*شادي زريبي
يغوص حسونة المصباحي في روايته “أشواك وياسمين”، الصادرة، حديثا عن دار آفاق للنشر بتونس، في تاريخ إفريقية (الاسم القديم لتونس)، لا ليكتبه بطريقة المؤرخ، وإنما ليرسم في وعي التونسيين المكوّنات الأساسية للذاكرة التونسية.
قد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى أن المصباحي يعيد تكرار التاريخ، وهذا ما يجعلنا نطرح سؤالا، ما الجدوى من هذا الكم الهائل من الصفحات، إذا كنّا نعلم مسبقا بهذه الأحداث التاريخية؟ إلا أن المصباحي، في الحقيقة لم يأخذ على عاتقه التكرار التاريخي، إلا لكي يتجاوز ذلك، وبالفعل فقد صاغ لنا هذه الحقب التاريخية، وما حصل فيها حتى يذكرنا بأنها عندما تدخل طيّ النسيان فستتكرر الأخطاء نفسها، وستتواصل دوامة العنف والفوضى والتقتيل والتهجير، وكذلك خنوع الرعية واستبداد الراعي.
جوانب مظلمة
رواية “أشواك وياسمين” عبارة عن لوحات ومشاهد متغيرة من حقبة تاريخية إلى أخرى، فالمصباحي يستحضر شخصيات حقيقية حتى يرسخ ما ذهب إليه من أن أغلب تاريخ تونس مبني على الفساد والخيانات والمؤامرات والدسائس والسرقات.
فهو يستحضر يوغرطة البربري الذي تحدى الرومان بطريقة جنونية، حتى انقلب هذا التحدي على صاحبه، فكانت النهاية التراجيدية، بعد قطع أذنيه وموته في أحد السجون الرومانية، والدجّال “صاحب الحمار” الذي بثّ الفوضى القاتلة في جميع أنحاء البلاد إبّان منتصف القرن التاسع مشعلا نيران الفتن الدينية من خلال حروب دموية بين السنة والشيعة.
كما يستذكر حسونة المصباحي علي بن غذاهم الذي تمكن عام 1864 من أن يجمع حوله الكثير من الأنصار في ثورته على الباي وحاشيته الفاسدة لينتهي مقتولا عام 1867.
وفي فصل طويل نسبيا، يستعرض الكاتب سيرة الفاسد مصطفى بن إسماعيل الذي كان مشردا في الشوارع قبل أن يصبح من حاشية الباي المميزين والمقربين جدا، ثم صار الوزير الأكبر للمملكة ممهدا لاحتلالها من قبل فرنسا في ربيع عام 1881.
والرابط بين جميع هذه الشخصيات في جانب ما هو الاستبداد والطغيان، وفي جانب آخر زعامات حركات تمردية تنتهي دائما بالخسران والفشل الذريع. ويبقى هدف صاحب “أشواك وياسمين” استنهاض الذاكرة التونسية وتحفيزها والعناية بها لكي تقف في وجه النسيان وتتصدّى له.
على هذا الأساس يمكن القول إن رواية حسونة المصباحي تكشف جزءا مظلما من تاريخ تونس، وتزيح الستار القاتم الغليظ عن الأخطاء والجرائم التي ارتكبت من خلال الكثير من الحكايات التي تسير فيها الشخصيات معصوبة الأعين وميتة القلوب ومتحجرة العقول ولا شيء يتحكم فيها غير الغرائز المتوحشة والأهواء، مثل عبيدالله المهدي، ومراد باي، هذا الأخير الذي كان يتلذذ بأكل لحم ضحاياه مشويا، ومحمود بن عياد المتعطش للسلطة والجاه والمتكالب على المال، والذي نهب خزينة المملكة التونسيّة في بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر محتميا بالجنسية الفرنسية التي حصل عليها.
يركز حسونة المصباحي على الجانب الأسود من شخصياته وكشف الأخطاء التي ربما تناساها الجميع أو حاول البعض طمسها وإزالتها من أرشيف التاريخ. الرواية جرس إنذار قوي وصرخة من قلب الكاتب لما سيؤول إليه حال البلاد والعباد لو تواصلت مثل هذه الأخطاء، بوجود أمثلة حيّة عن الشرّ اليوم، رغم أن الجميع هلّل وصفّق لثورة 14 يناير 2011.
القرون تتلاحق، والأزمات تتوالى، والقليل من الأحلام التي تبشر بمستقبل أفضل يتلاشى بل يتحول إلى كوابيس مخيفة تقضّ مضاجع التونسيين. وعلى وتيرة هذا التكرار للتاريخ، تباشر الرواية تحليلا نقديا ليس فقط للتلميح إلى حتميّة في مصير التونسيين، وإنما أيضا للتشديد على وصمة تفسّخ أخلاقيّ وعجز ثقافي طالما طبع سير العديد من الذين حكموا البلاد والعباد.
ومنذ البداية يشير حسونة المصباحي إلى أنه تعمّد اختيار أن تكون أحداث روايته متوزعة على فضاءات متعدّدة وعلى أزمنة مختلفة، إلا أن الرابط الوحيد الذي يجمعها هي تونس. كما ينبّهنا إلى أن روايته ستكون خليطا من الأنماط التي قد تبدو متنافرة وغير متجانسة.
اختار المصباحي أن يعالج التاريخ من خلال ترصّد ملامح مهمة في سيرته كاتبا وإنسانا، ومن هنا نفهم لماذا كانت ذاته مبثوثة في أغلب الأمكنة والأزمنة؛ معنى هذا أنه أراد أن يكشف لنا أن كتابة رواية عن بلد ما لا يمكن أن تتمّ إلا بواسطة شكل من أشكال الفن المسرحي والذي هو في الحقيقة مكوّن أساسي لهذه الرواية.
لقد خيّر الكاتب أن يكون في المشهد من البداية إلى النهاية؛ فهو يحدثنا عن جذوره، وعن قراءاته، وعن قصص الحب التي عاشها في أطوار حياته، وعن صداقاته، وعن رحلاته، وعن الفترة التي أمضاها في إقامتين للكتاب في كل من “هاينريش بل” قرب مدينة كولونيا ألألمانية، وفي “فيلا أوروا” بمدينة لوس أنجليس الأميركية.
والأفضل من كل هذا أن حسونة المصباحي لم يتردد في أن يكثر من الاستشهادات المختطفة من الأدب العربي الكلاسيكي، ومن الشعر الصيني القديم، ومن كتاب فرنسا في القرن الثامن عشر، ومن الكتاب الألمان والأميركيين دون أن ينسى الإشارة إلى الأفلام التي رسخت في ذاكرته مدلّلا بذلك على معرفته الواسعة بالفن السابع.
مسرح كبير
يقول حسونة المصباحي لجريدة “العرب”: أردت أن تكون روايتي ناقلة أمينة للعديد من الأحداث التي وقعت في تونس، مركزا على الخيانات، وأنا أرى أن الكتابة يجب أن تكون في فضاءات متعددة لا مقتصرة على أحادية المكان. فالكاتب الحقيقي هو من يترك الطاولة والغرفة ويخرج إلى العالم. روايتي رحلة في تاريخ تونس المليء بالدسائس والمؤامرات، كما أني أردت أن أؤكد على أن أغلب الثورات يكون مآلها الفشل والخسارات لأن هناك دائما من يسعى إلى عرقلتها وحتى سرقتها.
من هنا نفهم أن الكاتب ركز على الجوانب السلبية التي بدأت تدخل الدهاليز وبدأت الأنوار تُطفَأ من حولها، حتى لا تراها الأجيال المتعاقبة، وهذا ما أراده المصباحي، عندما حوّل الرواية إلى مسرح كبير، أبطاله عاشوا وماتوا دون محاسبة فعلية، لذا اختار المصباحي أن يتحرك مع الشخصيات لا أن يحرّكها، لأنها موجودة بالفعل وبالقوة أيضا، وهي شخصيات لئن اختلفت في الزمان، فإنها اشتركت في المكان (أرض تونس).
ومن صفحة إلى أخرى يتجلّى لنا التاريخ التونسي متضمنا بعض الملامح من سيرة الكاتب، وبعض أصداء معارفه ألأدبية والفلسفية. فكما لو أن الدرس الذي يمكن أن نستخلصه من كل هذا هو أن تاريخ إفريقية لا يستند إلى الأخلاق بل إلى الثقافة العميقة.
ولعل الكلمة المفتاح في هذه الرواية هي الثقافة؛ الثقافة التي هي الحلقة الجوهرية والثمينة الغائبة عن السلسلة، وهي النواة الأساسية التي عليها ينبني صرح أمة من الأمم، وعليها تتأسس ثروتها الروحية. لهذا لم يتردد المصباحي في الإشادة ببعض الفنانين محوّلا إياهم إلى أيقونات وطنية.
______
*العرب