أم قيس…قرية حدودها السماء


*عدنان الصباح


خاص ( ثقافات )
منذ أيقنت أن هناك عالما موازيا لصدر الأم بدأت رحلة عجيبة من المطاردة بين بوابة بيتنا وتلك النقطة التي تنحني بها السماء لتلامس الأرض أو تصعد فيها الأرض لتودع نورها أو لتقطفه من صفحة السماء, منذ تلك اللحظة وأنا اجري المطاردة تلو المطاردة علني أمسك لحظة المكان وعبثا حاولت وكلما ابتعدت عن بوابة البيت أكثر كانت السماء تغادر الأرض أكثر وكان المساء يعيدني إليه خشية الليل. 
كثيرا شغلتني حكاية التلاقي المتبادل بين الأرض والسماء مكانا في طفولتي ومع كل شروق للشمس ومع كل غروب كان هذا التساؤل يطل يوميا, ترى أين تنام الشمس ومن هم أولئك الذين يحتفظون بها بعيدا عنا طوال الليل, وكيف يفعلون ذلك ولماذا وكيف يمكننا أن نستعيد شمسنا منهم وأنا ومعي العديد من الأطفال حاولنا جاهدين أن نجد طريقة نمنع فيها الشمس من الذهاب إليهم بعد أن أعجزنا ضعفنا عن الوصول إلى هناك لاستعادتها أو لمعرفة الحقيقة, وقد يكون ذلك سببا للبغضاء التي نشبت بيننا وبين أبناء القرية المواجهة عن بعد عل قمة الجبل الذي يلتقط شمسنا كل مساء. 
هذه الحكاية كنت قد اعتقدت أنها خمدت مع الزمن أو اختفت أو أن معرفة الحقيقة العلمية قد أنهتها كليا من دائرة تفكيري لاكتشف فجأة أنها قد شكلت لدي الوعي الحقيقي الذي يحركك دون أن تملك قدرة للسيطرة عليه, وهو ما يسميه البعض تقليلا لأهميته باللاوعي علما بان اللاوعي هو الوعي الأكثر رسوخا أو الوعي الأبعد والأعمق واللا إرادي, وهو الأساس لوعينا المدرك فيما بعد. 
قبل سنوات قليلة قادني الهروب من الضجيج إلى قرية أردنية نائية هي أم قيس, وبعكس كل الزائرين لتلك القرية لم تستوقفني شواهد التاريخ الحجري بل هرعت إلى سفح الجبل ليلفني اغرب هدوء عشته في حياتي ولأمعن النظر في هذا الواد العميق الذي يشكل بقعة افتراق بين حدود بلاد مختلفة هي سوريا والأردن وفلسطين, مرارا كررت العودة إلى هناك وأنا أتساءل لماذا هذه النقطة بالذات هي مفترق الفصل بين تلك البلدان, ترى هل هو الاستعمار فقط, وإذا كان كذلك فأية مبررات استخدمها هذا المستعمر اللعين في اعتماد نقطة الفصل هذه ولماذا قبل الناس هناك تلك النقطة أساسا للفصل بينهم. 
أخيرا استيقظت طفولتي ويمكن القول أن لا وعيي قد عاد للنشاط مستعيدا طفولتي وبحثي عن الشمس وعدائي لأبناء القرية التي اعتقدت أنهم من يلتهمون الشمس ليلا لتنير قريتهم, ترى هل كان هذا الشعور أيضا عند أطفال الأردن وسوريا وفلسطين وهم يركضون نحو الشمس حتى وصلوا إلى قلب ذاك الوادي, وهل اقتنعوا أن الشمس تختبئ داخل الماء الساخن في قلب الوادي المشترك, وهل اكتفى الأطفال آنذاك بتقاسم ماء الشمس الدافئ ذاك وعاد كل إلى بيته مقتنعا أن حصته من الشمس قد عادت إليه. 
ساذجين نحن, منذ أن صدقنا أن القرية المواجهة سارقة للشمس, ومنذ أن وصلنا إلى الجبل القريب في يوم شتوي مشمس لنرى الشمس تختبئ داخل بقع الماء الراكد بين الصخور, ساذجين نحن لأننا قبلنا ببقع الماء دون البحر وبصورة الشمس دون الشمس واكتفينا بالرواية الخرافة التي ألفناها وتركنا للآخرين صوغ حكاية أوسع عن عالم ابعد وأكثر اتساعا. 
واحدة من اخطر أسباب تخلف المرأة العربية حالة الانتظار القسري التي تعيشها طوال عمرها خلف باب مغلق بانتظار عودة الفارس ولذا فهي تنتظر معه روايته للكون كما يراه هو وعليها أن تقبل روايته ما دام لا بديل لها سوى ذلك وعادة ما تقبل المرأة رواية زوجها عن كل ما يدور في ساحة البلدة فهو وحده الذي يذهب إلى هناك بينما تجلس هي بانتظار عودته وبالتالي فهي حليفة للتخلف الذي يسعى زوجها لتكريسه حفاظا على ما لديه من معرفة أوسع, الغرب لم يجلس منتظرا خلف البحر بل هرع إليه في سبيل صوغ حكاية جديدة للجالسين بالانتظار وهو الذي اكتشف عالما جديدا في القارة الأمريكية وملك القدرة على صياغة رؤيا مختلفة التزم المنتظرون الاقتناع بها ما داموا اضعف من السفر إلى هناك للامساك بحقيقتها. 
هناك فرق بين أولئك الذين طاردوا هبوط السماء ولاحقوها حيثما أمكن ليصنعوا عالما جديدا قادرا على صياغة الكون الإنساني على نمطهم وبطريقتهم وبين أولئك الذين اكتفوا بتمتمات الماضي وانزووا بعيدا تاركين روح البحث والمغامرة لغيرهم وبالتالي أفسحوا المجال له لصياغة رؤاهم حسبما يريد مهما حاولوا الصراخ أنهم لا يوافقون لكن الحقيقة انه وحده يدري إن كانت السماء هي التي مارست الانحناء الطوعي نحو الأرض أم الأرض من ارتفعت نحو السماء وهم حالمون لا أكثر متخيلون لا أكثر مكتفون بما خلف لهم المغامرين الأوائل من تراث عظيم لم تمهلهم الدنيا مزيدا ليتابعوا فتركوه لوارثين كسولين كعادة كل ورثة العظماء لا يتقنون البحث بل يتقنون الانتظار ولم يثبت التاريخ أبدا أن المنتظرين التقوا بالمسافر المتحرك القادم فهم إما ان انتهوا قبل وصوله أو أن المتحرك يتجاوز المنتظرين عادة فهو لا يعرف محطة الانتظار فراح يطارد المتحركين عله يلحق بهم. 
فقط أولئك الذين يملكون القدرة على الحلم بما هو بعد الأفق والممسكين بالغد حلما وطريقا من يمكنهم صياغة لوحة جديدة للكون وكتابة نوتات قراءته على صفحة السماء التي لا يجيزون لأحد أن يتمكن من الإمساك بها عداهم, من غادروا اليابسة نحو اليابسة عبر الماء ومن وصل الأرض بالقمر عبر الفضاء هو من يمكنه كتابة الرواية التي يريد والمنتظرون هنا على قارعة المحطة البعيدة لا يمكنهم سوى قراءة الرواية والتبجح بأنها كاذبة وهو سيكون سعيدا ببجاحتهم ومتابعة انتظارهم لماضي لا يمكنه أن يعود وإذا فعل فسيجد نفسه مضطرا للانتحار أمام تفاهة من أوكلهم بمتابعة دربه فإذا بهم لا زالوا بانتظار عودته. 
هناك في تلك القرية المحاذية للسماء وعلى حافة ذلك الجبل الهادئ حيث لا صوت سوى الذات, هناك حيث تتقن للمرة الأولى في حياتك الاستماع إلى موسيقى الصمت, تلك الموسيقى التي لم تدمرها أنامل بشر ولم تتدخل بحروفها المعزوفة من بين شقوق الريح واندفاع التراب وهطول التاريخ من بين الحجارة, هناك يمكنك أن تمسك بذاتك, ليس الآن فقط, ولكن ذاتا تاريخية مجبولة بالعشق, والعشق لا يمكنه أن يعيش بين زوايا شقوق معتمة, فهو يحيا فقط باندفاعة الريح ويتقن فقط قرع مقدمات حوافر الخيل فوق حجارة الدرب نقرا يشبه النقر اللطيف لأطراف أصابع عازف القانون, هناك لا يملكك التاريخ إلا لأن لك به مكان ولا يمكنك مضاجعة الحجارة المورقة بالعشب البري الأخضر وحدها دون أن تدرك أهمية نبتات العشب الطرية وحداثتها حين تتزاوج مع كل عراقة أعمدة سوق كان يدب بالحياة قبل قرون وقرون. 
في أم قيس محمل أنت بالحياة ومورق أنت بالوجع وباحث أنت عن الغد على أمل أن يلد الجبل الحي هذا وعلى أطراف نفس الواد أناسا قادرين اليوم على إيصال الماء الساخن للجبل بدل النزول إليه كما فعل الأقدمون, رافض أنت اليوم لحكاية الشمس التي ارتضى الجميع مكانها في قلب الماء الدافئ وعادوا دون أن يطلقوا السؤال الأهم أين كانت شمسهم جميعا مخبأة, هناك كل خيول الأرض تسرح بك إلى المدى بحثا عن إجابة جديدة لسؤال قديم وسؤال جديد لغد قريب لعلك تصوغ من الصمت حروفا تعزف بأنامل البشر على طريقة الشجر حين يصبح العزف ثمرا حيا يورق بشرا, بشرا يورق فعلا, فعلا يورق فكرا, ثم تعود المعادلة للدوران صعودا من جديد بعيدا عن دوران ثيران الساقية في المكان. 
في أم قيس حيث يتلاقى التاريخ زمانا بالأرض مكانا ويتداخلا بما لا يمكنك التفريق لا يمكن لثيران الساقية أن تعيش لأن الأرض مفتوحة للأرض وصاعدة إلى السماء وكل حواجز الريح احترقت على بواباتها البعيدة. 
هناك حيث الريح ليست وهما بل حجارة تركض في أماكنها لعل العابرين يقرؤون أن الغد دون اليوم ميت, وحيث يمكنك الإمساك بخطوط العرض والطول في أعمدة تشهق وأنت ترفع راسك نحوها متسائلا من هم هؤلاء الذين أوقفوها هكذا على بوابة الزمن دون أن يخشوا معاودة الهبوط نحو القاع ودون أن يدركوا أن أعمدتهم وطرقهم المبلطة وأسواقهم سينعق بها الغراب ذات يوم لا لشيء إلا لان أحفادهم لن يرثوا منهم شيئا وبدل متابعة الصعود إلى الأعلى سيجدون طريقهم نحو الواد فهناك مكان أكثر أمنا وجبنا للذين لا يرغبون بصعود الجبال ولا يرون في الإمساك بمخدع الشمس هدفا يساوي جهدهم. 
هناك حيث الريح ليست حجارة متناثرة بل لوحة متداخلة الخطوط من وعي ويد وتراب, لا يتقن قراءتها إلا البناة الحقيقيين للغد, ولا يتقن إعادة تنظيم خطوطها بما يتلاءم وحركة الريح إلا الصناع الحقيقيين لفعل الإبداع المتنامي مع حركة الريح الحية, ريح البشر المغموسين بعرق الجسد ودم التراب. 
كلما شددت الركاب إلى عمان مرورا بكل الحدود والحواجز التي يزرعها الأعداء أمام سفر الفلسطيني, ليس حقدا على الطريق وإنما منعا للمعرفة الآتية من أداء الحركة لا من صمت الجلوس, عاودت الانطلاق من عمان إلى أم قيس, ولدي أسبابي التي لا تحصى, هناك أعاود مباغتة الوطن المسلوب من الخلف فعسى أجد الأعداء قد غاصوا بسباتهم فأعاود حمل الوطن والركض به إلى فراش الشمس اخبأه من عتمة زمننا لعل لابناءنا أن لا يفعلوا ما فعلنا ويكتفوا بشتيمة أهل القرية المجاورة لقمة الجبل بدل الذهاب هناك لقطف الشمس والعودة بها لإشعال البيت نورا من جديد, وثانيا لأنفس غضبي لأنني أوحد عنوة حدود العرب الحرة والمأسورة ولو حلما ومن خلال عيون أتقنت السفر دون صاحبها على طريقة من سبقوه حديثا, وثالثا لاغتسل بالريح من غبار سفر لا تسافره الطريق بل خطوط الموت في ذهن خرافي أدمن فعل الغد وهما ماضويا لا مستقبل له, ورابعا لأكتب من صمت المكان الأكثر ضجيجا حروفا للغة جديدة لا تتقن المواربة والمزاوجة والتدليس والتمليس وقول حروف بألف معنى قبيل تحديد المتلقي, صوغ لغة بمحسنات الفعل لا مزينات اللفظ, لغة تصرف على بوابات المصانع, لا في غرف الرأس المعتمة بعد هروب الشمس الى ما بعد الجبل متجاوزة كل دفء الماء المختبئ في واد ينبت زرعه دون الناس. 
لام قيس وليس لغادارا, لتلك الأعمدة التي أدمنت السفر إليها ولم تدمن انتظاري, لذلك الواد المقسم حيث ماءه الدافئ لازال مقنعا بان فعل الصعود للماء نحو قمة الجبل أمر ممكن, للهدوء الذي يعطيني نشوة لم أعشها في حياتي إلا هناك, لفعل العشق مع الحجر حين يصير العشق مع امرأة بعيدا عن عبق التاريخ وعمقه سخافة, لهناك حيث تورق النساء جسدا مجبولا بالفكر على شكل حجر ينطق برغبة المواصلة والتواصل, لهناك حيث انتشي بخطواتي وأتقن نقل الخطوة بعد الخطوة وفق ميزان الزمن وأتقن انتظار وطن وامرأة وماء وشمس وفعل حي لغد حي, لهناك كل أحلامي وانتظاري المسافر لا ذاك الذي امتهن البقاء على الرصيف, لهناك حيث التمني لا يجوز قبالة التاريخ حين يورق أفعالا تنطق فكرا فوق تلال تشهد أن للوديان أيضا بعيد الشمس دفء الماء.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *