سايكولوجيا الجماهير وسايكولوجيا السلطة


*د. حسن مدن


في الدراسات التاريخية والاجتماعية الجديدة ثمة دعوة إلى دراسة أثر الانفعالات القوي في تشكيل الأحداث، التي هي، من وجهة نظر الباحثين، علة تتصرف في الوقائع، حين تصبح مشاعر مثل الغضب والكراهية والخوف قوى تاريخية، حين يتم الانتقال من فردية الشعور إلى انفعال الجماعات.
ويبدو لنا أنه من المهم الاستعانة بمهارات علم النفس الاجتماعي في تحليل ظواهر معقدة يشهدها عالمنا العربي في لحظتنا الراهنة. صحيح أن الكثير من هذه الظواهر هي ظواهر مركبة، لها أكثر من وجه، كما هي مثلاً ظاهرة توجه قطاعات واسعة من الشبان العرب للالتحاق بالتنظيمات المتطرفة والتكفيرية، ولن يفلح هذا المنهج وحده في الإحاطة بأوجهها المتعددة، ولكنه سيسعفنا بالتأكيد في فهم ما الذي يجعل قطاعات واسعة من الشبان العرب الغرين ينساقون إلى أفكار مثل هذه الجماعات، ولا يتورعون عن التورط في جرائمها، وتحويل أجسادهم إلى قنابل ومتفجرات توقع الموت في العشرات والمئات من الأبرياء.
في حينه أثار كتاب غوستاف لوبون: «سيكولوجيا الجماهير» اهتماماً واسعاً، كونه سلّط الضوء على علم نفس الجماعات، ونقل دائرة البحث من مجرد الاهتمام بميول الفرد وتناقضاته وعُقده، إلى رؤية تجليات ذلك في الجماعات الكبيرة، أو الجماهير، حسب عنوان الكتاب، والحق أن هذا الكتاب ما زال وسيظل من أفضل ما كتب في هذا المجال.
ويُفيدنا علم النفس الجماعي ويضيء عقولنا عندما يشرح لنا جذور تصرفاتنا العمياء والأسباب التي تدفعنا للانخراط في جمهور ما والتحمس أشد الحماس للزعيم فلا نعي ما فعلناه إلا بعد أن نستفيق من الغيبوبة وربما جعلنا ذلك أكثر حيطة و حذراً في الانسياق وراء زعيم جديد قد يظهر.
في دراساته عن طبيعة المجتمع العراقي، سعى علي الوردي من جانبه للتمييز بين مفهوم ازدواج الشخصية في علمي النفس والاجتماع، فالازدواج، من وجهة نظر علم النفس، هو مرض يصيب بعض الأشخاص جراء عوامل وظروف مروا بها في نشأتهم أو في حياتهم عامة، أما ازدواج الشخصية من وجهة نظر علم الاجتماع فهو، حسب الوردي، ظاهرة اجتماعية تنجم عن تأثير المتضادات الثقافية على الفرد، ما يجعلها قابلة للتحول إلى ظاهرة مجتمعية.
ولو عدنا لغوستاف لوبون لرأيناه يقول إنه ما إن ينخرط الفرد في جمهور محدد حتى يتخذ سمات خاصة جديدة أو لعلها كانت موجودة فيه، لكنه لم يكن يجرؤ على البوح بها أو التعبير عنها بمثل هذه الصراحة والقوة، حين يتماهى مع الجماعة التي تسوغ له المحرمات.
يمكن أن يسعفنا إبن خلدون في دراساته عن العرب، كقومٍ أو أمة، في الاقتراب من علم نفس الجماعات في مقدمته الشهيرة، رغم أنه يبدو في الظاهر أقرب إلى التحامل في تشخيصه لطبائع العرب، الذين وصفهم بـ «أصعب الأمم انقياداً لبعضهم للغُلظة والأنفة وبُعد الهمة والمنافسة في الرئاسة، فقلما تجتمع أهواؤهم، ومن أجل ذلك لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوءة أو أثر من دين على الجملة».
وقد حاول البعض من منتقدي ابن خلدون أن يردوا هذا الحكم إلى زعمٍ، لا يوجد ما يسنده حقيقة، إلى أصول أمازيغية مفترضة للرجل، جعلته حاداً في نظرته لشخصية العربي، ولكن هذا الاعتقاد، حتى لو صحَّ، يقف عند السطح، ولا يذهب إلى عمق الأمور، فابن خلدون في نهاية المطاف عربي اللسان والثقافة والتكوين، وهو نتاج الحضارة التي تربى في كنفها ونهل من مصادرها، والمتعين هو البحث عما وراء ألفاظ هذا التوصيف التي تبدو حادة، للوقوف على ما هو جوهري فيه.
أغلبية من درسوا المقدمة واستعانوا بمنهجها في أبحاثهم من المفكرين العرب، مثال علي الوردي في المشرق ومحمد عابد الجابري في المغرب، لم يكن بوسعهم، وهم يدرسون مجتمعاتهم العربية، الخروج على توصيفات ابن خلدون للعرب، لكن هناك من لم يسلّم بأحكامه بسهولة، خاصة طه حسين، الذي جادله في الأمر، واستشهد بأقوال مستشرقين أوروبيين، يرون خلاف ما رآه.
لكن جدل طه حسين يتصل بالموقف من تقييم الحضارة العربية الإسلامية عامة، أكثر مما يتصل بالصفات السيكولوجية لشخصية العربي، التي حاول ابن خلدون ردها إلى المنشأ البدوي للعرب. وابن خلدون الشغوف بدراسة العمران البشري، رأى في الطباع التي صدرنا بها هذا الحديث، التي يجدها مستقرة في نفس العربي ما ينافي هذا العمران ويناقضه، لأن «غاية الأحوال العادية كلها عندهم، أي عند العرب، هي الرحلة والتغلب، وذلك مناقض للسكون الذي به العمران ومنافٍ له».
حين نمعن النظر في «الخراب» العربي الذي يعم مناطق شاسعة من دنيا العرب، والخراب هو نقيض العمران، كلمة السر الخلدونية الأثيرة، ألا يمكن لابن خلدون أن يسعفنا في فهم أنفسنا وما إلنا إليه، ففي هذا الفهم باب معرفة طريق الخروج من المأزق.
ويعلم ابن خلدون المؤرخ في الأصل أن «جينات» أي أمة قابلة للتطور والتحوير تبعاً لتطور مساراتها في التاريخ، لذا ما من صفات مخلدة أو أبدية للعرب أو سواهم، لكن ما نقص وينقص العرب هو الرافعة الحضارية التي تحقق هذا التحوير، وقد نشأت عند انطلاقة الإنتفاضات والهبات العربية قبل خمس سنوات، التي أطلق عليها، مجازاً، مصطلخ «الربيع العربي»، حالة نفسية غير مسبوقة عاشها الناس في كل أقطار العرب، تتمثل في شعور بالنشوة والأمل في تحقيق انعطافة في حياة مجتمعاتنا، كأن هذه الجماهير كانت تريد أن تنتقم، ولو في دواخلها، من عقود من الكبت وتغييب الحريات والحط من الكرامة الإنسانية.، فحلت هذه الحال النفسية الجديدة محل حال الانكسار والخيبة والإحباط التي سادت لمراحل طويلة، تشكلت خلالها مظاهر الخنوع والخضوع والتسليم بالأمر الواقع، وفقدان الأمل في تغييره.
أذكر أن أستاذ الطب النفسي المصري الدكتور أحمد عكاشة قال في حوار تلفزيوني أُجري معه حينها مُعلقاً على تلك اللحظة التاريخية بالذات ان الشعب المصري كان، يومها، في أفضل حالاته النفسية، برغم ما كانت تمر به البلد من مصاعب، لأنه بات متوحداً حول هدف كبير.
حول هذه النفسية الجديدة التي تعيشها شعوبنا قيل الكثير، لكن، وعلى صلة بما يجري حالياً، مُفيد التأمل في مصطلح أطلق عليه الباحث العربي سالم القمودي: «سايكولوجيا السلطة»، وأفرد له كتاباً صدرت طبعته الثانية منذ عقد ونيف، كأنه ينقلنا من دائرة التفكير في سايكولوجيا الجماهير، حسب كتاب غوستاف لوبان إلى رؤية الجانب الآخر من الأمر: سايكولوجيا السلطة.
وحسب القمودي فانه مثلما ندرس سايكولوجيا الطفل والرجل والمرأة، ومثلما ندرس سايكولوجيا الجماعات والشعوب، علينا ان ندرس بحماس مشابه سايكولوجيا السلطة، فهي تمتلك من الأدوات والوسائل ما يمكنها من التأثير في كل السيكولوجيات الأخرى، بل إخضاعها والسيطرة عليها. ولكي نفهم ما شاهدناه ونشاهده من عناد السلطات وأساليب مناورتها، ومراقبة مهارتها في لعبة العض على الأصابع المعروفة جيداً في تراثنا العربي، علينا ألا نكتفي بالبحث في العوامل السياسية وفي حجم المصالح والمنافع المكتسبة التي تجعل السلطات تفعل ما تفعل، وإنما علينا أيضاً أن نستعين بعوامل التحليل النفسي، لرؤية مجمل الدوافع التي تحكم هذا السلوك.
وقد طالعت في كتاب يروي سيرة نابليون صدرت ترجمة له في جزءين عن المجمع الثقافي في أبوظبي، بعض المواقف التي تسعفنا في فهم سايكولوجيا السلطة، ففي عام 1804 قال نابليون لأحد أقرب المقربين إليه: “إن السلطة هي خليلتي أو رفيقتي، لقد بذلتُ جهوداً فائقة في هذه الفتوحات تجعلني لا أسمح لأحد أن يأخذها مني أو يبعدها عني أو حتى يرنو إليها أو يشتهيها”. ويُنسب إليه أيضاً قوله: «إني أحب السلطة كما يحب الموسيقي كمانه». وقال أيضاً: «إنني لا أعيش إلا للأجيال القادمة.»
لقد استحوذت عليه فكرة المجد، ولكي يظهر قوته وقسوته وصلابته قال: «أنا لا أحب أحداً، إنني حتى لا أحب أخوتي. أعلم جيداً أنه لا أصدقاء حقيقيين لي، فطالما أني مستمر على ما أنا عليه، فإنه يمكنني أن أحتفظ بعدد كبير من الأصدقاء الظاهريين كما أشتهي. دع رقة الشعور للنساء فتلك مهمتهن، لكن الرجال يجب أن يكونوا رابطي الجأش ذوي أهداف محددة، وإلا تخلو عن أهدافهم في الحرب والحكم».
هذه المؤشرات والأقوال قد تسعف الدارس لنفسية وسلوك الديكتاتور، أي ديكتاتور في العالم، لأن نابليون على خلاف الكثير من الطغاة، كان صريحاً وصادقاً وهو يشرح ما يؤمن به أو يحسه ويقدم توصيفاً لشخصيته.
ليس نابليون وحده من كانت له هذه المهارات. للسلطة غريزة تنميها الممارسة، وتستقى من الحياة، لا من الكتب. يقال أن محمد علي باشا أمر بترجمة كتاب «الأمير» لميكافيللي، من الإيطالية إلى العربية لكثرة ما سمع عنه، كمعين للحاكم في إدارة الرعية، ولشدة شغفه بالتعرف على ما جاء في الكتاب أمر المترجمين موافاته أولاً بأول بكل فصل ينتهون من ترجمته، فما أن إطلع على ترجمة أول فصل أو فصلين، حتى أمر بايقاف الترجمة، وقال في ذلك قولة شهيرة: أنا أفهم في السياسة أكثر مما يفهم مؤلف الكتاب.
_______
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *