*رنا قباني
كنا في شقتنا نشرب الشاي مع الياس خوري، الذي حول نفسه من مقاتل في الحرب الأهلية اللبنانية (وجرح في عينه أثناءها) الى روائي قدير ولامع، حين جاء خبر وصول الخميني الى طهران، بعد أن غادرها الشاه. وكانت الحشود في المدن الإيرانية تحتفل بنجاح ثورتها الشعبية على «السافاك» الذي طالما حاربت نظامه المخابراتي المخيف، أثناء انتفاضتها على الفروق الطبقية القبيحة التي أخذت تتعمق أكثر فأكثر في البلاد ( كما تعمقت بشكل كارثي في يومنا هذا).
أذكر كم فرح الياس بهذا التحول الكبير، ولكن محمود درويش كان حذرا للغاية، وقال له: «عليك أن تنتبه من المرحلة المقبلة، التي سيقودها رجال دين!». كم أصاب ببعد نظره وكلامه، خاصة بعد ما تبين- وبسرعة مخيفة- أن رغبات الحكام الجدد في ايران، انعكست من طلب الديموقراطية، الى تمكين حكومة ولاية الفقيه. ثم ابتدأ حبس أو قتل الأقليات، والإنتقام الوحشي من رجالات الشاه ومن المعارضين العلمانيين أيضاً. وحينها، بدأ الاضطهاد السياسي للنساء، اللواتي كن جزءا لا يتجزأ من الثورة الطلابية، وفرض على كل امرأة ارتداء «الشادور»- الذي كان قد منعه والد الشاه قبل سنين طويلة. تناقضات التاريخ وسخرية الأحداث، جعلت من قرار المنع البهلوي في زمنه الذي أضطر مجموعة كبيرة من النساء المتدينات اللواتي تعودن على ارتدائه منذ الصبا، أن يخفن من الخروج من بيوتهن، سجينات للحداثة. فهكذا ذهبت المرأة الإيرانية من نقيض الى عكسه، في جيلين فقط.
المعارضة الديموقراطية الحقيقية (وخاصة اليسارية منها) أنهيت في وقتها، وبقي الحال كذلك- بالرغم من الموجة الخضراء المتفائلة، التي قمعت بشراسة تذكر بأعنف التعذيب أيام السافاك- حتى زمننا هذا. ثم تبين أن بطش «رجال الدين» وفسادهم المتزايد، بات يعادل (إن لم يفق) بطش الشاه، وإسرافه الجنوني على عظمته الشخصية، وعلى بلاطه.
في تلك الحقبة، كانت ثورة الشعب الفلسطيني ثورة علمانية، غلب عليها الابتعاد القومي عن الدين بشكل ملحوظ، لدرجة أن أي تقي في صفوفها كان ينظر اليه بإستغراب، بل حتى بشيء من السخرية. كانت الفئات المتحكمة في حركة فتح- باستثناء بعض الأفراد، الذين أبعدوا أو قتلوا- تركز كل اهتمامها على التقرب من الإتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية التابعة له، ثم كوبا، وبلدان أخرى شيوعية أو اشتراكية. لم تفكر أبداً بنسج علاقات متينة مع الدول الغربية، التي كانت تدعم اسرائيل بالكامل، لكي تحاول التأثير في الرأي العام العالمي قدر المستطاع. فحين إنهار السوفييت، إنهارت معه جهود فلسطينية وعلاقات هامة، كانت قد بنيت- بشيء من قصر النظر- خلال أعوام كثيرة. وكان يقول لمحمود ممثل منظمة التحرير في تشيكوسلوفاكيا، بتهكم ومرارة، انه تحول في ليلة من ملك براغ، الى صرصورها!
الثورات الكثيرة التي قامت في العالم في وقتها، كانت حبيسة الحرب الباردة، وقطع شطرنج فيها. هل أفاد الكفاح المسلح قضية فلسطين، أم أضرها؟ هذا سؤال لا جواب حصريا عليه، سوى القول بأن دولة فلسطين لم تقم بعد، وعذابات فقراء فلسطين لم تتغير منذ النكبة، كما نرى في مخيم اليرموك الجائع المحاصر وفي سجن غزة المدمر الأليم.
كلما مررنا في مطار في الغرب، واضطررنا للوقوف تحت الآلات الإلكترونية التي تفحص الحقائب، كان محمود يقول لي: «هل هذه هديتنا للعالم، يا ترى؟». حين تعرفت على ليلى خالد في موسكو في دار ممثل المنظمة، صعب علي التصور أن هذه الامرأة المهتمة بأناقتها والتي أحبت المازة وكأس العرق، هي نفسها الفدائية التي مع زمرة من رفاقها، أرعبت الدنيا وغيرت صورة الفلسطيني من لاجىء الى إرهابي. هل كان لدى الفلسطيني مخرجا آخر سوى العنف المضاد للعنف الذي مورس عليه؟ أفكاري عن هذا الموضوع الشائك تغيرت مع السنين، ولكني ما زلت لم أجد لنفسي الرد المقنع تماماً.
بالرغم من وجود ليلى وفاطمة البرنيسي وحفنة من النساء من أمثالهن، كانت الثورة الفلسطينية ذكورية حتى العظم، وأفرادها من الرجال يعاملون النساء وكأنهن دمى أو ربات منازل فقط. وكان التحرش الجنسي موجودا في صفوفها، فما من اسم أصبح قائدا ذا «طنة ورنة» إلا وحاول مغازلتي بشكل صادم عند خروج محمود من الغرفة لمدة دقائق قليلة.
فلم أعد أحب الجلوس مع أصدقائه، الذين يأتون الى دارنا كل ليلة دون زوجاتهم، يشربون ويدخنون وأصواتهم تصل الى آخر الشارع في سكون الليل، وهم في نقاشات كانت تبدو لي عقيمة، وخالية من السياسة- مجرد من قال ماذا لفلان، ومن أحب زوجة من. فكنت اختبئ في غرفتي لأقرأ، ولكن حتى القراءة كانت شبه مستحيلة في كل هذا الضجيج.
في ليلة ما، بعد أن رحلت «الخلية الثورية» في الساعة الواحدة من الصباح، طلبت من محمود أن يغسل الصحون والكاسات التي كانت مبعثرة في كل مكان، لأنني كنت مرهقة- فقد حضرت عشاء لعشرة أشخاص- والماء سوف ينقطع بعد ساعة. عدت الى الغرفة لأنام، ولكنني سمعت أصواتا ظننتها طلقات رصاص، فانتابني خوف على محمود، الذي كان وقتها مهددا بالقتل، من أكثر من طرف، فلسطيني ولبناني وإسرائيلي. أسرعت الى المطبخ، لأجد زوجي يرمي الصحون والشوك من بلكون الطابق التاسع، ويكسر كل الكاسات. فنظرت اليه بدهشة، وسألته: «ماذا تفعل؟».
كان رده الممتع هو التالي: «أنا أغسل الصحون كما طلبت مني! واكتشفت أسرع الطرق لفعل هذا».
_______
*القدس العربي