكون خلف الشعاب بعض شعاعْ».

 وأغلب الظن أن أصداء من لغة سعيد عقل وإيقاعاته تتسرب إلى مناخات بعض قصائد الشاعر الخليلية، فيما لا تخلو القصائد التفعيلية من ظلال مماثلة لبعض شعراء الحداثة المخضرمين. لكن جذور الشعراء لا تنبت في الفراغ بل في أرض مشتركة أودع فيها السابقون تجاربهم ولغاتهم وعصارات أعمارهم، قبل أن ينفرد اللاحقون بابتكار ورودهم الخاصة في حديقة الإبداع الشعري. ومن الواضح تماماً أن فاروق شويخ لن يخطئ طريقه إلى هذا الهدف.

__________
*الحياة

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *