*حسونة المصباحي
ولد جوزيف برودسكي الذي ينتمي إلى عائلة يهوديّة فقيرة عام 1940. وقضى في طفولته في مدينة لينينغراد التي استعادت اسمها القديم «سانت بطرسبورغ»، بعد انهيار ما كان يسمّى بالاتحاد السوفييتي. كان يحبّ السير في الشوارع متأمّلاً الواجهات الرماديّة، والخضراء الشاحبة وقد أحدثت فيها معارك الحرب الكونيّة الثّانية ثقوباً، وتركت عليها آثاراً بارزة للعيان، وكانت الشوارع مقفرة إلاّ من بعض المارة يحثّون خطاهم وكأنّ أشباحاً مرعبة تلاحقهم. لكن بين وقت وآخر، كانت تنكشف للصبيّ كنوز الماضي، المتمثّلة في قصور القياصرة الفخمة، والتي كانت تماثيلها تحيل إلى اليونان، روما، ومصر الفرعونيّة..
في التاسع والعشرين من نوفمبر عام 1963م، وقف شاعر في الثّالثة والعشرين من عمره، يدعى جوزيف برودسكي، أمام قاض في محكمة بمدينة كانت تسمّى في ذلك الوقت «لينينغراد»، ودار بينهما الحوار التّالي:
القاضي: ما هي مهنتك؟
برودسكي: شاعر… أفترض ذلك.
القاضي: كلمة «أفترض» هذه لا تعني شيئاً هنا. استقم في وقفتك، ولا تستند إلى الجدار. انظر إلى هيئة المحكمة. هل لك مهنة قارّة؟
برودسكي: حتّى هذه اللّحظة كنت أعتقد أنّ مهنتي قارّة.
القاضي: لكن ما هو اختصاصك بصفة عامّة؟
برودسكي: أنا شاعر ومترجم.
القاضي: ومن الذي اعترف بأنّك شاعر؟ ومن هو الذي سمح لك بأن تكون ضمن صفّ الشّعراء؟
برودسكي: لا أحد. ومن هو الذي جعل منّي بشراً؟
القاضي: هل درست لكي تكون شاعراً؟
برودسكي: ماذا؟
القاضي: لكي تكون شاعراً… هل حاولت أن تواصل دراستك في المعهد؟!
برودسكي: لم أكن أدري أن الشّعر يدرّس في المدارس.
القاضي: وكيف لا يكون ذلك؟
برودسكي: أعتقد أنّ الأمر يتعلّق بإلهام من اللّه.
وبتهمة «شاعر طفيليّ»، أرسل جوزيف برودسكي إلى إحدى المصحّات العقليّة شأنه في ذلك شأن كلّ المبدعين، والفنّانين، والمثقّفين، والمفكّرين الذين كانوا معارضين للنّظام الشيوعيّ في ما كان يسمّى بالاتحاد السوفييتي.. بعد ذلك بسنوات، سمحت السّلطات الشيوعيّة للشّاعر الشاب بالهجرة إلى الغرب، فانطلق إلى العالم الرحب ليصبح واحداً من أهمّ الشعراء الرّوس في النّصف الثاني من القرن العشرين، وتقديرا لأعماله، حصل على جائزة نويل للآداب عام 1987.
انتهاك
مرة عاش الطفل جوزيف برودسكي حدثا ترسّخ في ذاكرته لسنوات طويلة. كان ذلك عام 1940م خلال الحرب. تلك الحرب التي ذهب ضحيّتها قرابة 20 مليون روسيّ.
كان الوقت شتاء. وكان الطفل البالغ من العمر خمسة أعوام بصحبة والدته في إحدى محطّات القطار وقد امتلأت بأفواج الجنود العائدين من جبهات القتال، وكان هؤلاء الجنود يتدافعون بالمناكب لركوب العربات المحمّلة بالدواب. وكانوا يبدون شبيهين «بحشرات بشعة». وفي لحظة ما، لمح الطفل الصغير كهلا أصلع كان يقفز على ساق خشبيّة محاولا ركوب إحدى العربات. غير أنّ المحاولات التي قام بها باءت بالفشل إذ أنّ الركّاب الآخرين كانوا يصدّونه فيسقط على الرّصيف. وفي المرّة التي تمكّن فيها من الصّعود إلى العربة، برزت من بين جموع الركّاب امرأة قاسية الملامح لتصبّ ماء ساخنا على رأس الكهل الأصلع، فسقط المسكين على الأرض متوجّعا. ثم لم يلبث أن اختفى تحت الأقدام المتدافعة! وسيكون ذلك الرجل رمزا للإنسان المسحوق بالنسبة للطفل الذي سيثور في ما بعد ضد تسلّط النظام الشيوعي في بلاده..
تماثيل الزعيم!
أوّل ما لفت انتباه جوزيف برودسكي في سنوات طفولته وشبابه، هو كثرة التماثيل التي تجسّد شخصيّة لينين، زعيم الثورة البلشفيّة، في مختلف مراحل حياته. وكانت تلك التماثيل موجودة في أماكن متعدّدة؛ في الإدارات العامة، وفي المدارس، والمستشفيات، والحدائق، ودوائر الشرطة. وكانت هناك أيضا تماثيل لستالين، ولمكسيم غوركي، ولفيليكس دزارنزيسيكي، مؤسسّ جهاز الاستخبارات الملقّب بـ «فارس الثّورة». ومع مرور الزمن، سوف ينفر جوزيف برودسكي من كلّ تلك التماثيل التي تملأ المدينة، والتي تبدو وكأنها تراقب حركات الناس، وسكناتهم في الليل كما في النهار.
كان جوزيف برودسكي في الخامسة عشرة من عمره لما قرّر الانقطاع عن الدراسة بسبب نفوره من الأساتذة، ومن زملائه أيضاً. ولم تعترض العائلة على قرار ابنها الذي أبدى استعداداً لتحمّل مصاعب الحياة خصوصاً بعد أن فصل الأب من عمله لسبب لا يدريه. وفي المعمل المتخصص في صنع الآلات الزراعية، اكتشف جوزيف برودسكي أن الطبقة العاملة التي كانت وسائل الإعلام الشيوعيّة تمجّدها باستمرار، مشيدة ببطولاتها في سبيل بناء الاشتراكية، تعيش في الحقيقة حياة قاسية، موسومة بالمذلّة، والمهانة. فقد كان العمّال يسكنون شققا ضيّقة، حقيرة. لذا كانت الخصومات تكثر بينهم فيتشاجرون، ويتبادلون الشتائم بأصوات عالية. وكانوا يضربون نساءهم، وأطفالهم. وعندما يتعتعهم السّكر، يبكون بحرقة: وفي المناسبات الوطنيّة، كانوا يقفون في السّاحات العامّة، وفي البرد الشديد، كما في الحرارة القائظة، لمباركة الاشتراكية، وتمجيد «الأب ستالين». ولم يلبث جوزيف برودسكي أن اكتشف أن المعمل الذي يعمل فيه يشبه السجن المحاذي له، وأن هذا الأخير يشبه بدوره المستشفى الذي يشبه الدوائر الحكوميّة، والمبنى المركزيّ المخصّص للشّرطة. باختصار كانت كلّ بناية تبدو كما لو أنها تابعة للأخرى رغم الفروق بين مهمّة كلّ واحدة منها. في هذا العالم الذي تخيّم عليه الكآبة، والرتابة، بدأ جوزيف برودسكي يشعر بالضّجر، والاختناق.
ومحاولا التّخفيف من وطأة كلّ ذلك، اندفع يلتهم الكتب متحاشيا قراءة الكتب المناصرة للنظام الشيوعي.. وعندما شرع يجاهر بآرائه بخصوص الأوضاع في بلاده، حكم عليه بالسجن أكثر من مرّة. وبعد أن يطلق سراحه، يجد نفسه محاصرا بعيون الشرطة السرّيّة. وهروبا من ذلك الواقع المرير، كان جوزيف برودسكي يغرق في القراءة إذ أن الكتب أصبحت تمثّل بالنسبة له «الواقع الأوّل والوحيد». ومع أصدقائه الغاضبين مثله، كان يمضي أوقاتا مديدة في الحانات، ومعهم يتبادل الآراء والأفكار حول الأدب، والفلسفة، والشعر، والمسرح، وبقيّة الفنون.
ومثلهم كان يسخر من غباء «زبانية النظام الشيوعي»، ومن رجال الشرطة السريين الذين يلاحقونهم طوال الوقت، ومن الكتّاب الرسميّين الذين «يكتبون كما يضرطون»، ومن «الأب ستالين» الذي يدخّن الغليون بينما بلاد بوشكين تغرق في أوحال اليأس، والعدميّة، والشقاء… ومنتشيا بالكلمات التي حقّقت له شيئا من السّعادة في ذلك الواقع الكئيب، كتب جوزيف برودسكي قصيدة أهداها إلى الشاعر الإسباني المقتول فريديريكو غارسيا لوركا، وفيها يقول:
أن نرى مرّة أخرى للحظة المشاهد الطبيعيّة
خلف النوافذ حيث تنحني نساؤنا
وأشباهنا الشعراء
أن نرى مرّة أخرى المشاهد الطبيعيّة خلف قبور أصدقائنا
والثلج البطيء الذي يطير حين يتحدانا الحب
أن نرى مرّة أخرى السّيول العكرة
للمطر الذي يزحف على الأرضيّات المربّعة
ويشوّش كلّ قياس
الكلمات التي تملي علينا واجبنا
أن نرى مرّة أخرى
فوق الأرض القاحلة
الصّليب وهو يمدّ أياديه الأخيرة المتصلّبة
ليلة مقمرة
أن نرى الظلّ الطويل الذي يلقي به الرجال والأشجار
ليلة مقمرة أن نرى مرّة أخرى
الأمواج الثقيلة للنهر
التي تتلامع كما سراويل بالية
ثم عند الفجر
نرى لمرّة أخرى الطريق ألأبيض حيث تبرز فصيلة الإعدام أن نرى أخيرا
الشمس تطلع من بين رقاب الجنود
وفي تلك الفترة الصّعبة من حياته، التقى جوزيف برودسكي الشّاعرة الروسيّة الكبيرة أنّا آخماتوفا التي كان ستالين ينعتها بـ «العاهرة»، والتي كان النظام الشيوعي يتعامل معها كـ «عدوّة»، و كـ «خائنة». وبعد أن تعدّدت زياراته لها، أهداها قصيدة فيها يقول:
ليس في يدك غير قمْع ورقيّ
وثمّة تاكسي مهتاج يلاحقك من بعيد
الماء يرتجف ويلتمع عند جنبيك
على الإسفلت تتدلّى خيوط الهاتف
◆ ◆ ◆
ترفعين وجهك المتألّق
ضحكتك ترنّ كصرخة وداع
وعلى الجسر الدافئ ثمّة وشوشة صمّاء
عابرة سوف تبلبل المدينة
لم أر، وسوف لن أرى دموعك
ولن أستمع إلى أزيز العجلات
التي تحملك إلى الخليج وإلى الأشجار
عبر تلك البلاد الخالية من تمثالك
وفي قصيدة «مرثيّة إلى جون دون»، يبلور جوزيف برودسكي رؤيته للشعر، وللشاعر في زمن التسلّط والاستبداد، وفيها يقول:
لكن ماذا! أنصتْ! في الظّلمات المتجمّدة
هناك أحد ينتحب ويهمس من شدّة الخوف
هناك سجين الشتاء أحد يبكي.
أحد يعيش هناك في الليل . صوت ناعم جدّاً
ناعم كإبرة دون خيط … صوت يندفع وحيداً
في الثلج ، في قعر البرد والضّباب ملصقاً
الفجر بالليل. قرب السماء
من الذي ينتحب هناك في الأعلى؟ هل هو أنت
يا ملاكي الذي ينتظر الثلج مثل الصيف
عودة حبيّ؟ في الظّلمات هل
تعود إلى بيتك؟
لا جواب..
وفي مقطع آخر من نفس القصيدة ، كتب جوزيف برودسكي يقول:
لا، أنا روحك يا جون دون
أنا وحيد هنا.. السّماء وأنا أتألّم
لأنني ابتكرت من حزني الذي لا يملّ ولا يتعب
مشاعر وأفكارا ثقيلة مثل السلاسل
وكان بإمكانك أن تطير مثقلا بهذا العبء
حتى الانفعالات والأهواء، حتى الذّنوب والخطايا
وأعلى من ذلك
لقد كنت عصفورا وكنت قد رأيت شعبك بأسره
يطير حتى الأفق على منحدر السّقوف
رأيت كلّ البحار، وكلّ البلدان البعيدة
ورأيت الجحيم في داخلك وعند كلّ الناس
ورأيت أمامك الجنّة الشفّافة منتظمة
في الدائرة الحزينة للانفعالات والأهواء.
ويختم جوزيف برودسكي قصيدته البديعة هذه قائلاً:
نم يا جون دون ، نمْ، ونم دون أن تعذّب روحك
قفطانك يترصّع بثقوب كالنّجوم، ويتدلّى موحشاً
انظر إليه وسوف ترى النّجمة تطلع منذ الأبد
حارسة لاستراحتك.
في عام 1972، أجبر جوزيف برودسكي على ترك بلاده بعد أن أمضى سنوات طويلة في السّجون، وفي المصحّات العقلية. وفي الولايات المتحدة الأميركية حيث اختار الإقامة، درّس الأدب والشعر في عديد الجامعات المرموقة. وباللغة الإنجليزيّة، كتب دراسات عميقة عن كبار الشعراء في القرن العشرين. وفي الخطاب الذي ألقاه بمناسبة إحرازه جائزة نوبل للآداب عام 1987، كتب جزيف برودسكي يقول: «الذي يكتب قصيدا يكتبه قبل كلّ شيء لأن الكتابة الشعريّة معجّل خارق للوعي، والفكر، وللإدراك الحسّي للعالم. والإنسان الذي جرّب ولو لمرّة واحدة هذا المعجّل لن يعود في حاجة إلى أن يصمد أمام تجديد مثل هذه التجربة، ويصبح متعلّقا بهذه السّيرورة بنفس الطريقة التي يتعلّق بها الواحد بالمخدّرات، أو بالكحول. والإنسان الذي يجد نفسه في هذا التعلّق بالنسبة للّغة، هو على ما أظن، نسمّيه الشاعر». وعندما انهار ما كان يسمى بالاتحاد السوفييتي مطلع التسعينيات من القرن الماضي، رفض جوزيف برودسكي العودة إلى بلاده، وظلّ في منفاه إلى أن توفيّ في نيويورك عام 1996.
_______
*الاتحاد