*د.عادل الأسطة
وأنا أقرأ رواية عاطف أبو سيف “حياة معلّقة” (2013) تذكّرت رواية (ثيودور هرتسل) “أرض قديمة ـ جديدة” (1902) وتذكرت عائلتيْ أبي وأمي وما ألمّ بهما في أثناء نكبة 1948 وما تلاها. في رواية (هرتسل) يسأل المسيحي (كينغز كورت) العربي رشيد بك، بعد أن يتحدّث اليهودي (شتاينك) عن الاستفادة التي جناها سكان البلاد العرب من قدوم الصهيونية، وموافقة رشيد بك على كلامه، يسأل (كورت) رشيد بك السؤال التالي: “ألم تنهدم مكانة سكان بلاد إسرائيل القدامى بسبب هجرة اليهود؟ ألم يضطروا إلى مغادرة البلاد؟ إنني أقصد الأكثرية الساحقة، فقد يكون ثمة أفراد استفادوا، ولكنهم لا يُتخذون مقياساً!”. وهنا يجيب رشيد: “أي سؤال هذا! لقد كان هذا الأمر بركة لنا جميعاً، وفي الطليعة، طبعاً، أصحاب الأملاك الذين باعوا أراضيهم بأسعار عالية للمجتمع اليهودي، أو الذين حافظوا على أراضيهم بانتظار أسعار أعلى، فأنا شخصياً قد بعت الأراضي لمجتمعنا الجديد، وعلى هذا فقد وجدت خيراً عميماً”.
وفي استذكار ما ألمّ بأبي وعائلته، وأمي وعائلتها، إثر نكبة 1948 عدت إلى أعوام خلت. في 60 ق20 عرفت أن لي أبناء عم في الشام، وتعرفت إليهم، فقد جاؤوا لزيارتنا في المخيم، وسأزورهم في 1975 حين أزور دمشق. وبعد هزيمة حزيران 1967 تعرفت إلى عمتي رئيسة التي زارت إخوانها في الضفة، بعد انقطاع 19 عاماً، فقد هاجرت هي وزوجها إلى غزة، وسأتعرف إلى أبنائها وبناتها وسأزور غزة التي ربما ما كنت لأزورها لولا وجودها هناك ـ هذه “بركة” من “بركات” حرب 1967.
مات عمي في الشام، في بدايات هذا القرن، ولم يحضر جنازته أي من إخوته، وسيموت لي عم آخر في عمان، وسنعرف عن خبر موته من الآخرين. وعمي هذا الذي توفي في عمّان له ابن يقيم في مصر منذ 1948، فقد هاجرت زوجة عمي إلى هناك حيث أهلها، ولم نتعرف إلى ابنه، على الرغم من أن أخي حاول البحث عنه. هل اختلفت أحوال عائلة أمي؟ أيضاً، في 60 ق20 تعرفت إلى خالتي فاطمة التي استقرت بعد النكبة في دمشق مع زوجها السوري، كما تعرفت إلى بعض أبنائها الذين زارونا في تلك الفترة، وحين زرت الشام في 1975 زرت خالتي وتعرفت إلى من لم أتعرف إليه من أبنائها، وقد ماتت خالتي، دون أن يشارك كثيرون من أقربائها المقيمين في الضفة في جنازتها. وكل هذا، أيضاً، من “بركات” قيام دولة إسرائيل التي تحدث عنها العربي المتخيل في رواية (هرتسل): رشيد بك الذي رحب بالمشروع الصهيوني.
وأنا أقرأ رواية “حياة معلّقة” وأُتابع ما آلت إليه أسرة نعيم تذكرت ما سبق وتذكرت نصوصاً أدبية كثيرة صوّر كتابها شتات العائلات الفلسطينية.
لسميرة عزام قصة عنوانها “عام آخر” شخصيتها تقيم في لبنان وابنتها تقيم في الناصرة، وكلما جاءت الأم لتقابل ابنتها، على بوابة مندلباوم، اعتذرت البنت، لأن هناك ما يحول دون اللقاء: الولادة ومرض الزوج و…. . ولغسان كنفاني غير عمل أتى فيه على فكرة الشتات أبرز هذه الأعمال “ما تبقّى لكم” 1966. الأم تهاجر من يافا إلى الأردن، والبنت مريم وأخوها حامد يهاجران إلى غزة، فيما يستشهد الأب في يافا. هذه، أيضاً، “بركة” من “بركات” المشروع الصهيوني.
وفي “سداسية الأيام الستة” يُصوّر أميل حبيبي لقاء العائلة إثر حرب حزيران، وهو ما بدا في قصة “حين سعد مسعود بابن عمه”، وإذا كانت حرب 1948 فرقت بين الإخوة، واحد في الناصرة والثاني في مخيم جنين، وهذه صورة من صور شتات العائلة، فإن حرب 1967 مكنت أبناء العمومة من الالتقاء.
ولا تخلو رواية “المتشائل” من الإتيان على نوع آخر من الشتات له دلالته الرمزية، فنكبة 1948 فرقت بين الحبيبين: سعيد ويعاد.
ربما من آخر الأعمال الأدبية، قبل “حياة معلّقة” التي أبرزت فكرة الشتات روايات يحيى يخلف “ماء السماء” و”جنة ونار” ـ لم أقرأ الأخيرة وقرأت عنها ـ وروايتيْ سامية عيسى “حليب التين” و”فسحة في كوبنهاجن”، وفيهما تتسع رقعة المنفى، وليعذرني روائيون آخرون كتبوا عن الفكرة نفسها.
تجسّد رواية “حياة معلّقة” هذه الفكرة، وتكاد تتوازى، جزئياً، في هذا الجانب، مع رواية “ما تبقّى لكم”. الهجرة تتم من يافا، وبعض أفراد العائلة يستشهدون في حرب 1948، وآخرون يقيمون في غزة، وقسم يقيم في الأردن أو في بيروت أو.. أو… . (سأعرف أن أسرة عاطف أبو سيف من يافا، وأن ما ألمّ بأسرة أهلي ألمّ بأسرة والده). من الشخصيات الرئيسة في رواية عاطف يافا، وهي من مواليد غزة، خلافاً لأبيها الذي ولد في يافا المدينة، وفي العام 1948 تفرّقت العائلة أيدي عرب، على رأي أميل حبيبي، ولم يعد والد يافا نعيم يعرف شيئاً عن أخيه الأوسط. وحين تقرر يافا زيارة بيروت زيارة عمل تبحث هناك عن عمها، وتزور المخيمات، مع نادر المقيم في لبنان، ليساعدها في البحث.
وستحصل الدهشة حين يكتشفان أنهما أبناء عم، وهكذا يقرران الزواج. “فالحاج توفيق سرحان سيقول ليافا إنه هاجر للبنان مباشرة عند النكبة، وعرف بعد ذلك أن أحد إخوته يعيش في مخيم الوحدات قرب عمّان وأن (أخاه) الآخر يعيش في الضفة الغربية ثم انقطعت أخبار الأخ الثاني منذ ثلاثين سنة…… وعليه لم يعد نادر فقط حبيبها وخطيب المستقبل، بل، أيضاً، ابن عمها.” (ص229)، وهذه النهاية السعيدة للبداية الأليمة هي، أيضاً، من “بركات” المشروع الصهيوني. هل كنا سنعثر على نهاية كهذه إلاّ في رواية (فولتير): “كنديد” ورواية حبيبي “المتشائل”، وهذه، أيضاً، “بركة” من “بركات” أبناء العمومة!! كما رآها (هرتسل) وأوردها على لسان رشيد بك!.
________
*الأيام الفلسطينية