*محمد الكامل بن زيد
خاص ( ثقافات )
انتفض صاحبي الشاب من مرقده بنوع من الاشمئزاز.. أصابعه الطويلة تحرك ذقنه المرتجفة.. ترنح يمينا ثم شمالا ..أوشك أن يسقط فوق الإسفلت لولا أنّ جدار الغرفة مد له يد العون.. زجاجة الخمر التي آنست إبطه الكثيف الشعر من الظهيرة تهاوت إلى الأسفل عوضا عنه.. حدق مليا في بقاياه وهي تتناثر فيما حوله.. استمتع للحظات لصدى سقوطها في الغرفة الخاوية… ثم ما لبث أن تنهد بعدها بعمق: – لا فائدة؟ اضطراب عنيف يوصد كالغول الفارسي في حكايات ألف ليلة وليلة أمام طالعه .. ” الحظ الحسن”.. لذا حق عليه أن يشرب الخمر حتى الثمالة لكي لا يصطدم وجها لوجه بالمجهول الغامض القادم.. ربما بعد ساعات أو ربما بعد دقائق.. أو ربما بعد اللحظة… هو يعلم أنه الهروب الدال على جبنه .. لكن ما عساه أن يفعل ؟ وليس ثمة أمل في الحظ الحسن.. إذن فليس بدّ من الهروب إيمانا بقول أحدهم .. من خاف سلم…الوقت يمر رتيبا كمراسم الجنائز بيننا.. لا يقطع هيبتها سوى مواء القطط فوق أسطح الأبنية ..صاحبي الشاب أسند ظهره إلى خصاص النافذة ومضى يرسل تمتمات مبهمة حيث أنا .. لم أتبينها ولم أسع إلى فهمها.. إلا أنني انتبهت إليه وهو يصيح ناقما .. كالثور الهائج المثخن بالجراح القاتلة:
– بحق السماء….أريد جوابا؟ ارتعدت فرائسه واهتزت أطرافه إلى أم رأسه حيث تفجر الصراع الباطني مولدا رعشة عظيمة.. اتسعت أبواب حصون عينيه أمام إصرار أصابعه على دحر الحصار المضروب حولها.. لتنهمر نتيجة ذلك من سراديبها سيولا هائلة.. ثم عاود التمدد على السرير الخشبي ليغيب داخل الوسادة بعمق تعمده لئلا يظل سجين الشقاء.. وقد ارتسمت على خديه أنهار شديدة الملوحة…
– هو على حق.. إلى متى؟ بحق السماء.. إني أقف أمامه مكبّلا بقيود وسلاسل وهمية إلا أنها تشد أسري بعنف .. ماذا أفعل ..ماذا أقول…إني أعجز أنا أيضا عن فك هذه الطلاسم المظلمة حولنا..واعترف أنّه عجز كامل….. فحتى مجرد التعليق على هوامش كان يمكن لها أن تكون مخرجا لما نحن فيه…… لا أقدر عليه………. بحق السماء .. هل كان لنا أن نغترف من صنبور العمر بعضا من الأيام ها هنا .. أسرى هذه الحيطان الأربع …. الرمادية اللون في فندق قديم متعفن كهذا.. عينانا زائغتان تحاولان التركيز فيما يقطع صمت هذا الشارع هدوء غريب ختم على المنطقة كلها .. وكأنّ هذا الشارع لا يمت إلى “لندن” بصلة.. وأنّ السلطات الإنجليزية نسيت أن توثقه في خريطتها.. هناك…فقط.. أقدام ثقيلة هي أقدام بعض مومسات يتأهبن للرحيل.. فلا ربح يذكر هذه الليلة .. فما انقضت دقيقتان بالضبط حتى اقتلعن بإجهاد ملحوظ أحذيتهن من الأرصفة.. ولسان حالهن.. عين حاسد ملعونة…
( سأفضي لك بسر …وأكون بذلك قد خالفت معتقداتي..فمن عاداتي حين أعتزم فعل شيء أن أكتمه حتى يتحقق…لكن هذه الساعة..لا أدري لماذا يلح لساني على أن يسرق الخطى إلى سمعك..أنت بالذات….؟
– مامبا ؟ جاهدت بالعدول عن فعل ذلك إن كان ضد قناعته لكنه لم يمهلني….. – لقد..اشتركت في مسابقة شعرية نظمتها دائرة محلية هنا..قدر جائزتها…5000 جنيه إسترليني… – أنت شاعر…….؟ ابتسم في هدوء ..ثم همس في تواضع : – لست متأكدا..لكن في بلدي..يقولون أنه جيد…………..) – ألم يعد مامبا ؟ صاحبي الشاب….يسألني في قلق عسير بعد أن أفاق من غفوته..تجاعيد الشقاء أبت إلا أن تتشكل نهائيا على تضاريس وجهه .. تمارس طقوسا محرمة .. أومأت له برأسي بالنفي .. نهض خلالها في ثقل طويل .. وطويل جدا حتى خلت أنّه لن ينهض ثم سرعان ما فتح النافذة ليرسل زفيرا حادا إلى الخارج .. عسى أن يستبدله بهواء رطب يعيد إليه ما ضاع من الأمان… ضوء الغرفة الباهت كان قد زحف فوق رقبته فبان لي ظله ممتدا أمامي رافضا الانصياع للطلاسم المظلمة والهوامش المعلقة إلى أجل غير مسمى….. – لا حول ولا قوة إلا بالله ……… صاحبي الشاب ..أدار وجهه نحوي مكفهرا …. متمتما في ضجر: نحن لسنا أحرارا…… -……………………….. – صحيح أننا لم نعثر على مستقبل لنا في لندن……. لكننا أحرار.. -………………… – أخطأنا حين قلنا أن أحلامنا هناك في كف عفريت… فعفاريت هذه المدينة لا ترحم… – …………………….. – أنت لا تعلم .. أني وعدتهم بالحلم الجميل .. وعدتهم أني سأكمل دراستي العليا … وسأعمل حتى أعود محملا .. بحقائب مالية… وسأنقذهم من قعر البئر .. لن أقصّ عليك يوميات عائلتي البالغ عددها الثمانية عشر نفرا.. بل سأكتفي بأن أقول لك .. أنّ البئر بنيت منذ أول جد لنا .. بحجارة من الفقر … بحق السماء ..أأصابك بكم..؟ ..ألا تبادلني الرأي أبدا ؟..ألا تبكي؟ ..ألا تصرخ ؟..ألا تشرب الخمر؟ .. ألا تهرب؟ … انطلق … تكلـــم..ألا يكفـــي .. أننا حبسنا في الغرفة .. حتى تحبسنــي بصمتـــك هذا بينـــي وبيــن نفسي …..؟!
(… التقينا ثلاثتنا في يوم ماطر .. صدفة أمام الفندق ..كل منا يحمل في تقاسيم وجهه جواز سفره .. وبين ذراعيه حقيبته الضخمة .. تسربت أفكارنا بسرعة البرق إلى أذهاننا .. ابتسمنا .. تصافحنا .. ثم دخلنا :
– نحن ثلاثة أصدقاء .. جئنا إلى هنا للدراسة والعمل .. صاحب الفندق لم يلزم نفسه عناء التأكد من صحة ما قلناه فعلى ما يبدو أنّه لا يبالي بمثل هذه الأمور.. أو ربما أنّه اعتاد سماع نفس الجملة ممن سبقونا .. إذ قال لنا بازدراء … و دون أن ينظر إلينا ثانية :
– الغرفة رقم 20 ……) بدأت أذرع الغرفة جيئة وذهابا … دقات قلبي في تسارع شديد .. غرف الانتظار على حافة الانفجار… استنفار حاد يطرق ناقوس الخطر في وجهي ..” مامبا ” لم يعد .. خرج بعد الظهيرة ولم يعد… …ألم نتفق منذ الوهلة الأولى على العمل ســــويا في السراء والضراء ؟.. وأن لا يتكلـم أحدنا سرا عن أخيه ؟… وأن … ودون أن يكمل ….أجبته : – الغائب حجته معه -أخيرا نطقت ..الحمد لله على سلامتك لم أحتمل …. فصرخت : – أرجوك .. كفـــى (……في بلدنا … في بوركينافاسو.. كل فرد فينا ..يحلم بالجو الماطر والإعصار… كل فرد فينا .. يعشق الخبز والرغيف .. الممتلئ بالدسم الحـــــــــار
كل فرد فينا ..يتمنى ساعة ما يقذف بقدمه اليمنى خارج خيمته أن لا يقابل في طريقه .. جسدا متعفنا من شدة الجوع.. القهار… آه ! عبد الحي ! أتعرف أننا لم نذق طعم اللحم منذ كان سني لا يتجاوز العشر سنوات …دجاجة صغيرة فاز بها عمي ” سامبان ” في يانصيب محلي أقيم على هامش ” السيرك” قدم إلى قريتنا لأول مرة … كانت تلك المرة الأولى والأخيرة في ذات الوقت… وهل تعلم أني كنت أقضي معظم الأيام بقطع كيلومترات و كيلومترات حافي القدمين إلى المدرسة ..المبنية من بقايا نخيل محترق ..وإني لم أكن أتوانى في التشبث خلسة بحاجز الشاحنات الخلفي إذا ما أعياني المشي ..حتى إذا ما اكتشف أمري كان مصيري الضرب على القدمين الحافيتين…؟؟
آه ! عبد الحي ! لم يكن لي ملاذ سوى مملكة الشعــر.. فهي ملاذي ومنفاي ففيها أجدني سيد نفسي وسيد قبيلتي ..من حولي الكثير من الجواري وتحت بصري ..أشهى الأطعمة ..
آه ! عبد الحي ! لو يقدر لي الفوز بالجائزة ..أول شيء سأفعله سأشتري دجاجة كبيرا جدا كلا ! كلا ! بل ثلاث دجاجات ..واحدة لي ..والثانية لك ..والثالثة لصحابنا الشاب …….)
ضوضاء وعجيج شديد التعقيد بدأ يحتاح الأروقة المؤدية إلى غرفتنا ..أرهفنا السمع إلى الباب وانتظرنا طويلا حتى نتبيّن أنا وصاحبي الشاب حقيقتها وحين عرفنا سرها نطقنا سويا …
– الشرطة ؟!!
وانتظم رجال الشرطة بأسلحتهم الثقيلة في أرجاء الغرفة بسرعة مذهلة ..وتراصوا كأسنان المشط حتى لا يدعوا لنا منفذا للهروب….يا للأغبياء ..هناك منفذان فقط ..إذا ما فكر أحدنا في الهرب ..النافذة والباب كليهما يكفي اثنان منهما لسدّ مدخله..في حين تقدم قائدهم نحونا وشرر العواصف ينبعث من بؤبؤ عينيه ..كان يقلب بين أصابعه الغليظة علبة كبريت لم انتبه لها في البدء إلا بعد أن أشار إليها صاحبي الشاب بطرف حاجبه.. فأوجست خيفة بمعرفتي لها ..نعم إنها ملك “مامبا” ..اعتراني ذهول رهيب ..وسريعا ذهب خاطري إلى سؤال واحد لا غير أين “مامبا” ؟!!
تقدّم القائد منا أكثر وأدرك منذ النظرة الأولى أننا من أصل عربي ومن بلدان الشمال الإفريقي أيضا ..فسألنا بالفرنسية :
– من أي بلد ؟
– جزائري
– ليبي
– ما شاء الله ..مفاجأة غير متوقعة ..جزائري ..وليبي
ازدادت تقاسيم وجهه غورا نحو الاسوداد..وكأنّ ذكر أصلنا ذكره بشيء مهم وخطير كان غائبا عنه ..ولابد من احتوائه قبل أن ينفذ إلى خارج الغرفة وإن تحتم الأمر القضاء عليه ..لما لا ؟!
وأسرع نحو الباب بخطوات عنيفة آمرا رجاله باقتيادنا إلى السجن ..أصررنا على الرفض مبعدين أسلحتهم وأيديهم عنا..إلا لأنه عاد إلينا أكثر سخطا ليرمي بكلتا يديه الغليظتين إلى بطوننا .. إلى رؤوسنا.. وبجفاء بارد وضع الأمر كله بيننا :
– وجد “مامبا” مقتولا ..ولا شك أنكما ..من قتله ؟
صاحبي الشاب لم يستسغ الخبر فبلع ريقه وتهاوى مهزوما ..يبحث في ذهنه من جديد عن تمثال أسود ..أما أنا فشددت على شفتاي بأسى ..وأحسست برغبة جامحة في التقيؤ ..
– “مامبا”!!
(…..كان صديقي ..مامبا …
قصير القامة ..أسود البشرة ..عريض المنكبين ذا عينين كبيرتين..يرتدي دوما الثياب المزركشة الألوان كثيرا ما يضحك على نفسه إذا ما شاهدها على المرآة ..أكاد أشكل قوس قزح ..متحصل على شهادة الليسانس في العلوم السياسية و الديبلوماسية ..طموح ذكي ..يجيد اللغة الإنجليزية أحسن بكثير مني ومن صاحـــبنا الشاب ..
…..صديقي مامبا …
قبل أن يغادرنا بعد الظهيرة همس في أذني مشرقا :
– أشعر بأنّ السعادة تضرب بأجنحتي ..فاليوم هو يوم تسليم الجائزة ..ولقد رأيت جدّي وجدّتي وكافة أسرتي في المنام يهنئونني ..مرحى “مامبا “..حتى حتى عمي “سامبان” رأيته يرقص طربا وبين يديه دجاجته الوحيدة ..فعرفت أنّ الفوز من نصيبي …..
ثم ردد ضاحكا وهو ينزل من السلم :
– سأعود بالدجاجات الثلاث..بعد ساعتين لا أكثر ولا أقل …. )
4/8 جويلية 1999
________
*قاص و روائي .بسكرة.الجزائر