الثورات المخطوفة


حلمي النمنم*



الكاتب والصحفي الأميركي جون برادلي يعرف بلاد المنطقة جيدا وتردد كثيرا على مصر وتونس وعاش فترات في البلدين، يعرف مدينة الأقصر جيدا وله أصدقاء في حي شبرا بمدينة القاهرة، وأصدر في عام 2008 كتابا بعنوان «في قلب مصر: أرض الفراعنة على شفا الثورة» وترجم الكتاب الى العربية وطبع في القاهرة عام 2009، ومع ذلك حين بدأت الثورة في تونس ثم في مصر، شعر بالذعر ـ كما يقول ـ وكان هذا الشعور بداية كتابه الجديد الذي صدرت ترجمته العربية، قبل أيام بعنوان «ما بعد الربيع العربي».

مصدر قلق أو ذعر برادلي أن الصحفيين والمعلقين الغربيين في الولايات المتحدة تحديدا تصوروا أن إزاحة الحكام العرب، خاصة زين العابدين بن علي في تونس وحسني مبارك في مصر، سوف تفتح الطريق أمام تحقيق الديمقراطية والليبرالية، وهو يرى غير ذلك فلن يأتي غير الإسلاميين، وهم لا يعترفون بالديمقراطية ولا الحريات، حتى إن ادعوا غير ذلك.

سرقة الثورات

التاريخ الحديث يثبت أن الثورات يتم اختطافها من قبل غير المشاركين فيها ولا تأتي ـ غالبا ـ بالحرية، الثورة الفرنسية في سنواتها الأولى أفرزت عصر الإرهاب، في روسيا جاءت الثورة البلشفية عام 1917 بستالين الى الحكم، وكان اشد طغيانا من القيصر. وفي ايران كان الملالي آخر من شارك في ثورة عام 1979 ضد الشاه، كان اليساريون والوطنيون والليبراليون هم العمود القوي للثورة ثم أزاحهم رجال الدين وتقدم اية الله خميني بشخصيته الكاريزمية، وفي مصر وتونس كان برادلي يرى أن الإسلاميين سوف يخطفون الثورة ويصبحون اكثر استبدادا من سابقيهم، في تونس ضمن زين العابدين بن علي حرية المرأة ومنع التشدد في الشارع، لكن بعد الثورة ظهرت «الشرطة الأخلاقية» في الشارع، التي تحاسب وتعاقب النساء على ملابسهن، وفي مصر كان الإخوان المسلمون آخر من ظهر في ميدان التحرير وعبر المساندة الاميركية ودعم المجلس العسكري تسلموا حكم البلاد.

في مصر- تحديدا- كانت المعارضة المدنية والليبرالية مقموعة لعدة عقود، من نظام وجهاز أمن طاردهم وراقب تحركاتهم ومنع اجتماعاتهم، الى جوار إسلاميين متشددين كانوا يحكمون عليهم بالكفر ويهددون حياتهـم، فقتلـوا د. فرج فـودة فـي صيـف عام 1992 أمام مكتبه عصرا وفي عرض الشارع، ثم طاردوا د. نصر حامد ابوزيد قضائيا حتى تم تهريبه من مصر، وجرت محاولة اغتيال نجيب محفوظ في أكتوبر 1994 عصر يوم الجمعة أمام منزله بحي العجوزة على نيل القاهرة.

برادلي الذي عرف مصر جيدا كان يدرك أن المتشددين الإسلاميين هم الأكثر تنظيما ومن ثم سوف يكونون مستعدين لخوض الانتخابات التي لا يذهب إليها سوى اقل من نصف من لهم حق التصويت، ومن ثم لا يكون أمامهم سوى حشد أنصارهم ليفوزوا لأن الاخرين لا يذهبون وغير منظمين وكل ما يحتاج إليه الإسلاميون للفوز في مصر وتونس هو تدبير عدد الحافلات والسيارات التي ستنقل الأتباع الى لجان التصويت فقط وهذا ما حدث.

يقول برادلي انه كان ضيفا على قناة إخبارية أميركية في فبراير 2011 بعد خروج حسني مبارك من قصر الرئاسة وراح يحذر من أن الإسلاميين هم من سوف يملأون المشهد ويخطفون الثورة، ورفض مقدم البرنامج آراءه التشاؤمية وأنهى اللقاء وصرفه على عجل متعللا بأن اليوم يوم الاحتفالات وليس يوم التشاؤم، وبالفعل كان هناك مئات الآلاف من المصريين يحتفلون في ميدان التحرير ولم يستمع أحد اليه.

جهل أميركي

جزء من المشكلة عنده يكمن في الولايات المتحدة ودول الغرب، التي لا تهمها الديمقراطية ولا الحرية في بلاد المنطقة، لذا ساندت شاه ايران حتى النهاية وهكذا فعلت مع حسني مبارك وفعلت فرنسا الشيء نفسه مع زين العابدين وايطاليا مع القذافي، وسلموا هذه البلاد الى المتشددين أو من يسمون في بلاد الغرب «المعتدلين الإسلاميين» ويذهب الى أن هناك جهلا أميركيا تاما بمطالب الشعوب في المنطقة، وفضلا عن ذلك لا يعرفون ثقافة المنطقة جيدا، مثلا احد مستشاري الرئيس الاميركي اوباما أصر خلال ثورة يناير المصرية على أن جماعة الإخوان المسلمين تضم أشتاتا من مختلف الأطياف العلمانية، وهذا غير صحيح، وكل ما تردد عن أنها جماعة معتدلة غير صحيح، هم لا يؤمنون بالحرية ولا بالديمقراطية.

توهم الاعتدال في الجماعة لدى الخبراء الاميركيين جاء من أن هؤلاء الخبراء قارنوا الأخوان المسلمين في مصر وجماعة النهضة في تونس بأسامة بن لادن وتنظيم القاعدة، وهم لا يدركون ان الخلفية الفكرية لكل منهم واحدة، لكن الإخوان براجمانيون لذا راحوا يؤكدون احترامهم لقواعد الديمقراطية وانهم ملتزمون بالسلام مع اسرائيل ولا يريدون الحرب معها، ولو عرف هؤلاء الخبراء الشعب المصري لاكتشفوا انه شعب مسالم ولا يريد الدخول في حرب مع اسرائيل، ومن ثم فإن الإخوان هنا لا يقدمون جديدا.

المشكلة عند الاميركيين في تقرير برادلي انهم تصوروا أن كل المصريين والتونسيين خرجوا الى الميادين للمطالبة بالديمقراطية والليبرالية، وهو يرى أن 20 في المئة فقط من الذين خرجوا في مصر جاءوا لأسباب تتعلق بالحريات العامة والليبرالية بينما كان الباقون يطالبون بفرص العمل والخروج من دائرة الفقر وهذا ما لم يدركه خبراء الولايات المتحدة.

زار برادلي مصر وتونس في سبتمبر وأكتوبر من العام 2011، واكتشف أن الخوف ازداد وان الأمن مفقود، كان يمكن أن يسير في شوارع القاهرة في أي ساعة من الليل وبأمان تام، ليس في القاهرة فقط، بل والاسكندرية أيضا، لكنه في عام 2011 وجد أن هناك حالة من الخوف لدى المواطنين من السير في الشارع بعد السادسة، وكان يمكن لأصدقائه في شبرا من قبل أن يعرضوا استضافته للمبيت، لكنهم صاروا يخافون من ذلك لأن وجود اجنبي لديهم قد يعرضهم للاتهام باستضافة شخص ربما يظهر انه جاسوس أو يقول الإسلاميون عنه ذلك، الأمر نفسه وجده بصورة أعنف في تونس العاصمة وعدد من المدن التونسية الأخرى.

الخبراء الاميركيون يخطئون لأنهم يتصورون أن الديمقراطية والليبرالية يمكن أن تتحقق في بلاد المنطقة بين يوم وليلة، بينما تحققت في فرنسا عبر عقود وكذلك في بريطانيا وفي الولايات المتحدة نفسها.

– الاتحاد

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *