آرثر ميلر يمسرح حياة المهمشين


*عثمان حسن


حين نتأمل تجربة الكاتب المسرحي الكبير آرثر ميلر (17 أكتوبر 1915 – 10 فبراير 2005) الذي مر على ميلاده الآن مئة عام، فإننا في الحقيقة نتأمل تجربة شخصية نادرة في قدرتها على فهم الحياة، وهي شخصية مثقفة إلى أبعد الحدود، يؤكد ذلك ما صدر عنه من أقوال وعبارات تسلط الضوء على رجل كان مهموماً بالمسرح، إيماناً منه بتلك القوة التي يمكن أن يحفزها الفن في الجمهور.. هكذا كان صاحب «وفاة بائع متجول»، الذي كان يرى إلى العمل المسرحي الناجح بوصفه بناء أو هيكلاً يشبه قصة الطيور التي تعود لتجثم على أعشاشها، العش بالنسبة للعصفور، هو المنزل الذي يلخص رحلة الطيران والشقاء، والطير يشبه الطفل، بل يشبه روح الطفل التي كان آرثر ميلر يعتقد أننا لن نستطيع إمساكها، والتعامل معها، إلا بعد أن نجلس هادئين وأكثر من ذلك نتمتع بقدر هائل من الحب، عندها فقط سنجد أن هذه الروح قد أقبلت نحونا بكل هدوء.

عرف الناس آرثر ميلر، الذي منح جائزتي بوليتزر ودراما كريتيكس عام 1949، ككاتب وروائي ومسرحي أمريكي، بل كان يعد من عمالقة المسرح الأمريكي على مدى 61 عاماً، ومن مناصري الحرية الفكرية والمدافعين عنها، وممن نددوا بكافة أشكال القمع ومن المنادين بفكرة مسرح في متناول الجمهور.
عمله في المسرح، هو صنو أفكاره التي كان يؤمن بها، أما كيف كان ميلر يفهم المسرح، فإنه بالنسبة إليه كان عبارة عن معركة، وهذه المعركة لا تكون عادلة أبداً حين نبدأها مع طفل صغير أو شخص غريب، حينذاك فنحن لن نخرج من الغابة التي دخلنا إليها، تماماً مثل التفاحة العالقة على شجرة المعرفة التي تحتاج إلى قوة مضاعفة، وتمكين، بل بتمعن أكبر من خلال الرؤية لمشاهدتها.
من هنا، نفهم نقده للكثير من المسرحيات الهزلية، التي كانت تعرض في زمانه، وهي في العادة تلك الأعمال التي كانت لا تتضمن فكرة أو هدفاً، وهو الذي صنفه في خانة المسرحيين المقروئين، الذين تمحورت حوله العديد من الدراسات والتحليلات والقراءات الأدبية والمسرحية أيضاً.
قال ميلر يوماً «لقد مات المسرح الجاد في أمريكا»، وهذا القول يضيء عليه بوصفه كاتباً يتبنى قناعات فكرية يعكسها دائماً في أعماله المسرحية وذلك من خلال أول عمل كتبه وهو مسرحية «كلهم أبنائي» 1947، والتي أتبعها ب«وفاة بائع متجول» 1949 التي تعتبر الأكثر شهرة وتعريفاً بميلر في أوساط الكتاب والمسرحيين والقراء على حد سواء، وصفت هذه المسرحية، وكما كتب عنها الناقد الدكتور محسن الرملي «بأنها تحمل في طياتها نظرة ناقدة للحلم الأمريكي وتتناول نقاط التصادم في طبيعة العلاقة بين ما هو اجتماعي وما هو فردي نفسي، فكان بطله ويلي لوماس الجوال الأمريكي البسيط الذي مثل جوهر المأساة ورمز للملايين من الأمريكيين الذين -يعبدون آلهة العصر.. الملقبة بالنجاح».
من هنا، ودائماً، كانت تلعب مسرحيات ميلر على فكرة الأمل، أو الحياة والأمل التي تورد أحد الاقتباسات المنسوبة له، أنه كثيراً ما كان يركز على تنمية الجانب المشرق عند الأفراد، وهو الذي يطابق فكرة الخير مقابل فكرة الشر التي نبذها في أعماله كلها، غير أن ما هو مهم أيضاً بالنسبة للنص المسرحي الذي يكتبه ميلر، هو اهتمامه بموضوع طرح الأسئلة، وهي أسئلة لا تنتظر في العادة إجابات صارمة أو دقيقة، وهي مسألة لها علاقة مباشرة بدور المسرح في تحفيز الوعي، وهو ذات المنهج الذي كان يتبناه المسرحي النرويجي هنريك إبسن (1828 1906)، بوصف هنري ميلر كان معجباً به، وهو صاحب بل مؤسس المدرسة الواقعية الاجتماعية التي كانت تهدف إلى زيادة الإدراك والوعي بالحياة وتغيير الواقع الاجتماعي. 
شملت مجمل أعمال ميلر جميع فروع الكتابة في المسرح والمقالة والنثر والرواية والقصة، لكنها في المجمل كانت أعمال مسرحية مثل: الرجل المحظوظ 1944، وكلهم أبنائي 1947، وفاة بائع متجول 1949، البوتقة 1953، ونظرة من الجسر 1957، وبعد السقوط 1964، وحادثة في فيشي 1965، الثمن 1968، والساعة الأمريكية، مقتبسة عن أوقات صعبة لتشارلز ديكنز 1980 وغيرها.
في احتفال رسمي جمع عدداً من المسرحيين والمشاهير الذين تذكروا ميلر بمناسبة مرور مئة عام على ولادته، كان المحتفلون مسرورين لكون ميلر حتى وقت متأخر من حياته لم يفقد جزءاً من شعبيته العارمة، فقد قدمت مسارح لندن منذ عام 2014 ثلاثاً من أشهر مسرحياته هي «البوتقة» و«منظر من الجسر» و«وفاة بائع متجول»، كما قدمت مسرحية «الخطاف» التي كتب ميلر نصها الأصلي للسينما في عام 1950، في مدينتي نورثامبتون وليفربول.
تحدث المحتفلون عن سبب الجاذبية التي تتمتع بها أعماله حتى الآن، ومنهم السير انتوني شير الذي قام بدور ويلي لومان في إنتاج فرقة شكسبير الملكية لمسرحية «وفاة بائع متجول» عام 2015، مؤكداً احتفاظ مسرحيات ميلر بعنفوانها حتى اليوم. كما تحدث الكاتب المسرحي الن آيكبورن الذي أخرج مسرحية «منظر من الجسر» عام 1987 بقوله «إن ميلر يصنع بقلمه شخصيات واقعية في أوضاع أبدية نستطيع أن نتماهى معها»، من جهته أعرب مارك سترونغ الذي فاز بجائزة أوليفييه في 2015 عن دوره في المسرحية نفسها عن رأي مماثل مشابه لبي بي سي «إن ميلر يرفع مرآة ويرينا من خلال تصرفات آخرين كيف نتصرف نحن».
في ذات الإطار قال هاورد ديفيز الذي أخرج مسرحيتي البوتقة وكلهم أبنائي، «إن ميلر يصنع مآسي من حياة أشخاص اعتياديين إما يستطيعون أن يتحملوا هذه الأزمات أو ينهاروا تحت وطأتها».
من جانب آخر يشير الناقد إبراهيم العريس إلى مسرحية «الثمن» التي تعتبر الأقل شهرة بين أعمال ميلر لا لضعفها، بل لأنها كتبت متأخرة عن المرحلة التي توصف بأنها فترة العصر الذهبي في حياة هذا الكاتب، وهو يؤكد أن شهرته لدى العامة، ربما تعود إلى أنه كان آخر أزواج النجمة مارلين مونرو التي ارتبط اسمه باسمها، أكثر مما تعود إلى انتشار أعماله الدرامية، وهذا لا يمنع أن بعض مسرحياته، مثل «مشهد من على الجسر» و«وفاة بائع متجول» و«كلهم أبنائي» و«البوتقة» تعتبر دائماً أعمالاً شعبية ذات مكانة لدى الجمهور العريض، خصوصاً أن السينما والتلفزيون عمدتا إلى اقتباس هذه الأعمال وإعادة تفسيرها.
تركز مجمل أعمال ميلر على شخصيات مهمشة وضائعة وفاشلة في المجتمع الأمريكي، وهذا الاهتمام لم يمنعه من تجويد الأعمال التي يكتبها، بل كان حريصاً على إبراز العناصر الجمالية فيما يكتب، وهو الذي أشار إليه بالقول: إن من الخطأ أن ننظر إلى الأمل من خارج ذواتنا، هذه الذوات التي يمعن آرثر ميلر في تخيلها بعيدة عن استدراج التفكير الذي لا يقود إلى قيمة ومنفعة، وذلك في إطار ترسيخ مفاهيم الحب والخير ضد الظلم وكافة أنواع الشرور.
_______
*الخليج الثقافية

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *