*نوري الجراح
“عشرة أيام هزت العالم”. بأربع كلمات اختطف الصحافي الأميركي جون ريد أبصارنا نحن الشباب، لنقرأ في السبعينات والثمانينات يوميات أميركية عن الأيام العشرة الأولى من عمر الثورة الاشتراكية الروسية التي اندلعت في أكتوبر 1917 واحتلت مكانها في صفحات التاريخ تحت عنوان كتب دائما بالأحمر العريض “ثورة أكتوبر”. يعتبر هذا الكتاب اليوم من كلاسيكيات ما يسمّى بالأدب الثوري.
الأصل في هذه الاستعادة لكتاب جون ريد، هو عدد الأيام التي بدا معها أن ثورة كبرى قد وقعت وها هي تنتصر. يوميات ريد تجعلنا نقف على ذلك اليقين المبكر من أن هذه الثورة ستغير وجه العالم. فهي كما أراد لها منظروها الثورة التي اهتدت بأفكار كارل ماركس لبناء نظام جديد ينهي الرأسمالية، ويقيم نموذجا بديلا أكثر عدالة وإنسانية.
التاريخ في ما بعد قال كلمات أخرى؟ فما أن انقشع رماد الحرب العالمية الثانية التي طحنت رحاها 56 مليون قتيل حتى تبين للعالم أن نموذجين من الرأسمالية باتا يتقاسمان مجتمعات الكرة الأرضية: الرأسمالية الحرة ممثلة بالغرب والمجتمعات الدائرة في فلكه. ورأسمالية الدولة ممثلة بالاتحاد السوفييتي والصين والدول الدائرة في فلكهما. أما الحلم الطوباوي للنخب العالمية الهائمة وراء فكرة العدالة القصوى، فقد تحول إلى كابوس أسود مديد، أفضل من عبر عنه جورج أورويل في كتابه المفزع “1984”.
جذوة تونسية
بالمقابل وقعت الثورات العربية بدءا من نهاية السنة 2010، عندما أحرق الشاب محمد البوعزيزي نفسه، وأحرق مع جسده النحيل ستارة المسرح العربي، لتدور الأحداث منذ ذلك اليوم على مسرح من دون ستارة. فصول متعاقبة وأيام بلا عدد، من تونس إلى مصر إلى ليبيا وسوريا، فاليمن. وقائع دامية في أيام وأسابيع وشهور فسنوات، والحريق الذي أشعله البوعزيزي بجسده الفقير أشعل المشرق العربي كله، وخلخل بنية الاستبداد، ثقافة وسياسة واجتماعاً. لم يكن رد البنية القروسطية المتسلطة على المجتمعات عقلانيا، ولا متهاونا، فجرى الدم في الشوارع أنهاراً.
وعندما لم تهدأ ثائرة الناس ولم يتراجعوا عن نهضتهم لمغادرة الماضي وطلب المستقبل، لم يعد أمام كهنة كهف الاستبداد الشرقي إلا أن يفتحوا صندوق العجائب ويطلقوا ما فيه فإذا بها حيات وعقارب ووحوش مفزعة خرجت من جوف الظلام وراحت تلتهم الأخضر واليابس، وشعار من أطلقها نحن أو لا أحد. ما يزال القاموس العربي عاجزا عن إيجاد مسميات للوقائع اللامعقولة لما جرى ويجري. لهذا على أنه الظلام بلا شك يريد أن يستعيد إلى كهوفه ضحاياه الهاربين إلى النور.
ولكن من أين يأتي الضوء؟ وكيف يمكن لطالبي الخلاص أن يفوزوا به؟
نطرح هذا السؤال ونحن نرقب كيف تحول ما رَغِبَ العرب أن يطلقوا عليه اسم “الربيع″ إلى أزهار دامية، وما اغتبطوا لولادته في زمانهم وبمشاركتهم من حراك اجتماعي سلمي لأجل الخلاص من طغيان القرون الوسطى، إلى همجية ما بعد حداثية عابرة للجغرافيات وهازئة بالحدود، ألغت التجمعات السلمية لصالح الحواجز المسلحة، ونصبت ميزان عدالتها في ساحات قطع الرؤوس.
وقعت ثورة أكتوبر في العشرية الثانية من القرن العشرين، ووقعت الثورات العربية في أوائل العشرية الثانية من القرن التالي عليه، وبين الموعدين قرن من الثورات المتعاقبة لعل أبلغها وأكثرها تأثيرا في ثقافة العالم هي الثورة الطلابية الفرنسية، وأسوأها إطلاقا هو الانقلاب الخميني على الثورة الشعبية الإيرانية، والذي سرعان ما أحدثت نتائجه الكارثية شرخا عميقا في جسد العالم العربي، وتسبب للعالم بحروب عربية إيرانية وعربية عربية لم تتوقف إلى اليوم، وامتد تأثيرها الكارثي إلى جسد الثورات العربية ففتك بها، وحوّلها عن مساراتها التي كادت تكون طبيعية، وأن تساهم في أنظمة حكم مجتمعات طبيعية.
أيام وأيام
بين أيام جون ريد العشرة التي هزت العالم، والأصح قسمته إلى عالمين، وأيام العرب التي لم تهزّ أحداً سوى العرب، فطالت وصارت سنوات، قرن من الأفكار والأيديولوجيات والأوهام التي لم يكن للعرب نصيب حقيقي لا في إنتاجها ولا حتى في استهلاكها.
لم يختبر المثقفون العرب لا قدراتهم العلمية، ولا قدراتهم الفكرية. استهلكوا بشكل رديء منجزات العلم، وجلّها كان غربياً، واعتنقوا الأفكار والأيديولوجيات كأديان نهائية مطلقة القدرات، وهذه أيضاً هبّ بها على الشرق هواء غربي. ظن عرب القرن العشرين أنفسهم عرباً، وكان كل شيء فيهم غربياً، إلا عداؤهم الأيديولوجي للغرب وكان صادراً عن غريزة لقحتها أيديولوجيات شائهة لم ينقصها التشوف العنصري الفارغ، جمعت نفسها من كل واد عصا.
وطوال الوقت كانت المجتمعات متروكة لقسوة الضرورات ورحمة المصادفات، فبنت ثقافتها من إرث سائب ومتناقل في المشافهات اليومية ومن تجارب يومية أثمرت نتائجها حكمة هنا وعبرة هناك. في ظل مجتمع أبويّ شرقي خرج للتوّ من شرواله العثماني، وراح يتلمس الطريق إلى صورته العربية، لتصدمه الأبوية الاستعمارية الغربية، ولا تلبث متغيرات ما بعد الانتداب أن تتركه مكشوفا ومضطربا وحائراً أين يتجه وكيف يتجه، من دون قرّاء مخلصين من بين المثقفين للتجارب المجتمعية، يضيئون الطريق، فـ”ينبّهون الناس ويرفعون الالتباس″، والسبب أن هؤلاء (النخبة الحداثية) غالبا ما كانوا ينضجون في قدور الفكر الغربي، أو ينامون في عسل الكلام الاشتراكي، في وقت بات العربي معه أقرب إلى أن يعتقد مع من أراد له أن يعتقد أن كل ما يأتي من الغرب هو شر مطلق، وكل ما يمكن أن ينتجه المعسكر الاشتراكي هو الإلحاد. وليس لكم والله إلا حظيرة الاستبداد الشرقي، ما دمت الراعي وما دمتم القطيع. فأنتم رعيتي. وما دمت الأب والأخ الأكبر.
والواقع أن هذه الصيغة البهيمية من الاستبداد والتي اشتقّت نفسها من أنانية الفرد وجشعه في الرأسمالية، وخضوع الجموع في الاشتراكية. واستهلكت نصف قرن من البشر، قامت على فكرة سحيقة القدم تفيد بإلغاء الفرد ودفنه في المجموع انطلاقا من فكرة التضحية بالواحد لأجل الكل، ثم تدوير الفكرة نفسها، بدفن الكل في ظل الواحد الأحد وهو الحاكم المطلق بصورته العملاقة التي تزيّن ساحة المدينة.
وعبر نصف قرن من تحويل الإنسان إلى بهيمة، ودفن العقل في الغريزة، وفرم الفرد في مفرمة المجموع وإنجاب الرعاع من الأرحام المبتهجة بطلعة الأخ الأكبر، وقتل الجمال في الأرحام، بات في وسع هذا الظل الانقلابي للإله على الأرض أن يقول لمثقفيه ورعاعه المتكاثرين وقد تقاطروا من كل شق في الجدار العربي معتصمين بحبل الخوف: أنا ربكم الأعلى، وأنا حاميكم من الاستعمار والرجعية وكذلك من الأكثرية التي طالما كنتم أقليتها مهيضة الجناح، لو غفلتُ عنها لحظة لانقضّت عليكم وسلبتكم كل ما جنيتموه بفضلي، وبات لكم.
مثقفو المتاهة
لاحقا سيجري استثمار هذه الثقافة المبنية على “تخويف” الأقليّة من الأكثرية وتحريضها عليها، لتخريج دفعات جديدة متلاحقة من أبناء الأرياف والهوامش ليكونوا الرعاع الأكثر انحطاطا ووحشية من كلّ ما عرفته حركات الانهيار الأخلاقي في المجتمعات المستلبة والمأزومة، والأداة العمياء في يد المستبد. إنها بلا شك الصورة الأكثر جلاء للنكوص الإنساني من شمس العقل إلى ظلام الغريزة.
خلال نصف قرن من التيه العربي في صحراء الهزيمة والتعملق وزّع المثقفون العرب أنفسهم، ومعها أمزجتهم المتعالية على أهلهم المتروكين لأنياب الديكتاتور، على شتّى المتاهات: متاهة الصراع الفكاهي مع إسرائيل، متاهة الصداقة الحمقاء مع الإيرانيين، متاهة الحداثة اللغوية والتخلف العلمي، وغيرها من المتاهات، في ظل ديكتاتورات قوميين عرب رفعوا شعارات وحدة الأمة وحريتها وكرامتها، ومشوا في طريق آخر، إلى أن وصل الأمر ببعضهم أن تصرف كمحتل غاز يؤثر تحطيم البلاد وتشريد أهلها والقضاء على كل حياة فيها، على أن يسلِّم لهؤلاء بحقهم في الاختيار. وشعاره الذي لا يحاسبه عليه أحد: أحكمكم أو أقتلكم. أنا أو لا أحد.
إنه الفرد المسخ المتعملق، وقد مكّنه استقواؤه بالغزاة الخارجيين أن يتوّج على شعبه غازياً.
في الحكمة الآسيوية، الهادئ سيد المضطرب. ولا تقدم للعرب ما لم يتوقفوا عن الاضطراب أمام المحن والخصوم والمهمات التاريخية. ولكن كيف يمكن لهم هذا وهم شعوب ما عتمت منفعلة بوقائع عصرها أكثر منها شعوبا فاعلة. وأمّة باتت على يأس من عروتها الوثقى، وعلى شكّ حتى في هويتها وثقافتها؟
تلك هي الصورة، الآن، بعد خمس سنوات من أعمال الأمل واليأس، وبعد قوافل الضحايا ومعهم جيوش من مجرمي الغريزة العمياء الذين ولدتهم ثقافة الاستبداد، وأقامت منهم سداً منيعا بين كهوف الظلام، وأرض النور، لتؤخر الأجيال الجديدة عن تحقيق أشواقها في الخلاص من قيود وعثرات المجتمع الأبوي، وبناء مجتمع الذات في تعددها واختلافها.
ما العمل إذن، بعد خمس سنوات عاصفة ودامية، تعرضت خلالها الجغرافيات العربية لزلازل وبراكين داخلية، وغزوات من قوى إقليمية في الخارج استهدت إسقاط المشروع العربي، الذي طالما قامت لأجله الثورات وكانت جزءا من ثقافته المنتجة لهويته منذ ثورة ذي قار وحتى الثورة العربية الكبرى، مروراً بعشرات الثورات. فهل نحن في طور جديد يقتضي العودة إلى السؤال الأصلي، الذي طالما تجنبنا طرحه، عن مفهوم الثورة، ومعانيها ودلالاتها، في الثقافة العربية وما إذا كانت فكرة التغيير غريبة على العرب، أم أنها جزء طبيعي من حراك المجتمعات وثقافاتهم عبر التاريخ، وما من سبب جوهري يجعل مجتمعات العرب تشذّ عن هذه القاعدة.
ولكن ما العمل
وبتدقيق أكبر، فإن العرب، منذ ثورة الإسلام قسّموا أنفسهم على مفهومين للثورة، الأول يعتبرها تجديدا وإصلاحا، والثاني يعتبرها مجرد خروج على الحاكم والإجماع والاستقرار. وهذا الانقسام يشمل إلى اليوم الناس والنخب معا. لكن النخب وحدها تتحمل مسؤوليته. حتى إن أمثولة الحسين بن علي (ثورة أو خروج) هي مسألة ثقافية تاريخية لم يجر حلّها حتى اليوم في الوعي العام.
أخيرا لا بد من القول إن استمرار هذا الإشكال الثقافي التاريخي حتى لحظة “الربيع العربي”، كان وما يزال في أصل ما وقع من تشققات في جسد الحراك الفكري العربي. والهدف من طرح هذا السؤال، هنا، هو ما نراه من ضرورة إعادة مفهوم الثورة إلى جذره الثقافي من باب الحاجة إلى خوض عملية فكرية تاريخية جديدة تفكك هذا المفهوم وتعيد بناءه في الفكر والاجتماع العربيين.
الثورة لأجل المستقبل استحقاق حتمي في تاريخ المجتمعات، وإعادة النظر المطلوبة عربيا للخروج من المأزق الحضاري، تحتم علينا القول بأن لا ثورة صناعية، ولا ثورة تنموية، ولا ثورة علمية، ولا ثورة اقتصادية، ولا حقوقية، من دون أن يمتلك العرب أفرادا وجماعات حريتهم وإرادتهم عن طريق ثورة فكرية شاملة تطال كل مكونات الوعي العربي المعاصر. وهذا يحتم علينا نحن العرب أن نتوقف عن الخوف من مفردة الثورة، والانتقال بها من حيز التحريم في قاموسنا الذهني إلى حيز التفكير.
_______________
*العرب