*د . يوسف إسماعيل
( ثقافات )
حين نعنون بـ ” السلطة المطلقة وخطاب التحقير ” نريد التأكيد على دلالات السلطة المطلقة وليس على الاستبداد فحسب ، وذلك أخذا بقول لورد أكتون 1834 – 1902) كل سلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة ( فالسلطة مفسدة تخرِّب الأخلاق أولا ثم تشمل جميع المناحي المرتبطة بالمجتمع ؛ الاقتصاد والعلم و الدين ..
وحين نقول ” السلطة المطلقة وخطاب التحقير ” نريد إبراز العلاقة التضادية بين السلطة المطلقة وخطاب التحقير الذي تمارسه المعارضة في رؤيتها للسلطة المطلقة التي لا يمكن أن تتسامح مع ذلك الخطاب ليس لأنه يكشف فسادها فحسب وإنما لتعريته لها من ورقة التوت الأخلاقية وبعدها الاجتماعي بما يؤدي إلى تقزيم رموز السلطة المطلقة وتجريدهم من الأبعاد السلطوية الرمزية الجماعية ومخاطبتهم بوصفهم أفرادا يمكن لخطاب التحقير أنْ يُعري سلوكهم الأخلاقي والاجتماعي وبما لا يسمح بالتسامح معه .
إن خطاب التحقير وفق تلك الرؤية يصبح خصما لدودا للسلطة المطلقة ، إذ يحمل في طياته صيرورة زمنية دائمة ومتحولة في الآن نفسه ؛ دائمة لأن الشتيمة في هذا السياق تُلصق بالفرد وتُستدعى من الذاكرة الجمعية كلما ذُكر المقصود ، وتصبح الإهانة شخصية وليست جماعية وصفية لمرحلة من مراحل السلطة المطلقة بشكل عام ، وهي متحولة لأنها تستدعي كل مرادفات الشتيمة في ذاكرة المتلقي .
و هنا نحيل خطاب التحقير إلى الثقافة المضادة بوصفه الخطاب المضاد للثقافة الرسمية التي تطرحها السلطة المطلقة وتعمل على تعميمها . وتقوم عادة على النقيض منها ، إذ يكشف خطاب التحقير فساد الثقافة السائدة المطروحة من قبل السلطة المطلقة ؛ ولأنه يكشف زيفها وفسادها فهي تخشاه وتلاحقه وتحاصره وتقصيه وتمنع تداوله وقراءته تحت حجج واهية ومزيفة وغير صريحة ، تنال بشكل عام من أصالته أو رصانته أو فنيته ـ حين يكون منتميا لحقل الفن ـ أو جديته حين يتوسل بالهزل لتعميق رسالته التبليغية مشفوعة بالوجع والحرقة والإحساس بالفجيعة
ولأن خطاب التحقير خطاب فاضح يعري المستور ويكشف المزيف ويغري بالتداول يكون حادا وعنيفا وإن أخذ بمسوح السخرية المرة ليكون أكثر تأثيرا وبعدا اجتماعيا .
ولبلاغته ثلاثة مصادر . مصدر داخلي يتمثل بقدرته على التأثير ، ومصدران خارجيان يتمثلان بقدرته على الانتشار و طبيعة المستبد الآتية من معطيات الاستبداد والسلطة المطلقة وتأثيرها على الفرد المتمتع بها ، إذ توهمه بالتفرد والعبقرية والكمال حتى يكاد يشترك بالألوهية مع الخالق من حيث حرية التصرف وعبودية الخاضع
فقدرته على التأثير تأتي من بلاغته الداخلية خاصة في الخطاب الشعري لعلاقة ذلك بموقع الشعر في الثقافة العربية ، إذ يشكل الشعر مجالا واسعا للعبة المجاز والتصوير والإيحاء والتورية ، فهو خطاب شفوي ، و لغة التواصل فيه منحازة إلى التأويل والانفعال العاطفي .
أما قدرة خطاب التحقير على الانتشار فمرتبطة بالمجتمع العربي وطبيعته المولعة بفن الهجاء منذ العصر الجاهلي وصولا إلى العصر الحديث بسبب بنيته القبلية والعشائرية القائمة على التفاخر ومقارعة الأغيار. وقد اشتهر الشعراء الهجاؤون في مجتمعاتهم ، وتداول الناسُ أشعارهم . ويذكر لنا تاريخ الأدب أسماء كثيرة في ذلك مثل النابغة الذبياني والحطيئة والأخطل والفرزدق وجرير وابن الرومي والمتنبي ، وفي العصر الحديث برز الزهاوي ومعروف الرصافي والجواهري والشاعر العراقي أيضا عبود الكرخي وآخرون . وقلما تجد مثقفا عربيا لا يحفظ بيتا من الهجاء لهذا الشاعر أو ذاك .
غير أن الفرق بين الهجاء والشتيمة في خطاب التحقير أن في الشتيمة عداء مستحكما ولا سبيل للمصالحة على عكس الهجاء في العصر القديم ، فقد رثى جرير الفرزدق بعد وفاته قائلا :
لعمري لقد أشجى تميماً وهدّها على نكبات الدهر موتُ الفرزدق
أما عن طبيعة المستبد وآلية تلقيه للفاضح يمكن القول : إنها تنبع أولا من اتخاذ القرار والموقف دون شورى قَبَلية، وبلا مساءلة ولا محاسبة بعدية.. فهذا النوع من السلطة يغري بـ “التألّه” بمعنى أن يتصور الحاكم المستبد نفسه بأنه يتمتع بخصائص الإله .وتلك الخصائص لا تقبل الجدل في الأقوال والأفعال فكيف بالتحقير والإنكار والمطالبة بالمراجعة . وبالتالي فإن خطاب التحقير يزيل عن المستبد كل مسوغات بقائه في السلطة ؛ لأنه تعرى من الكمال والتأله وتساوى مع البشر بالعيوب والحسنات ، وأصبحت أقواله وأفعاله قابلة للمراجعة والتتفيه والإنكار والاتهام ؛ مما يجرده من المعصومية ، ويعريه بشرا سويا مفضوحا بفعله الظالم وقوله المنافق والمزيف وكذبه الموهم بالعدل والإنصاف .
إن تلك العلاقة القائمة على النقيض ونقيضه بين التأله والتعري يتحوّل فيها تأثير خطاب التحقير من البعد الاجتماعي إلى البعد الفردي فيصبح الخطاب جارحا للفرد / الحاكم المستبد , وتتحول المسألة إلى قضية شخصية تسيطر عليها غريزة الانتقام والتشفي بسبب فعلها الفاضح على المستوى الاجتماعي ، مما يدفع المستبد إلى مزيد من العبث والتعنّت والجبروت والإبادة لفاضحه ومن يتداول خطابه .
وفي المقابل يتحول خطاب التحقير إلى خطاب سري لا يمكن تداوله في العلن أو طباعته أو تسويقه ، فتكمن بلاغته في سريته وفي مفرداته الشاتمة والبذيئة وفي مصداقيته الفاضحة من دون تأدب ، مما يزيد في انتشاره اجتماعيا على الرغم من منعه رسميا ، ويتحول إلى خطاب ثقافي مضاد بحجج البذاءة ولغة التحقير التي ـ كما يسوّق ـ لا تتناسب مع فنية الجنس الأدبي وخاصة الشعر ، وتهيمن وفق ذلك حصيلة إقصائه رسميا من الأجناس الأدبية والوظائف التربوية ومن مجمل محتويات الثقافة بمجمل أفقها المفتوح على إنتاج الأمة عبر عصورها التاريخية .
من مجمل تلك العلاقة الجدلية بين الخطابين : السياسي و الثقافي وآلياتها ومبرراتها الزائفة يُدخِل خطابُ التحقير في الثقافة العربية حيز المحظور شعرَ مظفر النواب مثلا بوصفه فاضحا لبنية المستبد والسلطة المطلقة ، ولكنه في المقابل يدخله في حقل الثقافة المضادة لفنيته وبلاغته وحدّته في التعبير عن الاحتجاج والصراخ في وجه الهزيمة والكرامة المفقودة والخيانة والبطش والتأله والاستغلال والاستعباد والنفاق والكذب على الماضي والحاضر والمستقبل .
فلغته السياسية المحقِّرة قائمة على السخرية بالرسم الكاريكاتيري والتركيب اللغوي الساخر من الدلالات وكشف التناقض في المواقف والأسئلة الاستنكارية واللغة البذيئة الشاتمة تفريغا للغضب وإمعانا في الإهانة والإذلال واستصغارا للمحقَّر والمدان .
غير أن السخرية عند النواب تمتد إلى التعبير المشهدي الذي استطاع رسمه بالكلمات موحيا للمتلقي بشكل القراءة التي تؤدي مؤداها اللاذع إن كان من خلال التكرار للمفردة أو من خلال تناقض دلالة التكرار مع دلالة الجمل السابقة ، يقول :
( تطق الأكوابُ بأن القدس عروس عروبتنا/ أهلا أهلا أهلا(
وتتحول السخرية مع استمرارها في رسم الفجيعة التي يراها في السلطات العربية إلى غضب حاد حيث تبرز التناقضات في سلوك القادة والسلاطين والمتمجدين ، مما يدفع بالمتلقي إلى قراءة الغضب حاملا شحنة استنكارية هازئة تحمل في طياتها التعرية وكشف المستور من نفاق وخيانة وابتزاز وفجور متبوع بالردة الأخلاقية والوطنية وبالتالي الدينية ، وكل ذلك يضعنا في غضبه على الشتيمة لأنها نهاية النهايات ونهاية الكلام المباح .
ويعمد خطاب التحقير إلى أنواع شتى من التحقير كالتحقير الجنسي والأخلاقي والخَلقي ( الجسمي مثل قزم قرد … ) والعقلي مثل غبي و أثول .. والاجتماعي كالنسب والتشبيه بالحيوانات . فمنه ما يبدو فرديا جارحا ومنه ما يبدو عاما . غير أن أكثر أنواع التحقير تأثيرا في الفرد هما التحقير الجنسي والتحقير الاجتماعي ؛ لأن الأول يرتبط بموروث اجتماعي في الثقافة العربية منذ تداول أول حكاية شعبية في ألف ليلة وليلة ، إذ لا يستطيع الرجل العربي التلميح أو التصريح سرا أو علانية بأمر من ذلك في كل زمان ومكان إلا في إطار السخرية من الآخر والإعلاء من الذات .أما التحقير الاجتماعي وإن كان أهون وطء من التحقير الجنسي غير أنه يؤثر كثيرا في النفس ويرهقها بل يحطمها في عين المشتوم وفي أعين الآخرين خاصة حين يرتبط بأسماء الحيوانات فيزيل عن الحاكم روابط وجوده وسلطته ؛ إذ يجرِّد المهجو من انتمائه الاجتماعي ، وهذا يقصي الإنسان من جنسه وعالمه إلى عالم الحيوانات البهيمية . أما بقية التحقيرات كالعقلي والأخلاقي فهي أقل تأثيرا بسبب طبيعتها المعنوية أو تصورها الذهني ، وتلك طبيعة متحولة وارتجالية قد لا يُستثنى منها أحد بدرجة من الدرجات عدا عن نسبيتها وفق المتخاطبين وبيئاتهم وثقافاتهم و سياقهم التاريخي .
وقد استخدم النواب أغلب المفردات الجنسية إمعانا في التحقير مثل : التبول ، الخصية ، السحاق ، أولاد القحبة ، البغاء ،الإست ، …ولكن الأهم في ذلك هو مبررات استخدام تلك الألفاظ في خطاب التحقير! فهل كان الشاعر بطبعه بذيئا ؟! يقول مظفر النواب في مقابلة صحفية معه ( لست بذيئا ولكنه القيء الذي وصل الحنجرة ) كما عُرف بخجله وصمته فهل أخرجه الواقع العربي عن خجله نزقا وغضبا ؟! أم كان أسلوبا بلاغيا في مخاطبة جمهور العامة الذي تلقف شعره وتداوله على الرغم من منعه ؟! يوحي بناء القصيدة لديه بأن الشتم كان تعبيرا عن نزق الشاعر ، إذ لا يصل إليه في القصيدة إلا بعد تصاعد تدريجي في التعبير عن مأزق الشعب في حكامه وانهزامات وطنه حتى درجة الاختناق ، فتكون الشتيمة نهاية النهايات ونهاية الغضب .
ولكن البناء التركيبي للقصيدة عند النواب لا يشفع وحده بتلك الشتيمة لأنه استخدم كل أساليب التحقير ؛ الجنسي والأخلاقي والخَلقي والعقلي كما ذكرنا ولكن للجنسي محطة فاضحة وللشتم سيلان لا يتوقف هنا وهناك في مناحي التركيب الشعري لديه ، ولذلك بقيت الإجابة مفتوحة على الاحتمال الآخر ، وهو أنه كان أسلوبا بلاغيا في مخاطبة العامة التي تلقفت شعره وتداولته على الرغم من منعه . فقد كانت للنواب رسالة مفادها تعرية الحاكم العربي أمام شعبه وبالتالي فإن عامة الناس هي مقصده وغايته ، وعمل للوصول إليها بكل وسائط التعبيرالشفوي من غناء وإلقاء شاحن للعواطف والانفعالات وموسيقى مرافقة وتسجيلات صوتية وتركيب لغوي بسيط ومفردات متداولة ولغة بذيئة مستخدمة عند عامة الناس الغاضبة التي شعرت باليأس وفقدان الكرامة ، بل إن النواب تحدث باسم الناس أو عبّر بلسانهم عن الحالة السياسية ، وتبنى صوتهم لغة ورؤية وأسلوبا في التعبير، فكانت بلاغته جارحة و معرية وفاضحة ، وصلت إلى العامة وكذلك الخاصة ؛ ولذلك كان عدوا لدودا للسلطة المطلقة وثقافة مضادة لا يقبل بها الاستبداد . يقول قاسم حسن في ذلك : (أوصل مظفر إلى البسطاء من الناس رسالة الاستهجان والاستخفاف بالوضع العربي ، وبيّن لهم تفاهة الوطن والناس عند الحكومات والبرلمانات العربية ) وفي المقابل تفه الحاكم وأنزله منزلة وضيعة في أعين الناس من خلال استخدامه بعض الألفاظ التي تربطه بدلالات أخلاقية هابطة وبمعان جنسية مذلة وبتشوهات خَلقية تنفي عنه الجمال شكلا ومضمونا .
كماأنه لا قيمة لأي خطاب تحقيري مجتث عن بعده الاجتماعي و حقل تداوله ، لأن قيمته تكمن في بنائه الإشهاري . وذلك أن الإنسان يأخذ كينونة وجوده من محيطه الاجتماعي وفق روابط وقواعد وقوانين وقيم نظمتْ سماته وصفاته الحميدة والقبيحة وحددتْ سلوكه وصنّفتْ أخلاقه وقيمته الاجتماعية وفق التوافق والتنافر مع ذلك المحيط .
وعليه فإن أي تحقير أو إعلاء شأن ترتبط بلاغته بتلك الكينونة الاجتماعية ؛ فالفحولة الجنسية عند العربي لا قيمة لها من دون الإشهار أمام الزوجة أوالخليلة أو الصحب والسمر . والنكوص لا يعني شيئا للعازف عن الزواج والخليلات والصحب والسمر أيضا إذ يبقى شبقا مكبوتا سريا أو برودا لا يعرف كنهه أحد .. وفي كل الأحوال فإن اللعنة تأتي من المحيط الاجتماعي الخارجي ، و تفادي تلك اللعنة يرتبط بالتفوق عليها بالإشهار أيضا ، فالدائرة مغلقة على الكائن الاجتماعي كما يرى علماء الاجتماع
إن ذلك يبين أن التحقير الاجتماعي يصبح هو الغاية في أي خطاب تحقيري للسلطة المطلقة من قبل مطلقه ، فالشتيمة الجنسية هي النيل من الحشمة الأخلاقية التي تحيط بالكائن الاجتماعي والشتيمة الأخلاقية تنال من الروابط التي تربط الكائن بمحيطه الإنساني والشتيمة التي تحط من قيمة العقل عند المشتوم تهدف إلى إقصائه من عالم الإنسان …وفي كل تلك المدارات تأخذ لغة الخطاب التحقيري للسلطة المطلقة قيمتها من علاقة تلك السلطة بروابطها الاجتماعية الحاضنة لها رغبة أو رغما ، فهي المقصودة بالتعرية والفضح ولذلك أهمية بالغة عند الحاكم والمتحكم والسلطان ، فالفاضح يقطع عن السلطان نبع سلطته بكشف الزيف والإتيان بالبرهان على علله وبالتالي سقوطه بعد إهانته .
الفعل التحفيزي للتحقير الاجتماعي يأتي من حامل السلطة المطلقة ذاتها أيضا ؛ فالمستبد يرى في نفسه الفرادة في كل شيء ؛ في الوسامة والفصاحة ورجاحة العقل وصواب الرأي والنسب والشرف والدين والأخلاق وحماية الوطن والشعب من الغدر والفقر والاعتداء وحق القيادة والحكم بالعدل والتحكم بثروات البلاد وتوزيعها … وتعظم في عينه سماته وخصاله حتى التأله فيشارك الإله في صفات الكمال وحق استعباد محكوميه كما كان في العهود القديمة عند الفراعنة و اليونان والرومان والعرب والصينيين والهنود والفرس
من تلك السمات الخالصة التي يراها المستبد في نفسه ينزلق خطاب التحقير ليحفر في روابطها الاجتماعية ويقطع أوصالها فيجعل الحاكم العربي معلقا في الفراغ ومجردا من فضائله وسماته و تألهه ، إذ يكشف أنه ليس وسيما ولا فصيحا ومعتوها أو مريضا بالبله ، صنع لنفسه نسبا بالبطش وشرفا بالتيه على شعبه والتصق بالدين والأخلاق حماية لنفسه وليس للوطن والشعب ، اعتمد الغدر والحرمان والاعتداء وسيلة للقيادة والحكم بالجور والتحكم بثروات البلاد والتهامها … يقول النواب في قمم :
(قمم / معزى على غنم / مضرطة لها نغم / لتنعقد القمة / لا تنعقد القمة / لا . تنعقد القمة / أي تفو على أول من فيها / إلى آخر من فيها )
يرى في القمة مجموعة من الماعز والغنم وتلك الحيوانات تعيش متلاصقة متراكمة إذا ذعرها الذئب ، و تنقلب الصورة رأسا على عقب ، فالقادة والسادة والحكام يتبادلون هنا الأدوار مع محكوميهم ، هم المذعورون ، لا يعرفون ما يفعلون وليس لهم قرار أو رأي .
ويكثر خطاب التحقير من وسم رموز السلطة المطلقة بأسماء الحيوانات كالقرد والكلب والجمل والجحش والحمار والأرنب والهدهد والبغل والدب والخنزير ..وذلك للحط من قيمتهم الاجتماعية وإنزالهم منزلة البهائم في عيون الشعب ومن ثم تجريدهم من أي حكمة أو عقل أو سلطة أو وسامة:
(إن حظيرة خنزير / أطهر من أطهركم / أولاد قراد الخيل/ كفاكم صخبا / حملتم أسلحة تطلق للخلف / وثرثرتم ورقصتم كالدببة )
إن تجريد رموز السلطة المطلقة من تألهها ووضعها بمنزلة البهيمة يعني أن خطاب التحقير أفقدها أنتماءها إلى عالم الإنسان ودفع بالمحكومين للجرأة عليها بعد تعريتها ثم محاكمتها بمشهد درامي ساخر ومأساوي في الوقت ذاته على خشبة مسرح رسمه مظفر في الحلم القادم عبر بصيرته الشعرية حيث بدأت صور هذا المسرح بالإضاءة على أرض الواقع بعد موته بفترة وجيزة . يقول :
(الشعب الحاقد جاع ../ أنا أسمع أمعاء تتلوى ألما جوعا غضبا / كلٌّ يحمل سفودين اثنين / يا رب كفى خجلا / يا رب كفى حكاما مثقوبين / وهذي ساعة نار / القوا أقزام الردة في النار وهاتوا الآخر/ من أنت ؟ / أنا ( يطرق ) يابن ال…/ ألقوه كذلك ..)
إن خطاب التحقير بمجمله خطاب إشكالي على المستويين الاجتماعي والثقافي انطلاقا من معايير اجتماعية و أخلاقية و تربوية تحتكم إليها المجتمعات العربية في العلن وتنتهكها في السر ولحظات الغضب ، ولذلك يتم تلقي خطاب التحقير بآليات متناقضة مثله مثل كل الخطابات المحرمة في الجنس والسياسة والدين ؛ فالنفاق الذي صانته السلطة المطلقة في التاريخ العربي ودربت المواطن عليه ليصبح مكتسبا أصيلا غدا أهم أجهزة التلقي الثقافي للخطابات المحرمة، فما نمجّده ونصفق له في سطوة الشمس نقصيه في هيمنة العتمة والعزلة والعكس صحيح .
___________-
*جامعة حلب