*رشا المالح
محدودة هي المعزوفات التي استطاعت، عبر تاريخ فن الموسيقى، الارتقاء إلى مكانة وروعة السيمفونية الخامسة للموسيقار الألماني لودفيغ فان بيتهوفن (1770 1827)، ففي هذه المقطوعة لم يقتصر إبداع بيتهوفن على ابتكار لغة موسيقية لا نظير لها في أصالتها وقوة تأثيرها في كل الأزمنة، بل في إخراجه الموسيقى من حدود قاعات الحفلات إلى عالم أوسع حال بأفكار الإنسان وتجاربه. وبرهنت السيمفونية الخامسة على مدى ما يفوق الـ 200 عام، أن الموسيقى تملك القوة على تغيير طريقة حياتنا وتفكيرنا. وتعد بذا، لغة إمتاع وتأمل.
دفع إعجاب الكونت أوبرسدورف، الشديد، في السيمفونية الرابعة التي كلف بيتهوفن بكتابتها، إلى تكليفه أيضاً، كتابة سيمفونية أخرى، ذلك مقابل 500 فلورينس، أسوة بالمقابل المادي للسابقة. ومنح هذا التكليف الموسيقار، فرصة إعادة جمع مسوداته لبعض الجمل الموسيقية، التي كان قد خطها ما بين عامي 1804 و1806، ليقرر بيعها إلى الناشر بريتكوف وهارتيل، بعد إنجازها.
واستغرق بيتهوفن في كتابتها أربع سنوات، ابتداءً من ربيع عام 1804. وكانت تلك، المرحلة الأكثر ازدهاراً في فنه. ومن بين مقطوعاته الأخرى التي لا تزال حاضرة في زمننا المعاصر، سيمفونيتاه: الرابعة والسادسة، كونشيرتو البيانو الرابع، كونشيرتو الكمان، الجزآن الأولان من الأوبرا الوحيدة التي لحنها “فيديليو”. وكانت هذه الأعمال وغيرها، التي كلف بها، أطالت زمن إنجازه للسيمفونية الخامسة، والتي كتب معظمها ما بين 1807 و1808.
خيبة.. فنجاح
كان العرض الأول لهذه السيمفونية، وكذا للسيمفونية السادسة في 22 ديسمبر 1808، على مسرح “دير وين” في فيينا، وشمل البرنامج، عزف كونشيرتو البيانو الرابع.. وبعض المقطوعات الأخرى لبيتهوفن. وكانت تلك السابقة الأولى من نوعها. وللأسف، لم يحقق العرض النجاح المتوقع، خاصة أن عازفي الفرقة كانوا من الدرجة الثانية..إلى جانب عامل البرد القارس في فترة العرض.
لكن هذا الفشل لم يستمر أكثر من عام ونصف العام، إذ سرعان ما حازت السيمفونية الخامسة لبيتهوفن، الانتباه والإعجاب، تحديداً بعد المقالة الطويلة التي كتبها الناقد والموسيقي والروائي الألماني، إرنست ثيودور هوفمان، حولها. إذ أشار إلى قدوم عهد جديد من الإبداع الموسيقي. وفيما يلي مقتطف مما ورد في المقالة: “حزم من الشهب تضيئ بوميضها سواد الليل، لنعي من حولنا هيمنة أشباحٍ عملاقة تتأرجح إلى الأمام والخلف..
والتي تطبق علينا حتى تدمر كل شيء فينا، باستثناء وجع حنين لا ينتهي لكل لحظة متعة انبثقت فينا من ارتفاع النوتات وانخفاضها. ويحاول هذا الألم الذي يستنزفنا، دون تدميره للحب والأمل والسعادة، الانفجار في صدورنا مع صدوح صوت الأنغام بعصف من المشاعر، التي نعيشها ونبقى أسرى روحانياتها”.
الحركات الأربع
ومن الأسباب الأخرى لنجاح وشعبية هذه السيمفونية، أنها اختزلت كل ما في أسلوب بيتهوفن الموسيقي، ومن ضمنها عنصر “الذروة”، حيث بدت الحركات الأربع في حالة تصعيد للوصول إلى لحظة درامية، على خلفية إيقاعه المميز لثلاث ضربات قصيرة مقابل واحدة طويلة، وهو ما منحها شمولية ووحدة. ومع مضي الزمن، اكتسبت السيمفونية الخامسة مكانة رفيعة، إذ عزفت في حفل افتتاح برنامج فرقة “نيويورك فيلهارمونيك” عام 1842، وغيرها.
الصمم والإبداع
في هذه المرحلة، في الفترة القريبة من توقيت إنجاز السيمفونية، بدأ بيتهوفن يعاني ضعفاً متسارعاً في حاسة السمع، ويرجح البعض أن حالة الضعف هذه ساهمت في تأجيج ألحان سيمفونيته.
أما قصته مع الصمم فلم يعرف بها بداية، سوى أصدقائه المقربين، البعيدين جغرافياً.. والذين كانوا يعيشون في بون في ألمانيا. وحين لم يعد باستطاعته إخفاء صممه، استخدم بيتهوفن الورقة والقلم للتواصل مع الآخرين. وفيما يلي مقتطف من مراسلاته عام 1801، التي تصور تأزم حالته المرضية: “بالطبع، عاهدت نفسي على الترفع عن أية صعوبات، ولكن كيف أتمكن من ذلك مع الصمم؟”.
لم يكن صمم بيتهوفن مفاجئاً.. إذ تطور تدريجياً، أما مأساته، فتمثلت في إدراكه عدم توفر أي علاج لحالته. وبلغ مدى سوء حالته، أن وصل مرحلة الصمم الكامل في عام 1818.
وأرجع بيتهوفن سبب معاناته، كما ورد في إحدى رسائله إلى صديق عام 1801: “لا بد أن أسباب حالتي تعود إلى بيت الداء معدتي، والتي، كما تعرف، كانت متشنجة في حالة دائمة، وتزداد سوءاً. وطلب مني فرانك أن أتناول الأدوية التي تحفظ التناغم في جسمي، ومحاولة استعادة سمعي باستخدام زيت اللوز. وللأسف لم يكن من العلاج أي جدوى”.
النوتات الأربع
استخدمت النوتات الأربع الأولى من سيمفونية بيتهوفن الأشهر في عالم الموسيقى، بعد الحرب العالمية الثانية، كعلامة للنصر. ذلك نظراً للشبه بينها وبين شيفرة مورس الخاصة بكلمة الانتصار، وكان لآخرين تفسير مختلف، إذ عنت لهم المقدمة، حتمية مصير القدر.
سيرة بيتهوفن
ولد الموسيقار الألماني لودفيغ فان بيتهوفن، الذي يعد أحد أبرز عباقرة الموسيقى، عام 1770، في مدينة بون. ويعود إليه، الفضل في تطوير الموسيقى الكلاسيكية. وألّف أول مقطوعة موسيقية حين كان في الثامنة من عمره. وبدأت تراجيديا بيتهوفن مع المرحلة الأولى من فقدانه السمع، بينما كان في الثلاثينات من عمره، ما دفعه إلى تحدي إعاقته بإبداع المزيد من الأعمال الخالدة.
ومن أجمل أعماله، السيمفونيات: الخامسة والسادسة والتاسعة. ووافته المنية في فيينا، عام 1827، بعد أن كان قد استقر هناك. وتشمل مؤلفاته للأوركسترا، تسع سيمفونيات، مع خمس مقطوعات موسيقية للبيانو، ومقطوعة للكمان، إلى جانب تأليف العديد من المقطوعات الموسيقية التي كُلف بها مثل مقدمات للأوبرا.
في الفن
1999
أمضى الفنان المعاصر والمخرج السينمائي الأميركي، بيكسوت هانت، الذي أخرج فيلم الرسوم المتحركة “فانتاسيا 2000” لوالت ديزني عام 1999، قرابة العامين، في ابتكار قصة متخيلة من وحي النوتات الأربع الأولى من السيمفونية الخامسة، التي مدتها ثلاث دقائق. إذ تعتبر مقدمة ذاك الفيلم. واستلهمت القصة من إيقاع ديناميكي لألوان الباستيل التي شكلت غيوماً وشلالات.
في تلك النوتات تتجلى قوة الصراع الأزلي بين الخير والشر، ومن ثم استلهمت أشكال المثلثات التي تعكس الجهتين. واستلهمت حركة مثلثات الشر من الخفاش بألوانه الداكنة، أما مثلثات الخير من الفراشات بألوانها المشرقة.
في السينما
1930 الفيلم السريالي الكوميدي الفرنسي “عصر الذهب”، الذي كتبه الفنان سلفادور دالي وأخرجه لوي بورنيل.
1934 فيلم الرعب الأميركي “القط الأسود”، للمخرج ادغار جي أولمر الذي حقق نجاحاً استثنائياً.
1936 الفيلم الفرنسي “حب بيتهوفن الأكبر”، من إخراج إيبل غرانس.
1956 الفيلم الأميركي (1984)، المقتبس من رواية جورج أورويل. وأخرجه ميكائيل أندرسون. ومن بطولة إدموند أوبريان.
1958 فيلم “قطة على سطح صفيح ساخن”، للكاتب المسرحي الأميركي تينيسي وليامس. ومن إخراج ريتشارد بروكس، الذي مثّل فيه النجمان: اليزابيث تايلور وبول نيومن.
1994 الفيلم الأميركي البريطاني “المحبوب الأزلي”، الذي يتناول قصة حياة الموسيقار لودفيغ بيتهوفن، من خلال صديقه المقرب أنطون شيدلر، لكاتب السيناريو والمخرج بيرنارد روز.
2003 الفيلم الأميركي “بيتر بان”، للمخرج بي جيه هوغان.
_______
*(البيان)
تحياتي للمشرفين على هذا الموقع وتفديري العميق. لأول مرة أطلع على الموقع وأنهل من هذه المقالات العميقة والسلسة.
عبدالله جناحي/مملكة البحرين.