مغلق بسبب أعمال الصيانة


*بسمة النسور



إذا تمكّن الواحد منا من التحكم بانفعالاته طول الوقت، والبقاء هادئاً وقوراً لا يخرج عن طوره مره واحدة، بحجة التماسك ورباطة الجأش والتسامي وقوة التحمل، مؤجلاً فيضانات روحه، مرة تلو أخرى، إلى حين ميسرة، وكفَّ، على نحو مفاجئ، عن الدهشة والشغف والتوق والرغبة في التحدّي والابتكار، وظل محافظاً في جميع الأحوال والمقامات على تلك الابتسامة (الجوكرية) الباردة والمحايدة، منزوعة الدفء والمعنى، مشهراً إياها في وجه المحيطين به على اختلاف طباعهم، وتباين مشاعره نحوهم، واستمرأ الوتيرة المسالمة لكلماته الوديعة الودودة والإيقاع المنخفض لنبرة صوته، مقنعاً نفسه بأن ذلك أقل إزعاجاً للآخرين، واستعذب السير ملاصقاً (الحيط)، متوهماً أن ذلك سوف يؤدي إلى السلامة والنجاة والوئام والمحبة والسلام.
لم يعد دمه مؤهلاً للفوران، انتصاراً لحق مهدور، واكتراثاً لمصير مظلوم، وغضباً لروح تزهق غيلة، وأوطان تنهب. ووضع رأسه باستسلام بين الرؤوس، ونام ليله الطويل، حائزاً رضى جميع الأطراف وقبولها ومباركتها على تناقضاتها، محافظاً على توازنه النفسي، مكتسباً قدرة على كتم غيظه إلى الأبد، إذا أصيبت شهية الحلم لديه بالتوعك، وانتاب العطب مفاصل مخيلته، فكفّت عن التحليق، وأصبح أقل حدة وحرارة، مبدياً مقداراً من المرونة والانفتاح والتقبل والانسجام مع ما كان يُصنف في مفردات منظومته الأخلاقية من الكبائر، إذا عجز الواحد منا عن التعبير ببساطة عما يجول في خاطره من هواجس وأفكار، واضطر إلى استخدام مفردات إضافية لشرح ذاته، حتى لأقرب الناس إليه، تلافياً للاهتزاز الذي قد يعتري صورته أمام الآخرين، المتواطئين بدورهم على انتهاج نمط معين في التعامل، مبني على أسس لفظية مجردة، سرعان ما تسقط عند أول امتحان عملي، بسبب المواربة والالتفاف على الحقائق، عوضاً عن مواجهتها بشجاعة، فيعمد إلى التحايل بكل الوسائل الممكنة، كي يتفادى إزعاج الأصدقاء غير المعتادين على الوضوح والمباشرة، كونهم يتحسسون من الحقيقة، ويرهبونها ويفضلون الالتفاف عليها، بمزيد من المجاملات التي تؤكد الجفاء المسكوت عنه، إذا توقع الجميع منه الموافقة، والإقرار لكل ما يصدر عنهم من أقوال وأفعال ومواقف وأمزجة، من دون التفكير بإبداء رأي مخالف أو ملاحظة أو إيماءة قد تخدش أوهامهم المتأصلة حول امتلاكهم مفاتيح الحكمة والمعرفة حصرياً، فيتقن دور المستمع المحترف الذي يجيد هز رأسه، كلما لزم الأمر، من دون أن يجرؤ على المقاطعة، حتى لو كانت بهدف النحنحة البريئة المحايدة، إذا تواطأ مع من يقترفون الكذب نهج حياة وسلوكاً يومياً مجانياً، وتظاهر بتصديقهم من باب اللباقة الاجتماعية والحرص على مخيلاتهم المريضة المتعطشة إلى مزيد من الاستعراض، وتردد في مواجهة من يرتكب بحقه سلسلة من الإساءات، وتغاضى واستهان، وأبدى مقداراً غير مبرر من التسامح، تفادياً لتعكير الأجواء، غير الصافية أصلاً.
إذا أصيب الواحد منا بأيٍّ من هذه الأعراض المؤسفة الفتاكة، أو بكل تلك الأعراض مجتمعة، عليه، أولاً، أخذ نفس عميق، لأن الحالة صعبة للغاية، وتتطلب منه الانفراد بنفسه مدة ليست قصيرة، ومحاكمتها، بشكل عادل ونزيه وموضوعي، ومساءلتها بحزم عند ثبوت الخلل، للوقوف على الأسباب التي دفعت به نحو خراب الروح ودمار البنية النفسية. عليه التأمل فيما يعتري روحه من رضوض وتشوهات وكدمات، باحثاً عن أنجح الوسائل لاستعادة براءتها الأولى، حرة كريمة طامحة مقاومة عنيدة، ويحثها باتجاه الجانب المشرق منها، حيث الصدق والشجاعة والحرية والوضوح وعزة النفس التي لا تقبل الضيم، وإلا فليعتزل القوم، معتذراً عن إغلاق الطريق، بسبب أعمال الصيانة.
______
*العربي الجديد

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *