التعددية الغربية أمام لعنة ابن خلدون


*زكي بيضون

العصبية هي أساس النظرية الخلدونية في الاجتماع ولكن العصبيات الشرقية عملت بخلاف المنطق الخلدوني. فالعقلية الكونفوشيوسية استطاعت أن تهضم كل العصبيات بينما سادت الغرب عنصرية الرجل الأبيض، وبعد ذلك سادت العصبية القومية واليوم ترتفع أصوات غربية تعيد شياطين العصبيات مخترقة بذلك النموذج الديموقراطي التعددي

تكشف لنا القراءة المتعمقة لإبن خلدون بأنه يرجع كل هويات الجماعة، على غرار الأمم والطوائف وجماهير فرق الفوتبول وغيرها، إلى عصبية أو رابط الدم الأصلي بين أفراد القبيلة. بنظره، كل هذه الهويات ليست سوى أشكال معمَّمة لعصبية الدم وأقنعة معقلنة لها، بحيث لا تكون الجماعة المفكَّرة أو المتخيلة سوى تهويم يجد جذوره في الجماعة الأصلية التي يجمعها الدم والرحم.
ليست العصبية الإبن خلدونية مجرد ظاهرة اجتماعية، بل هي بالأحرى المبدأ الدينامي الأول للإجتماع البشري، هي أشبه بقوة أو طاقة جذب تدفع أبناء كل بطن من بطون القبيلة إلى التلاحم والتعاضد في ما بينهم من جهة، ومن جهة أخرى تدفعهم إلى السعي لبسط سيطرتهم على أبناء البطون الأخرى وجعلها تدور في فلكهم، وتتكرر هذه الدينامية المزدوجة في كل تمظهرات العصبية اللاحقة وصولاً إلى الهويات الثقافية الأكثر عمومية. إلاّ أنه، وعلى خلاف دينامية الجاذبية، كلما اتسع نطاق الكتلة البشرية التي تدور في فلك العصبية، ضعفت قوة الجذب فيها بين المركز والمحور، وصولاً إلى انحلال العقد وانهيار الجسم أو تفككه. على هذا النحو، تمثل العصبية لدى إبن خلدون المحرك الأول للتاريخ بما هو تاريخ الإجتماع والعمران البشري، فهي علة نشوء الحضارات كما هي علة اضمحلالها وانهيارها.
ولو أردنا تطبيق منطق إبن خلدون على الهويات الثقافية، فسنجد أنه كلما صغر نطاق الهوية الثقافية واتجهت نحو التعصّب والإنغلاق والفئوية كلما ازدادت شباباً ونضارة وكلما اتسع نطاقها واتجهت نحو التعددية والانفتاح والكونية كلما شاخت ووهنت.
على عكس الاعتقاد الشائع، وحتى عهدٍ قريب، عملت العصبيات الشرقية بخلاف المنطق الإبن خلدوني في حين انتصرت له العصبيات الغربية. في الشرق الأقسى، تمكنت كونية العقلانية الكونفوشيوسية من هضم كل العصبيات البدوية التي غزتها من مغول ومانشو وغيرهم، وسادت على الإمبراطورية الصينية لأكثر من خمسة آلاف عام.
أما في العالم الإسلامي الذي يسميه الأنثروبولوجي الفرنسي ليفي ستروس غرب الشرق، فقد اكتفت العصبية الدينية المنتصرة باخضاع العصبيات الأخرى وإبقائها تحت هيمنتها، إلا أنها لم تمحها أو تبتلعها. بالمقابل، ومنذ انتصار المسيحية في الإمبراطورية الرومانية حتى الأنوار، اعتمدت العصبيات الدينية الأوروبية منهجاً تطهيرياً وإلغائياً في ما بينها وحيال الآخرين، ولم تستطع المسيحانية الأوروبية أن تحتمل في كنفها أي هوية دينية مغايرة ما عدا اليهودية التي أوكلت إليها الكنيسة وظيفة العدو الميتافيزيقي وأبقتها في حالة بأس واضطهاد مستمر لتبيان العدالة الإلهية وإظهار صحة الطريق المتبع، وضمناً لشد أواصر الجماعة أمام تهويم الذئب المتربص في الداخل.
بقيت الأنوار بدورها وفية للمنطق الإبن خلدوني، فهي استبدلت العصبيات الدينية الأوروبية بعصبيات قومية ـ إثنية تفوقها تعصباً وشوفانية، ورسخت في الخطابات الهوياتية الأوروبية تحول أساسي يقوم على استبدال الفوقية الروحية للعالم المسيحي بالفوقية العرقية للإنسان الأبيض، وجميع فلاسفة الأنوار تقريباً، باستثناء روسو، كانوا من المؤمنين بتلك الفوقية والتراتبية التي تفترضها بين الأعراق.
وهذه العودة إلى عصبية الدم الأصلية تحت مسمى العرق، وإن كانت متخيلة وتهويمية، هي إبن خلدونية بامتياز. وهي سمحت للمستعمرين الأوروبيين بأن يستغلوا ويستعبدوا لقرون الشعوب الواقعة تحت سيطرتهم، من دون أن تفقد عصبيتهم نضارتها أو توهن من جراء اختلاطها مع العصبيات الخاضعة لها، مع ما يولده ذلك من تعاطف وثقافة مشتركة مهددة لمنطق الإستعمار. إلا أن الإيديولوجيا العرقية الأوروبية هُزمت في الحرب العالمية الثانية، واضمحلت تدريجياً مع استقلال المستعمرات وارتداداته الأوروبية، ما أدى إلى تحرر المبادئ الكونية التي أرستها الأنوار من قيودها العرقية، ودفع بالغرب نحو تسامح وتعددية لم يعرفهما في تاريخه.
قل ما شئت عن الرواسب العنصرية والإستعمارية لدى الشعوب الغربية وعن انتهازية ولا أخلاقية سياسات دولها الخارجية، لكن يبقى أن قوانين الدول الغربية لا تميز بين مواطنيها بالعرق والدين والجذور الإجتماعية والإثنية، وهي تسمح نظرياً (وأحياناً فعلياً) لإبن مهاجر أفريقي أن يصل إلى أعلى المناصب ولعامل تنظيف أن يقيم دعوى على رئيس جمهورية، وذلك ليس متاحاً في أي مكان آخر في العالم. لكن اليوم، أمام التحديات التي فرضتها العولمة وثورة الإتصالات، ومع انتشار الأوبئة والفيروسات الهوياتية القاتلة على الشبكة العنكبوتية، بدأت ترتفع في الغرب أصوات إبن خلدونية تستدعي شياطين العصبيات الدينية والعرقية الآفلة، وتندد بانكشاف وسهولة اختراق النموذج الديموقراطي والتعددي.
قديماً، انهزم الشرق التجاري والتعددي وتهاوى أمام الغرب العسكري والأحادي. واليوم، لا يسعنا إلا أن نسأل : هل تنجو التعددية والكونية الغربية المستجدة من اللعنة الإبن خلدونية؟
_______
*السفير الثقافي

شاهد أيضاً

العولمة بين الهيمنة والفشل

(ثقافات) العولمة بين الهيمنة والفشل قراءة في كتاب “ايديولوجية العولمة، دراسة في آليات السيطرة الرأسمالية” لصاجبه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *