*أمير تاج السر
منذ ثلاثة أعوام، أو ربما أربعة أعوام، لا أذكر بالتحديد، حصلت رواية قصيرة للإنكليزي: جوليان بارنز، على جائزة «المان بوكر» العالمية، متفوقة على روايات كثيرة، كانت من دون شك، خصبة ومزدحمة بالعوالم، وبالطبع لا بد من عوامل كثيرة ساعدت على منحها تلك الجائزة الرفيعة، منها الحظ الجيد، وذائقة المحكمين الذين كانوا موجودين تلك السنة.
لقد قرأت رواية بارنز وبدت لي رواية تقليدية، بمعنى أنها من تلك الروايات التي اعتاد الغربيون على كتابتها، وتجد عوالمها في روايات لبول أوستر، ونيل جايمان، وأريك ماريا، وغيرهم من كتاب الغـــــرب، وحتى في روايات إيطالية وإسبانية، حيث تبدأ الحكايات في الغالب من المدرسة، في صف للطلاب، فيهم أصدقاء يكونون شلة منضبطة، يهتمون بالعلم، أو غير منضبطة، يوقدون الفوضى ويتحرشون بطلاب أصغر سنا، أو حديثين في المدرسة، ثم يذهب الحكي بعد إلى البيوت والشوارع، وأماكن التبطل.. وإلى علاقة الآباء بأبنائهم، والأبناء بمجتمع أوسع من المدرسة، هكذا..
لقد كنت طيلة حياتي، ومن سن مبكرة، قارئا للآداب، ولي ذائقة خاصة بي، مثل أي قارئ آخر، تكونت على مدى سنوات، وكما أقول دائما، فأنا أحتفي بكتابات الخيال التي تأخذ من الواقع شيئا، وتعطيه أشياء لم تكن عنده، أحتفي بمن يمنحني الماء من زير فخاري، من دون أن يرسم لي الزير وكوب الماء الذي يدلى بداخله، من يمنحني كوبا من اللبن، ويجعلني أتخيل من أي ثدي تم حلبه، مثلا، ومن يوصلني إلى مسرح للأوبرا، ولا يقول بأن المغني كان أبله، بل يتركني أتخيل ذلك من طريقة وقفته وأدائه، ومن يجعلني أخمن بأن كل الأحداث التي لم تكتب في النص، ممكنة ما دامت ثمة مساحات أستطيع تعبئتها بنفسي.
بهذا التذوق الشخصي، دخلت إلى أعمال كثيرة، ومنها رواية بارنز: إحساس بالنهاية. كان العنوان موحيا بشدة، لكني لم أتحمس للرواية كثيرا، ومؤكد يوجد من تحمس لها، وأعني من يحملون ذائقة تقدر الواقعي الصرف، بعيدا عن أي خيال محتمل، وبالطبع من منحوها جائزة كبيرة مثل «المان بوكر».
هذا الكلام لا يعني أن الرواية سيئة، ولا يعني أنها غير ناجحة، وعندي رأي آخر وهو أن أي عمل يكتب مهما كان بعيدا عن النضج، فهو عمل ناجح في نظر البعض، وفاشل في نظر البعض الآخر، ومن تجربة لي في قراءة المخطوطات، والكتب التي لا أعرف مؤلفيها، وتجذبني عناوينها الفاخرة، اقتنيت رواية ضخمة وبدأت أقرأها وعرفت من الصفحات الأولى أنها ليست كتابة على الإطلاق، لأنه لا حدث صادفني ولا وصف لمكان، ولا تستطيع أن تعرف إن كان هناك أمل في قصة أم لا؟ ثم بحثت عن اسمها في الإنترنت، ووجدت من تحدث عنها في دراسة نقدية، واصفا إياها بالرواية التي ستغير وجه الكتابة العربية، ولم أستغرب، فقد كان الطرح متماشيا مع رأيي.
أيضا قرأت لكاتبة عربية، كتب عنها كلام جميل ومن نقاد مهمين، وكانت تتحدث في نصها عن قرية منكوبة، وزواجات وطلاقات وعقم، وولادات بعد سنوات من الزواج، والرواية في مجملها هكذا، مقتطفات من هنا وهناك ولا قصة تتكئ عليها القراءة، إضافة إلى أن النص كان مطبوعا بأحرف صغيرة، تستهلك البصر، فتركته ولم أكمل.
أتحدث قليلا عن رواية «موعظة لسقوط روما»، للفرنسي جيروم فيراري، التي حصلت على جائزة غونكور الفرنسية المرموقة منذ عامين، وكنت شغوفا لقراءتها، وعثرت عليها مؤخرا، في الكويت أثناء زيارة لي هناك. لقد بدأت الرواية بشخص يتأمل صورة عائلية، لأهله، لم يكن هو داخلها، بسبب عدم ولادته في وقت التقاطها، والرجل يذهب بعيدا ويعود لوصف حالة الولد الذي لم يكن في الصورة ومشاعره، وسبب عدم وجوده في الصورة، ثم يعرج الحكي بعد ذلك، على مكان موحش فيه مشرب تعمل فيه فتاة اسمها حياة، ويأتي الصيادون خشنين وعرقانين، وبذيئين بصحبة كلابهم، ليكتشفوا اختفاء الفتاة، التي فرت بحثا عن حياة أخرى.
كانت بداية موحية ومشجعة للاستمرار، لكن سرعان ما ندخل في زمن الطفولة، والأسرة والحي والمدرسة، وتلك التفاصيل الموجودة في أي عمل غربي، وهكذا لن يكتمل الحماس للرواية وسأقرأها، لأنني لا بد أن أقرأها، ما دامت عُدّت رواية مهمة.
بالنسبة لرواية: «ميرسو- تحقيق مضاد»، للجزائري كمال داود، التي ترجمت للعربية بعنوان هو: «معارضة الغريب»، باعتبارها نصا ولد لإيضاح ما لم تقله رواية الغريب لألبير كامو، فهي أيضا من الروايات التي نجحت بشدة، وتم تداولها بلغات عدة، في زمن قصير، ووصلت للقائمة القصيرة لجائزة غونكور الفرنسية، وبالطبع هذا نصر لكاتب يكتب لأول مرة، ونصر لأي كاتب حتى لو كان أكمل مشروعه الكتابي.
الرواية كفكرة، جيدة جدا، فكم من الروايات لم تكتمل أحداثها المتخيلة، أو لم تتوسع، وربما تحتاج لإيضاحات جديدة. ورواية «ميرسو» تفعل ذلك، تأتي باسم الضحية العربي وأخيه ووالدته، وتقترح حبيبات له، كن يبكينه، ورجالا كان يصادقهم.
ويصافحهم أو يضطهدهم، وكل ذلك كتب في عمل قصير فيه بعض المتعة، لكنها غير مكتملة في رأيي، أي أن متابعة حكاية ضحية الغريب، بحاجة لمتابعة هي الأخرى. لذلك، كل عمل يقرأ، وكل عمل يصل لمن يستقبله بحفاوة شديدة، ومن يمنعه حتى من طرق باب التذوق. إنها الحكايات العادية لدهاليز الكتابة، الحكايات التي لا بد منها.
_________
*القدس العربي