(ميريدا، مايا، جبران إلى لمياء وإيرفنغ)


*أدونيس


ـ 1 ـ
كلّا ليست الأرضُ واحدةً، وليست السّماءُ هي كذلك واحدةً.
هناك أرضٌ متعدِّدةٌ، وهنالك سماواتٌ كثيرة.
كلّا، العالمُ عوالمُ، ويجب أن يبقى. دون ذلك، سوف يتحوّل
إلى مُجرَّد سوق،
وتحوِّله السّوق إلى مجرّد كُرةٍ تحوِّله بعدها إلى مجرّد دُمْية.
ـ 2 ـ
ـ جئتَ وجاء معك الشتاءُ الدافئ.
ـ لهذا الشتاء معنى،
وأنا طريدُ المعنى.
ـ 3 ـ
كان جبران حاضراً في ميريدا، في معرض لِلَوحاته، اختيرَتْ من مُقتَنيات مُتحفِه في مكسيكو العاصمة – متحف سُمَيّة كارلوس سليم.
يذكِّرُنا جبران بما يقوله ريجيس دوبريه: «لا يصحّ أن نَصِفَ شخصاً بأنّه مثَقَّف إلا إذا كان لديه مشروعٌ فكريّ»،
وهو إذاً، يذكِّرنا بأنّه لا يصحّ أن نصفَ شاعراً بأنّه شاعر، إلّا إذا كانت لديه نظرةٌ شاملة للإنسان والحياة والعالم،
كمثل ما هو جبران.
غيَّرَ جبرانُ ماءَ الصّورة والمعنى في الثقافة العربيّة، لكي يغسل جسدَ الكتابة، ولكي يُؤاخيَ فيها بين اللغةِ الإنكليزيّة، واللغة العربيّة.
هكذا بدا أنّه ينحدرُ من سلالةٍ لم تُشوَ على فحم التّاريخ.
يؤكِّد معرضُ جبران في ميريدا أنّ هناك أفراداً يصنعهم التاريخ، وأن هناك آخرين هم الذين يصنعونه.
بالنسبة إلى الثقافة اللبنانيّة، يمكن أن نقول إنّ جبران واحدٌ من أولئك الذين صنعوا ويصنعون تاريخ هذه الثّقافة.
وهو في واحديّته كثيرٌ، متعدِّد. في الكتابة وطرقها. في الرسم والتصوير وآفاقهما. وهو، هنا وهناك، مُبدِعٌ وفريد. مبدِعٌ كذلك في ابتكار لغة الحريّة والنِّضال من أجل التحرُّر والتقدُّم.
يخترق جبران في إبداعاته كلّها الوقائعَ والأحداث، متخَطِّياً راهنيّتها ناظِراً إليها بعين الحركة التاريخيّة، بعين المستقبل خصوصاً حيث يبدو وكأنّه يخاطب العصورَ كلَّها. هكذا يتحوّل هو نفسُه إلى رمزٍ فكريّ وحياتيّ في التحرُّر من جميع القيود التي تُقَزِّم الإنسان وتكبح طاقاته الحيويّة الخلّاقة.
بتأثيرٍ من وِلْيَم بليك ونيتشه، وبتأثيرٍ من التصوّف العربيّ، أدخَل جبران إلى الكتابة باللغة العربيّة ما يمكن أن نسمّيه بنزعة الاستشراف التي تنهض على مفهومات الرّؤيا والحدْس والعين الثالثة والقلب الثّاني.
بالرّؤيا والحدْس يتمّ استشرافُ المستقبل. بالعين الثالثة تتمُّ رؤيةُ ما لا يُرى. بالقلب الثاني تتمُّ معرفة ما لا يمكن أن يُعرَف بالطّرق العقلانيّة أو بالمنطق.
وفي هذا الإطار، نجد لجبران تلامذةً ومُريدين يرَوْن فيه معلِّماً لهم، ومُرشِداً في حياتهم وفكرهم على السَّواء.
هكذا يبدو جبران في عالم الثّقافة اللبنانية – العربية رمزاً مزدوجاً للتحرّر في الكتابة والعمل معاً.
التحرّر في الكتابة من القيود المرتبطة بالتقاليد – مضموناتٍ وأشكالاً تعبيرية،
والتحرّر في العمل من الطّغيان في جميع تجلّياته – السياسيّة والاجتماعيّة.
وكان المَزْجُ عند جبران بين النبوّة والتمرُّد، قد فتح للتأمّل أفقاً جديداً في الثقافة العربيّة لم تعُد فيه النّبوّةُ قائمةً على تقديم الأجوبة، وإنّما أصبحت هي نفسها مسكونةً بالقلَق والتّساؤل والبحث. ولم يعد التمرُّد مجرّد عُنْفٍ، وإنّما أصبح موقفاً ثقافيّاً، جذريّاً وشاملاً، في العمل من أجل مصيرٍ أبهى، وحياةٍ أعمقَ إنسانيّةً.
هذا المَزْجُ أكّدَ، إضافةً إلى هذا كلِّه، أنّ المُبدِع في ميادين الفنون المُتنوِّعة، لا بدّ من أن تكون له رؤية خاصّة لمشكلات الإنسان والعالم، وأن يصدرَ تِبعاً لذلك عن موقفٍ أصيلٍ متفرِّدٍ، في جميع كتاباته وأعماله. هكذا يخلق اتّجاهاً أو تيّاراً أو حركة ويُسهِم عُمقيّاً في بناء الإنسان والعالم.
منذ بدأ جبران حياتَه الكتابيّة، هجرَ لاهوتَ التّأثيم، وهاجَرَ في مجهولات الغرب، يستأنِسُ بالأسئلة، بعيداً عن سماءٍ لم تكن إلّا رأساً متورِّماً، ينتفخُ بأكداس الأجوبة.
وكانت العروبةُ قد بدأت تتحوّل بفعل السياسة والتّبعيّة إلى مجرّد مكانٍ مُتَرْجَمٍ في آلة السّلطة، وإلى مجرّد أسماء تُنكِرُها مُسَمَّياتُها. ولم تكن هذه هي المرّة الأولى في تاريخ العلاقة بين الاسم والمُسَمّى.
وكان جَرَسُ الحكمة السياسيّة العربيّة قد قُرِع في رأس عنكبوتٍ الْتَهَمَتْه عشيقتُه وتركت على قبره هذه العبارة :
«كذبَتْ عليّ حياتي،
ولم أعرفْ ذلك إلّا بعد أن اكتشفتُ أنّني حيٌّ.»
ـ 4 ـ
اهبطْ أيّها الليلُ المكسيكيّ، آتياً من المُحيط
لكن لا تنسَ أن تضعَ على وجهك حجاباً من كتّان مايا.
ـ 5 ـ
هل كثرةُ المسافرين تُفسِد السّفَر؟
في رأس كلّ مسافرٍ، وهمٌ يمكن وصفُه بأنّه نباتيٌّ ومُثمِر.
وهمٌ يبدو كأنّه هو نفسُه الذي يتحرّك ويسير ويجلس.
وهو نفسه المسافِر.
الحالِمُ الوحيد في السّفر هو السّفرُ نفسُه.
كم هي عاليةٌ جبالُ التوهُّم. وما أوسع محيطات الحلم، تلك التي تحملها المطاراتُ على أكتافها.
يمكنك في خضَمّ المطارات أن ترى أرنباً له ذيلُ طاووس، وأن ترى كركدنّاً يحتضِن غزالةً.
أعترف أنّ الصّمتَ جرّني وراءه طويلاً طويلاً في مطار مكسيكو. شكراً لذلك الصّخَب الذي يرجُّ أعماقي والذي فهِمَ الأمرَ، وصمَتَ هو أيضاً.
لا أرى مَن يتحدّث حقّاً مع جراح العالَم.
الزّمَنُ يتنكّرُ في قارورةٍ في كرسيٍّ متحرّك.
والمياه تتأوّه تحت حديد السّفُن في المحيطات.
توسَّلوا إذاً للضّوء لكي يُطيلَ إقامتَه على هذا الكوكب المَريض.
ـ 6 ـ
سألْتُ ميريدا:
– ما الموت؟
أجابَت بلسان مايا:
– ليس أكثرَ من جرحٍ، بليغٍ أحياناً، في جسد الحياة.
– ما الحياةُ إذاً؟
– ليست أكثرَ من نشوةٍ عابرةٍ في جسد المادّة.

ـ 7 ـ
عندما استيقَظَتْ مايا، سمّتِ الحياةَ باسمِ الشّمس،
وعندما نامَتْ سمّتِ الليلَ باسْمِها.
وفي كلِّ مكانٍ،
ترَكَتْ للحزْنِ بيتاً يجرُّه وراءه أينما ذهبَ.
(ميريدا، المكسيك، 22 كانون الثاني 2016)
__________
*الحياة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *