*ترجمة – ميسرة عفيفي
ريونوسكيه أكوتاغاوا عملاق الأدب الياباني وصاحب الـ «راشومون» أشهر قصة يابانية في العصر الحديث، التي أخذ المخرج الشهير أكيرا كوروساوا اسمها وجزءاً منها مع قصته الأخرى «في غابة» أو«في علم الغيب»، ليصنع منهما ذلك الفيلم الرائع «راشومون»، الذي حاز جائزة الأسد الذهبي لأحسن فيلم في مهرجان فينسيا السينمائي عام 1951، وجائزة الأوسكار التقديرية للعام نفسه كأول فيلم ياباني يفوز بهاتين الجائزتين. وُلد أكوتاغاوا عام 1892م، أي في العام الخامس والعشرين من عصر ميجي، أي بعد ربع قرن من بداية حركة التحديث والتنوير اليابانية، التي بدأت بإعادة الساموراي مقاليد السلطة والحكم إلى الإمبراطور. درس أكوتاغاوا الأدب الإنجليزي بجامعة طوكيو الإمبراطورية، وبدأ في الكتابة والنشر وهو لا يزال طالباً بالجامعة. يقول عنه أحد أصدقائه، إنه كان يستطيع قراءة ألف صفحة يومياً. انتحر أكوتاغاوا في سن الخامسة والثلاثين، وهو في أوج مجده بتعاطي كمية كبيرة من الأقراص المنومة. بعد موته بثماني سنوات، أطلق صديق عمره الكاتب والناشر «كان كيكوتشي» جائزة أدبية باسمه، لتصبح أشهر جائزة أدبية في اليابان. هذا وقد ترك أكوتاغاوا ما يزيد على المئتين وخمسين عملاً أغلبها قصص قصيرة. وتعتبر أعماله قمة الأعمال الأدبية اليابانية التي كُتبت في بدايات القرن العشرين والتي لا يزال لها بريقها ورونقها حتى الآن. في هذه الأقصوصة يصنع أكوتاغاوا عالماً سحرياً عبارة عن سيرة ذاتية وخيال أصيل. (المترجم).
____
هل كان ذلك قبل الثورة؟ أم بعدها؟
لا، بالتأكيد لم يكن قبل الثورة. والسبب في أن ذلك الأمر لم يكن قبل الثورة هو أنني أتذكر بوضوح أنني سمعت دعابة دانتشينكو عنها في ذلك الوقت.
في ليلة حارة جوها مشبع بالرطوبة والأمطار الكثيرة، كان صديقي المخرج المسرحي T يجلس في الشرفة العليا للمسرح الإمبراطوري ممسكاً في يده كوباً من المياه الغازية متحدثاً إلى دانتشينكو. نعم دانتشينكو، ذلك الشاعر الضرير ذو الشعر الذهبي.
«إنه تغير هائل حقاً. أن تأتي فرقة الجراند أوبرا الروسية كل هذه المسافات لتقيم عروضها في طوكيو».
«سبب ذلك أن البلاشفة متطرفون».
كان ذلك الحوار، على ما أتذكر، بعد مرور خمسة أيام من الافتتاح، وهي الليلة التي صعدت فيها كارمن على خشبة المسرح. كنتُ شديد الإعجاب بإينا بورسكايا التي كان من المفترض أن تلعب دور كارمن. كانت إينا واسعة العينين ذات أنف صغير مشدود وجسد طاغي الحس. وبالطبع كنت أتلهف شوقا لرؤية إينا في دور كارمن. ولكن عندما ارتفع الستار عن الفصل الأول لم تكن إينا هي من تقوم بدور كارمن. كانت الممثلة التي تقوم بالدور فقيرة الحس بعينين زرق وأنف نافر. أحسسنا، أنا وT بخيبة أمل هائلة ونحن جالسون في ذات الشرفة فيما صدورنا تصطفق في بدلات «التوكسيدو» الرسمية.
«كارمن ليست إينا المفضلة لدينا».
«سمعتُ أن إينا اليوم في راحة. والسبب في ذلك رومانسي جداً».
«ماذا حدث؟»
«يبدو أن مركيزا من الدولة الإمبراطورية القديمة جاء في إثر إينا ووصل طوكيو أول أمس. ولكن إينا في غفلة منه أصبحت الآن في كنف تاجر أميركي. ويبدو أن الماركيز عندما عرف ذلك أصيب باليأس فانتحر ليلة أمس بشنق نفسه في غرفته في الفندق».
وأنا أستمع إلى هذه الحكاية تذكرت أحد المواقف؛ في وقت متأخر من الليل كانت إينا تلهو بأوراق لعب «الكوتشينة» يحيط بها عدد من الرجال والنساء بغرفة من غرف أحد الفنادق. كانت إينا التي ترتدي زيا باللونين الأسود والأحمر تبدو وكأنها تقرأ الطالع على طريقة الغجر، قالت وهي تبتسم لـ T: «دعني هذه المرة أقرأ لك حظك»، أو ربما قالت. (إذ لم يكن أمامي، بالطبع، أنا الذي لا أعرف من اللغة الروسية إلا كلمة «دا» غير الاعتماد على ترجمة T الذي يتحدث اثنتا عشرة لغة.) وبعد أن قلبتْ ورق اللعب ونظرت اليه قالت:
«أنت أكثر سعادة من هذا الرجل. ستستطيع الزواج بمن تحب».
كانت تقصد بعبارة «هذا الرجل» رجلاً روسيّا يقف بجوارها ويتحدث مع شخصٍ آخر. ومن سوء الحظ أنني لا أتذكر وجه أو هيئة وملابس «هذا الرجل».
الشيء الضئيل الذي أتذكره هو زهرة القرنفل التي كان يضعها على صدره. ألا يكون «هذا الرجل» هو من أنهى حياته منتحرا بسبب فقدانه حب إينا؟…
«معنى هذا أنها لن تصعد على المسرح هذه الليلة!»
«حسنا ألا نخرج من هنا لنشرب كأسا»؟
بالطبع كان T كذلك، من أشد معجبي إينا.
«تريث، دعنا نشاهد فصلاً آخراً ثم نذهب».
على الأرجح كان الوقت الذي تحدثنا فيه مع دانتشينكو هو أثناء الاستراحة بين الفصلين.
استمر معنا الملل في الفصل التالي كذلك. ولكن بعد جلوسنا على مقاعدنا بخمس دقائق تماماً دخل الشرفة المقابلة لنا من الجهة الأخرى خمسة أو ستة أجانب تتقدمهم إينا بورسكايا بلا أي شك. جلست إينا على المقعد الذي يوجد في مقدمة الشرفة، وبدأت تراقب خشبة المسرح، وهي تستخدم مِرْوَحة مصنوعة من ريش الطاووس. ليس هذا فقط، بل إنها كانت تتحدث وتضحك بمرح ومتعة مع مرافقيها الأجانب (من المؤكد أن بينهم سيدها الأميركي).
«إنها إينا».
«حقاً، إنها إينا».
ولم نغادر شرفتنا حتى آخر فصل حيث يحتضن خوسيه جثة كارمن وينهار باكيا، وهو يصرخ: «كارمن! كارمن!».
والسبب، بالطبع، أننا كنا نشاهد إينا بورسكايا أكثر من مشاهدة الأوبرا. كنا نشاهد كارمن الروسية التي لا يهمها مطلقا أنها قتلت «هذا الرجل».
***
بعد ذلك بيومين أو ثلاثة كنت أجلس ليلا مع صديقي T على طاولة في أحد المطاعم.
– هل لاحظتَ أن إينا منذ تلك الليلة تضع ضمادة على خنصرها الأيسر على ما أتذكر؟
= أجل أعتقد أنها كانت تضع ضمادة.
«بعد عودة إينا إلى غرفتها في الفندق في تلك الليلة…»، قلت مقاطعاً صديقي T:
«توقف! لا يجب عليك شرب هذا». فقد كان في داخل الكأس الذي عكس ضوء المكان الخافت حشرة جعران صغيرة ملقاة على ظهرها وتحرك أرجلها. سكب صديقي نبيذ العنب الأبيض على أرضية المحل. وأكمل حديثه بملامح مستهجنة:
«قامت بتكسير صحن خزفي بطرقه على الحائط واستخدمت شقفتين منه بديلاً عن الكاستانيت غير عابئة بالدم الذي يسيل من إصبعها..».
– وهل رقصت مثل كارمن؟
وعندها جاء إلى طاولتنا نادل أبيض الشعر بملامح وجه لا تلائم مطلقا حماسنا وهياجنا ثم وضع طبق السالمون فوق الطاولة بهدوء…
(10 أبريل من العام الخامس عشر لعصر تايشو الموافق لعام 1926 ميلادية)
_____
*الاتحاد الثقافي