العقل سجيناًً..



*ألفة يوسف

النقل والعقل في العبادات

تبدو العبادات مبدئيّا من مجال النّقل. فالشّهادة بلغت إلى المسلم نقلا، وشعائر الصّلاة والصّوم والزّكاة والحجّ عُلمت من النّقل. وحتّى الاختلافات الجزئيّة فيها شأن حال وضع الأيدي في الصّلاة، هي متّصلة باختلاف نقليّ. كما أنّه لا يمكن التّمييز بين حجّ بالتّمتّع والإفراد والقران إلاّ استنادا إلى نقل.

ولكنّ هذا البعد الشّكليّ الوصفيّ الشّكليّ للعبادة، على أهمّيته، لا يمثّل جوهر الدّين. بل جوهر الدّين هو ما ينتج عن هذا البعد الشّكليّ من تغيير حال المسلم نحو الأفضل في علاقته مع الله تعالى ومع الآخرين. فالشّهادة عهد من الإنسان لله تعالى يُحاسب عن الغفلة عنه «وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرّيتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين» (الأعراف 7/172). والصّلاة تنشد النّهي عن الفحشاء والمنكر «وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ» العنكبوت (29/45)، والصّوم خير للإنسان لعلّه يتّقي الله «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (البقرة 2/183)، والزّكاة تطهّر الإنسان وماله «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا» (التّوبة 9/103) والحجّ يقوم، فيما يقوم عليه، على غياب الرّفث والفسوق والجدال «فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ» (البقرة 2/197).
وقد اهتمّ عديد الباحثين قديما وحديثا بالأبعاد الرّوحانيّة للعبادات ممّا لا يمكن أن ينفذ إليه الإنسان إلاّ عقلا.

إنّ الصّلاة تتجاوز الأبعاد الشّكليّة، فليس البرّ مجرّد تولية الوجه تجاه المشرق والمغرب. إنّ الصّلاة الخاشعة تفتح بابا يقرّ من خلاله المؤمن بشوقه من خلال الدّعاء إلى الله تعالى يناجيه طيلة حياته دون أن يعرف ما هو له صالح ولا ما هو له مضرّ. إنّ المؤمن يقتصر على أن يقول: «… رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» (البقرة2/201). إنّ الصّلاة في بعدها العميق إقرار بأنّ الإنسان لا يعلم فيما يخصّه شيئا وأنّ العلم لله تعالى وحده.

وليست الزّكاة مجرّد احتساب لنصاب واقتطاع لمبلغ من المال مخصوص، ولكنّ الزّكاة تتجاوز «الحسابات الضّيقة» لتؤكّد أنّ الإنسان لا يملك في هذه الدّنيا شيئا وأنّ الملك كلّه لله تعالى. إنّ الزّكاة تجسّم العطاء جوهرا للوجود البشريّ فتُخرج بالإنسان من مجال الجمع الضّيّق ومن مجال المطالبة الحقوقيّة إلى البحث عن الطّمأنينة في التمتّع بما يهبه الله تعالى لنا سمة على رعايته إيّانا وفي القبول برحيل كلّ ما نحبّ وكلّ من نحبّ.

وليس الصّوم فحسب امتناعا عن الطّعام والشّراب والجنس في زمان مخصوص ولا حتّى امتناعا عن قول الزّور والعمل به فحسب، وليس الصّوم أيّاما يستحبّ فيها وأياما يكره فيها، وإنّما الصّوم تذكير بالقانون الأصلي الذي به يصبح الإنسان إنسانا. والصّوم تذكير بافتقار المرء وانفعال يفتح للقلب باب الاستماع إلى صوت الحقّ فيه.

وليس الحج مجرّد واجبات وأركان يسعى المسلم إلى الالتزام بها بحذافيرها وإنّما هو أيضا سفر يجسّم المخاطرة، مخاطرة الواثق في الحبيب يعرف أنّه لا يتخلّى عنه. وهو سفر يسم رحلة الضّياع شوقا إلى ما لا يكون حاضرا إلا بغيابه…
فإذا كانت الصّلاة إقرارا بأن الإنسان لا يعرف شيئا فيما يخصّه وأنّه يدعو الله تعالى لتنفذ إرادته الحقّ، وإذا كانت الزّكاة إقرارا بأن الإنسان لا يمتلك أي شيء مادّي في الدّنيا، وإذا كان الصّوم إقرارا بأنّ الافتقار جوهر المرء لا يمتلك حتى جسده فضلا عن نفسه، وإذا كان الحجّ إقرارا بأنّ الإنسان لا يمكن أن يعرف الله المعبود معرفة حسّية في رحلة الغياب الجوهريّ، أفلا يكون نتاج هذا كلّه شهادة أن لا إله إلا الله تنبع من قلب المؤمن فتسم موضع الصّدق الحقّ، تقرّ أنّ المرء لا يمتلك في الدّنيا شيئا وإن يكن نفسه، وتقرّ أنّ المرء لا يعرف بعقله القاصر نفسه فضلا عن أن يعرف ربّه، وتقرّ بأنّ الإنسان فقير إلى الآخر المطلق فقرا مطلقا؟

إنّ العبادات من حيث ذاتها الشّكليّة نقل ولكنّها من حيث معناها الجوهريّ مفتقرة إلى إعمال العقل للغوص قي دلالاتها وأبعادها العميقة.

النّقل والعقل في الأحكام

عدد آيات الأحكام في القرآن قليل جدّا بالمقارنة مع سائر آي القرآن، ونعني بآيات الأحكام تلك الّتي تقرّ أحكاما فقهيّة مخصوصة لا تلك الّتي تشير إلى سلوك أخلاقيّ عامّ، وهي عديدة: «وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (النّحل 16/125) «وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا» (الإسراء 17/37). ولكن، حتّى إذا اعتبرنا الآيات ذات البعد الأخلاقي العامّ ضمن آيات الأحكام فإنّ آيات الأحكام سيكون عددها قليلا بالنّسبة إلى آيات القرآن كلّها.

ومن المفارقات أنّ آيات الأحكام هذه قد حظيت باهتمام كبير من قبل الفقهاء ودارسي الإسلام ومن قبل المسلمين أنفسهم. ولئن كان لهذا الاهتمام المفرط أسباب عديدة بعضها تاريخيّ وبعضها نفسيّ، فإنّنا لن نقف عليها لأنّ غرضنا البحث في علاقة الأحكام بثنائية النّقل والعقل.

أوّل ما يتبادر إلى الذّهن أنّ الأحكام لا صلة لها إلاّ بالنّقل. وهذا ما دأب عليه المسلمون في السّنوات الأولى ولا سيّما في حياة الرّسول عليه الصّلاة والسّلام. فقد اعتمد المسلمون على مصدرين أساسيّين للنّقل هما القرآن والحديث. القرآن بصفته النّصّ المؤسّس الأوّل والحديث الّذي كان في هذه المرحلة الأولى منفتحا متحوّلا مرنا. فالرّسول عليه الصّلاة والسّلام كان لا يزال على قيد الحياة، وأمّهات الكتب تنقل العدد المهول من الاستشارات والتّساؤلات الّتي كانت تتّجه إلى الرّسول والّتي نقل القرآن بعضها في سورة المجادلة مثلا. وقد انقطع بموت الرّسول عليه السّلام النّقلُ في مجال الأحكام.

على أنّنا إذا تأمّلنا القرآن والسنّة اللّذين يُقدّمان على أنّهما مصدران للأحكام نقليّان، لوجدنا أنّ لهما وشائج عميقة مع العقل. فأمّا القرآن فباثّه هو الله، وهو تعالى حاضر بغيابه، فالمسلم هو من يخشى الله بالغيب. وأمّا الحديث فقد غاب صاحبه بموته ولم يبق لنا إلاّ نصّ حاول المسلمون ضبطه وتدقيقه.

إنّ القرآن هو، كما يقول عليّ رضي الله عنه، «بين دفّتي المصحف لا ينطق وإنّما يتكلّم به الرّجال». وهذا يعني أنّ تفسير القرآن وتأويله من عمل البشر من مفسّرين وفقهاء وعلماء قرآن وباحثين إلخ…وهذا ما يؤكّده الزّركشي إذ يقول إنّ القرآن « كلام متكلّم لم يصل النّاس إلى مراده بالسّماع منه ولا إمكان للوصول إليه، بخلاف الأمثال والأشعار فإنّ الإنسان يمكن علمه بمراد المتكلّم بأن يسمع منه أو يسمع ممّن سمع منه. أمّا القرآن فتفسيره على وجه القطع لا يعلم إلاّ بأن يسمع عن الرّسول عليه السّلام وذلك متعذّر إلا في آيات قلائل» (البرهان في علوم القرآن). من هنا يتأكّد أنّ التّفسير هو في جوهره عمل عقليّ فكريّ يقوم على استنباط الأحكام وتوليد الدّلالات. وقد تعدّدت مقاربات القرآن وتنوّعت عبر التّاريخ بما يبيّن ثراءه وغناه التأويليّ.

وبعبارة أخرى، فإنّ القرآن هو نَقْل نصّا ولكنّه عقل بالقوّة إذ يخرج إلى مجال التّأويل والتّفسير البشريّين.

والحديث له أيضا نفس الحكم، فهو أيضا نقل. ورغم اختلافه جوهرا عن القرآن إذ لم يُدوّن إلاّ بعد قرنين من وفاة الرّسول (صلى الله عليه وسلم)، فإنّه مع ذلك يظلّ قولا قابلا للقراءة العقليّة إن في حجّيته (بما أنشأ مفاهيم التّجريح والتّعديل وأنواع الحديث المرسل والمنقطع…) أو في معانيه وأبعاده.

من هنا يمكن الإقرار أنّ القرآن والحديث كلاهما مصدر نقليّ بالفعل لا يتحقّق إلاّ بقوّة العقل.

وبموت الرّسول (صلى الله عليه وسلّم) لم تعد هناك صلة بشريّة بالله تعالى، بمعنى أنّه لم يعد هناك وسيط ناقل للوحي. وفي الآن نفسه أدّى تطوّر الحياة وضغط الواقع وحرارته إلى نشأة أسئلة أخرى وقضايا أخرى ولّدت الحاجة الضّروريّة إلى أصول أخرى للأحكام. أهمّها الإجماع، القياس، استصحاب الحال، الاستحسان، العرف إلخ.

وقد كان الشّافعي أوّل من حدّد أصول التّشريع في رسالته الشّهيرة ثمّ توالى الاهتمام بأصول الفقه والكتابة فيها، ومهما تختلف وجهات النّظر إليها وتتعدّد فإنّ ممّا لا ينكره القدامى أنفسهم هو أنّ هذه المصادر هي كلّها عقليّة وإن بدرجات متفاوتة. ودون الدّخول في تفاصيل أصول الفقه، فإنّه يمكننا الإقرار أنّ حوارات الأصوليّين مثّلت مجالا خصبا للمطارحات العقليّة، بما يبيّن أنّ المصادر التّشريعيّة ليست فحسب مفتقرة إلى العقل بل هي قائمة على إعماله. وهذه الحوارات الفكريّة لم تكن تزعج القدامى الّذين كانوا يطنبون في النّقاش والجدل العقليّ. ولعلّهم كانوا حينها واعين بما يحثّ عليه القرآن نفسه من ضرورة النّظر وإعمال العقل: «كذلك يبيّن الله لكم الآيات لعلّكم تتفكّرون» (البقرة 2/266)، «كذلك نفصّل الآيات لقوم يتفكّرون» (يونس 10/ 24)، «وتلك الأمثال نضربها للنّاس لعلّهم يتفكّرون» (الحشر 60/ 21)، «أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها» (محّمد 47/24)..

وقد جسّم بعض الصّحابة تطبيق إعمال العقل هذا، لا ننسى أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قد ألغى ما هو صريح قرآنا من ضرورة منح الزّكاة للمؤلّفة قلوبهم. فالآية الستّون من سورة التّوبة تقول صراحة: «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (التّوبة 9/60). والمؤلّفة قلوبهم أقسام منهم غير المسلم يُعطى من الزّكاة ليسلم ومنهم المسلم يُعطى من الزّكاة ليحسن إسلامه ويثبت قلبه. ومنهم من يُعطَى لما يرجى من إسلام نظرائه. ومنهم من يُعطَى ليدفع عن حَوزة المسلمين الضرر من أطراف البلاد. وذلك باعتماد العقل، إذ تبيّن عمر أنّه إذ قوي الإسلام وانتشر فإنّه لم يعد في حاجة إلى دعم المؤلّفة قلوبهم.

وفي هذا الإطار نفهم قول الرّسول عليه الصّلاة والسّلام: «من اجتهد وأصاب فله أجران ومن اجتهد ولم يصب فله أجر واحد». وقد بلغ المنزع العقليّ مداه مع ابن رشد الّذي أقرّ أنّ «الحسن ما حسّنه العقل والقبيح ما قبّحه العقل» وأنّ «الله لا يمكن أن يعطينا عقولا ويعطينا شرائع مخالفة لها».

وقد ذهب نجم الدّين الطّوفي وهو فقيه حنبلي إلى أبعد من ذلك، فذهب إلى أنّه إذا تعارض النّص مع المصلحة قُدّمت المصلحة على النّص، فإذا قيل هذا افتئات على النّص قلنا: بل هو تحقيق للنّص لأنّ النّصّ إنّما أُنزل ليحمي مصالح النّاس، فإذا قيل: النّصّ أدرى بالمصلحة لأنّه جاء من عند الله أو من عند رسول الله قلنا: النّصّ ثابت والمصالح متغيّرة، وأخذها في الاعتبار اعتبار للنّصّ كلّه وللحديث النبوي القائل: «أنتم أعلم بأمور دنياكم».

النّقل والعقل ومعنى الوجود

إنّ الإنسان في الإسلام، هو خليفة الله في الأرض، وقد نفخ الله تعالى فيه من روحه: «ثمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ» (السّجدة 32/9). وأمر الإنسان موكول إلى الله تعالى. فالإنسان لا يملك نفسه بشهادة قوله عزّ وجلّ:»إنّا للّه، وإنّا إليه راجعون»(البقرة 2/156). وكثيرا ما اهتمّ المسلمون بالجملة الأولى متجاهلين الثّانية وهي أنّ الإنسان هو لله تعالى.

ومن هذا المنظور، ودون كثير تفلسف، نعتقد أنّ الفرق بين المؤمن وغير المؤمن، هو أنّ المؤمن يعتبر أنّ ما يحدث في الكون حكمة في حين أنّ غير المؤمن يعتبر أنّ ما يحصل في الكون مصادفة.

وبعبارة أخرى، فإنّ وجود الإنسان خاضع للعقل، ولكنّه ليس خاضعا للعقل البشريّ المحدود ولكن لعقل مطلق، أو لنستعمل العبارة الشّائعة عند الفلاسفة، فإنّ الإنسان خاضع لحكمة إلهيّة تتجاوز فهمنا النّسبيّ القاصر. وما حكاية موسى عليه السّلام مع الرّجل الصّالح في سورة الكهف إلاّ تمثيل واضح لهذا القصور البشريّ في مقابل الحكمة الإلهيّة المطلقة. لنتذكّر معا الآيات 65*82 من سورة الكهف: «فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا* قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا* قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا* وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا* قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا* قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا* فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا* قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا* قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا* فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا* قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا* قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا* فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اِسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا* قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا* أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا* وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا* فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا* وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا».

إنّ جوهر هذه القصّة القرآنيّة هو الاختلاف في تأويل الحدث الواحد فما يراه موسى شرّا يعتبره العبد الصّالح خيرا.ومردّ الاختلاف بينهما أنّ موسى يقيّم قتل الغلام وخرق السّفينة وبناء الحائط مجّانا وفق معرفته الظّاهرة بالأمور أي وفق معرفته النّسبيّة المنطقيّة، أمّا العبد الصّالح فهو يقيّم الأحداث نفسها وفق معرفة ألهمها إيّاه الله (آتيناه رحمة من عندنا وعلّمناه من لدنّا علما). إنّ الفرق بين موسى والعبد الصّالح أنّ الأوّل لا يعرف من المقام إلاّ بعض عناصره في حين أنّ الثّاني يعرف أكثر ممّا علّمه الله من عناصر المقام. وهذا هو جوهر الفرق بين الإنسان والله، فلا يمكن للإنسان – وقد قصرت معرفته بالمقام عن أن تكون مطلقة – أن يفهم حكمة الله في الكون. وفي هذا الإطار يتسنّى لنا أن نفهم الحديث عن الصّبر في القصّة القرآنيّة، فليس أصل الصّبر سوى صبرنا على جهلنا وعدم قدرتنا على فهم سبب ما قد يبتلينا به الله من ظاهر المصائب. إنّ موسى لم يستطع صبرا على انهيار منظومته المنطقيّة المتماسكة، فكيف يكون في قتل النّفس أو خرق الرّزق خير؟ وكثير منّا مثل موسى لا يصبر على حكمة الله في الكون فيرى في ما يصيب النّاس من نقص في الأنفس والثّمرات والأموال ظلما أو عبثا ولا يعرف أنّنا مهما نتفقّه في شؤون الدّين والدّنيا لسنا بذوي معرفة مطلقة ولسنا من ثمّ قادرين على النّفاذ إلى الحكمة الّتي تسيّر الكون كلّه. لقد ذهب الرّازي إلى أنّ الصّبر على الله هو أرقى أنواع الصّبر، وليس الصّبر على الله سوى صبر على جهلنا وعجزنا عن تفسير ما قد يحلّ بنا من كروب ومصائب، ليس الصّبر سوى الرّضا والقبول بلا فهم لأنّنا بكلّ بساطة لا يمكن أن نفهم.

ومن ضروب الصّبر الصّبرُ على وجود ناس يبدون لنا ضالّين. وهذا ما قد يزعج البعض رغم أنّه من إرادة الله تعالى في الكون إذ «ولو شاء ربّك لآمن من في الأرض كلّهم جميعا أفأنت تكره النّاس حتّى يكونوا مؤمنين» (يونس 10/99).

آثار تغييب العقل

استنادا إلى ما سبق، نتبيّن إذن أنّ معنى العبادات لا يتحقّق إلاّ بالعقل البشريّ (وهذا من مجال الفعل) وأنّ مصادر الأحكام مفتقرة إلى العقل البشريّ (وهذا من مجال الفعل) وأنّ معنى الوجود ممّا لا يعلمه إلاّ الله (وهذا من مجال التّسليم).

هذا جوهر تصوّرنا للإسلام وعلاقته بالعقل. فكيف تغيّر هذا التّصوّر لنصل إلى ما نحن فيه اليوم؟

المشكل في تاريخ المسلمين أنّ هذا المنزع العقليّ بدأ في التوقّف منذ القرن السّادس للهجرة تقريبا حتّى القرن الثّامن بإغلاق باب الاجتهاد وسجن العقل العربيّ المسلم في فلك اجترار الماضي. فابن برهان مثلا يقول: «أصول المذاهب وقواعد الأدلّة منقولة عن السّلف فلا يجوز أن يُحَدّث في الأعصار خلافُها». والغزالي يقرّ: «أمّا الطّبيعيّات فبعضها مخالف للشّرع والدّين». وابن خلدون يبرّر غلق باب الاجتهاد معتبرا أنّه يعود إلى كثرة ما تشعّب من الاصطلاحات والمعارف في العلوم مع تباعد الزّمن، إذ صار من الصّعب الوصول إلى مرتبة الاجتهاد، لذا خُشي أن يمتدّ من هو غير أهل لذلك ممّا لا يوثق برأيه ولا دينه، الأمر الّذي حدا بالفقهاء إلى إظهار عجزهم عن الوصول إلى تلك المرتبة وأوصوا النّاس بتقليد أئمّة المذاهب».

ومهما تكن التّفسيرات والتّبريرات، فالثّابت أنّه شيئا فشيئا، وبتراكم القرون، وصمت الفكر نظرا إلى تغييب البعد العقليّ، أصبحت العبادات شكليّة. وأصبحت الصّلاة لا تنهى بالضّرورة عن الفحشاء والمنكر مثلا، فعاديّ أن تجد شخصا يصلّي ويرتكب عملا إجراميّا أو إرهابيّا. وعاديّ أن تجد شخصا يحجّ، ويغتاب النّاس في بيت الله الحرام أو يلقي الفضلات حوله.

وشيئا فشيئا، بغياب المعنى العقليّ أصبح النّاس يردّدون أقوال السّابقين مثل الببّغاوات دون تفكير بل حتّى دون الاطّلاع على المصادر القديمة. وأصبحنا أقلّ الأمم قراءة حتّى انقطعت مساهمتنا في الفكر البشريّ أو كادت.

هذا فيما يخصّ مجال الفعل، أمّا فيما يخصّ مجال التّسليم فقد غدا بعض معاصرينا من المتطرّفين يتصوّرون أنّهم ظلّ الله تعالى في الأرض وأنّ عليهم إجبار النّاس على اتّباع تصوّراتهم ورؤاهم بالعنف والتّقتيل. وبذلك ابتعدوا، دون وعي، عن جوهر الإسلام الرّوحانيّ الّذي يقرّ بأنّ الله تعالى هو الحاكم لينتصبوا حاكمين بدل الله تعالى محدّدين من المهتدي ومن الضّالّ، خلافا لقوله عزّ وجلّ: «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» (النّحل 16/125)، وقوله تعالى: «ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (النّجم 53/30).

وبابتعادنا اليوم عن المنزع العقليّ في مجال الفعل، وبابتعادنا عن سكينة التّسليم في مجال الرّوحانيّ، أصبحت مجتمعاتنا اليوم «تنتج» أشخاصا يمارسون العبادات شكليّا دون بعد روحانيّ (غياب العقل)، ويردّدون ما قاله الآخرون دون حتّى الاطّلاع عليه (غياب العقل)، ويعتقدون أنّهم هم الفاعلون في الكون بدل الله تعالى (غياب التّسليم).

أليست هذه صفات من يشوّهون اليوم صورة الإسلام باسم الإسلام نفسه؟

إنّنا اليوم في حاجة، أكثر من أيّ وقت مضى، إلى كشف البعد العقليّ في الإسلام وتأكيد البعد الرّوحانيّ فيه بما هما جوهر الرّسالة المحمّديّة وأساس تخليص الإسلام من كلّ الشّوائب الّتي ينشد البعض إلصاقها به والّتي هو منها براء.

معنى العبادات لا يتحقّق إلاّ بالعقل البشريّ (وهذا من مجال الفعل) ومصادر الأحكام مفتقرة إلى العقل البشريّ (وهذا من مجال الفعل) ومعنى الوجود ممّا لا يعلمه إلاّ الله (وهذا من مجال التّسليم).
________
*الاتحاد

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *