حرب السلطة والدولة في مصر


عباس بيضون *


ما يجري في مصر هذه الأيام عجيب، مصر التي لم تخرج عن طورها أكثر من ستين عاماً وانضبطت أتمّ انضباط في عهود ثلاثة، هي الآن أم العجائب، لا نقول انها تخرج عن طورها بل نقول اننا ما عدنا نعرف لها طوراً. كل يوم تتحفنا مصر بجديد. كل يوم بالضبط يمكن ان تتحفنا بمفاجأة. بقيت الثورة سلمية إلى ان أطاحت بالنظام المتأسس منذ أكثر من ستين عاماً، بعد ذلك دخلنا في نوع من الشجار الأهلي، عنف لا يغدو بعشرات القتلى حرباً وسلم مسلح وقابل للعنف، سلطة حزبية تمارس في علن كامل حزبيتها وترفد الشرطة بميليشيا حزبية تقريباً وأخونة تتم جهراً وتواجه في كل المواقع وخاصة الجيش بردود تصد وفي الأقل باستنكار صريح. وبالطبع ثمة قرارات لا تسري ومراسيم لا تمر، هجوم من الحزب الحاكم يقابله هجوم من قوى لا نعرف كيف نشأت ولا كيف صارت قادرة على الهجوم، لكن لا نشك في انها قوى قائمة تتعدى التنظيمات والأحزاب الحديثة التكوين غالباً وتنفذ إلى الشارع وتجد لها هناك عصبية أكيدة ونزوعاً هجومياً، يجعلها تتصدى للحزب الحاكم العريق ولميليشيا الضاربة في عقر داره، ولا تبالي بأن تغير عليه في مراكزه وهو الضارب في الحياة المصرية منذ ما يقارب القرن، هذا الهجوم، الذي لا يمكن حصره في منظمات نشأ معظمها منه زمن قريب، عمره لا يزيد كثيراً عن عمر الثورة، هو بالتأكيد أول الأعاجيب في بلاد حبلى بالأعاجيب ولا يبدو ان لها نهاية. لا نزال نتعجب من نشوء هذا الشارع المضاد للإخوان والسرعة التي تكون فيها، والزخم الذي أمكن به خلق شارع وتكوين عصبية وإيجاد كتلة شعبية وخطاب معارض وسياسة مضادة. كل هذا تكون في غضون حراك لم يعرف لحظة راحة وهدوء وما يزال يتفاعل ويضطرم ويولّد. عدد لا نعرفه من الأحزاب والحركات والجماعات مندمج في هذا الحراك المعارض، ورغم ان هذا العدد لا ينتظم بالتأكيد ولا يندمج، والكلام لا يتوقف عن تبايناته واختلافاته، الا انه أمكن مع ذلك بهذا العدد وفي حميا الحراك والفعل اليومي إنتاج خطاب معارض وفرز حدود واضحة بين السلطة والمعارضة. بل أمكن نقل هذا التباين إلى ما بدا لزمن طويل عمدة الإخوان وآلتهم. أي إلى الدين نفسه فغدا للدين وللإسلام مفهوم غير الذي للإخوان، وتصارعت هذه القوى مع الإخوان على فهم الدين وتأويله.
لا يزال كل يوم يأتي بجديد في تعبئة الشارع المعارض ويضيف إلى خطابه ويرسخ قواعده ويفتح له وجهة وأفقاً، انه تسييس متزايد وانخراط أكبر وتثقيف يومي، الانفجار الذي دوى منذ عامين لم يتوقف من حينها يوماً وما يزال منذ ذلك الوقت مسترسلاً متكاملاً متصلاً. وإذا عجبنا من شيء فإننا نعجب من هذا الزخم الذي لا يبدو انه مشارف على نهاية، ومن سرعة التموقع والمواصلة اليومية. ما كان شيء من قبل في مصر التي نعرف ينبئ بهذه النتيجة وما كان شيء ينذر بهذه الخصوبة والمثابرة والهجوم. لقد أمكن لا إيجاد شارع مضاد فحسب بل هلهلة الحزب الحاكم وهلهلة سلطته وإفقادها بشكل منتظم كل ادعاءات الدولة؛ التعالي فوق الصراعات، والشمول والشرعية. فما يجري في مصر اليوم ليس هلهلة الدولة بل إنكارها على الإخوان واثبات ان الإخوان في الدولة لا يتصرفون بحسبها ولا يملأون فحواها ولا يعرفون حدودها ولا يملكون تنزهها. انما هم جماعة تستبد بالجماعات وعصبة تستبد بالعصب وفئة تنازع الفئات الأخرى وتنتزع منها وتسطو على مرافقها وتحتكر السلطة والمصالح والمنافع، عندئذ يبدو حراك الشارع المضاد انتصاراً للدولة على العابثين بها، ورداً لها إلى تعاليها وتنزهها وتوسطها بين الصراعات.
ربما لهذا يبدو الصراع المصري الحالي صراعاً بين السلطة والدولة، أو فلنقل أن معركة القضاء مع سلطة الإخوان تشير إلى طبيعة الصراع، القضاء المصري الذي كان الركن الباقي من الدولة التي تواترت على نهبها السلطات، منذ ان قررت السلطات المتعاقبة إخلاء الحياة السياسية واحتكار السياسة وتحويلها إلى فولكلور حكومي. كان القضاء هو، على توالي هذه العهود، القائم مقام دولة غائبة، منذ قام انقلاب 1952 وعهد السادات وعهد مبارك كان القضاء هو الذي يحتضن الشرعية ويواجه الاغتصاب والعسف بالقانون. لم تعمد العهود المتلاحقة إلى اغتيال القضاء فقد كانت تجد فيه شرعيتها الغائبة. ففي بلد في حجم مصر وتاريخها السياسي والاجتماعي والاقتصادي لا تمكن الغفلة عن إيجاد شرعية ما للحكم. لكن القضاء صار يفضل هذا التمثيل قوة حقيقية، لقد احتال على كل العهود وجابهها لكنها كانت تتجاوزه وتتخطاه. لقد بقيت للقضاء كلمته وولاؤه للقانون وكان يمارسهما كما يرى ويقدر، كان القضاء في معركة دائمة، معلنة أو خفية مع السلطات حتى إذا جاءت الثورة حررته وأطلقته، ولما حاول الإخوان كغيرهم من العهود السابقة اغتصاب السلطة كان القضاء، وهو الركن الباقي من الدولة، موجوداً هنا للدفاع عن الدولة.
لقد صارت الدولة في مكان والسلطة في مكان آخر، السلطة في مكان والشرعية في مكان آخر. هنا كانت البادرة للقضاء ليثبت ان معيار الدولة ومعيار الشرعية هو القانون. هكذا تحول القانون إلى قوة وإلى سلطة وإلى شرعية ولم يستطع الإخوان في هذه المعركة ان يفعلوا سوى مزيد من انكماش السلطة واحتباسها واحتكارها. لم يفعلوا سوى تكرار النموذج القديم الذي وجدوه جاهزاً لكن المسألة لم تعد بهذا اليسر. لم يبق التعايش بين دولة مكبوتة وسلطة جامحة ممكنا وسهلاً. لم يعد ممكنا ان تنتظر الدولة وينتظر القانون وتنتظر الشرعية إلى ان تستدعي من هامشها ويعرض عليها أمر لتكون عندئذ الدولة ولتقول كلمتها. لقد حررت الثورة القضاء، ذلك يعني ان القانون عاد سيداً. ذلك يعني ان الدولة لم تعد مجرد هامش في السلطة، لم تعد صورية ولا اصطلاحية، لم تعد مجرد إرث للشرعية او رمز لها. لقد غدت الدولة مطلباً ما دامت إزاحة الطغمة الحاكمة والمافيا الحاكمة والسلطة الطاغية هي مطلب الثورة. قالت الثورة انها تريد حكم الشعب وحكم القانون وحكم المؤسسات، أي انها تريد الدولة، هكذا انتقلت المعركة إلى داخل الجهاز، هكذا قام القضاء ليحاسب ويحاكم ويتحقق من السلطة، السلطة الإخوانية التي تحتذي العهود الماضية تشغل السلطة لكن القضاء باسم الدولة يرفع القانون باسم الدولة، القضاء الذي حكم بسجن رئيس الوزراء عاماً يحاسب السلطة على تعديها وعلى تزويرها للقانون، يجبرها على ان تخضع للدولة.
معركة كهذه ليست جديدة على العالم. أمامنا المثل الايطالي وأمامنا المثل الكولومبي وأمامنا أمثلة أخرى على الصراع بين القضاء وبين الطغمة، على تركز الدولة في القضاء ومحاربة القضاء باسمها وباسم الشرعية لتجاوزات السلطة ولعبها على القانون. ما يجري في مصر حرب داخل المؤسسات لكن تجري داخل المؤسسات وخارجها. حين تسيّر السلطة مليونية ضد القضاء فإن الحرب تغدو في الخارج، تغدو حرب مصر كلها. الديموقراطية تقتضي كفاحاً واثمانا لتغدو تقليداً وتغدو نظاماً وتغدو ثقافة شعبية، وهذا ما يحدث في مصر.

– السفير

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *