ست قصص قصيرة جدًّا


*محمود شقير


خاص ( ثقافات )
رسالة
أرسلتُ لها رسالة على بريدها الإلكتروني (كنت سجّلته في مفكّرتي وأنا هناك)، فيها استفسار عمّا جرى وفيها شيء من عتاب. قلت لها: افتقدتك قبل مغادرتي اسطنبول. كنّا معًا في قصر السلطان ثم اختفيت.
اتجهتُ في الصباح إلى المطار، وكنت راغبًا في أن تكوني معي. ولطالما تساءلت: هل أغضبتك؟ هل أثقلت عليك؟ وإلا فما هي أسباب هذا الغياب؟ 
لم أشأ أن أصارحها بتخميناتي حول الماضي الذي يهيمن عليها (أو هكذا خيّل إليّ، وقد أكون مخطئًا). لم أشأ أن أسألها عن أسباب تقلّبها وعدم ثباتها على حال. قد تغضب مني إنْ صارحتها بما كوّنته عنها من ملاحظات. 
أرسلت إليها الرسالة وأنا حائر مرتاب.
للقدس سلام
وصلتني رسالة منها تستغرب فيها ما ذكرته عن اختفائها، وعن عدم مرافقتها لي إلى المطار. 
قالت: ظللت معك حتى غادرنا القصر. ثم إنّك شعرت بالتعب واقترحتَ عليّ أن أعيدك إلى الفندق. أشرتُ بيدي إلى سيّارة أجرة ركبناها معًا. كانت شوارع اسطنبول مزدحمة بالسيّارات، وكنتَ متذمّرًا من شدّة الازدحام. حاولتُ أن أخفّف من وقع ذلك عليك. 
قالت إنها تلمّستْ جبيني براحة يدها لتطمئنّ عليّ. مكثت يدها على جبيني دقيقة أو أكثر، ولمّا ابتسمتُ لها خجلت وسحبت يدها. 
حينما وقفت السيارة أمام مدخل الفندق مددتَ يدك لتودّعني، مع أنّني كنت راغبة في الدخول معك إلى صالة الفندق لكي نرتاح قليلاً، ولكي نتبادل الآراء حول ما شاهدناه أثناء تجوالنا هنا وهناك. قلت إنك ستصعد إلى غرفتك.
ودّعتني ومضيت. ولم أرك إلا في الصباح التالي. اصطحبتك في سيّارة إلى المطار. لك وللقدس مني سلام.
إعادة نظر
قلت لها: ما ذكرته لك في رسالتي سيظلّ لغزًا محيّرًا. هل كنت معي وأنا لا أراك؟ هذا غريب. هل رافقتني إلى المطار وأنا لا أراك؟ هذا أكثر غرابة. طلبت منها المغفرة على زلّة لا يد لي فيها. وقلت: أنا راغب في التعويض عن زلّتي، وفي إعادة التجربة لأرى إنْ كنت أفقدك كما في المرّة الأولى أم تظلّين إلى جواري بغضّ النظر عن كلّ الاحتمالات.
أرسلت لها الرسالة وردّت عليّ في الحال: معنى هذا أنّك راغب في القدوم مرّة أخرى إلى اسطنبول، وأنا أرحّب بك إنْ كنت اتّخذت قرارًا بذلك.
شكرتها وقلت: لماذا لا تأتين أنت إلى القدس؟ جاءني الردّ: هذا غير ممكن، وقعت في الأيام الماضية تطوّرات على حياتي الخاصّة جعلتني مضطرّة إلى إعادة النظر في برنامجي لهذا العام وربّما للعام الذي يليه. 
عرفت أنّ ثمّة ارتباكًا في علاقتها بزوجها الذي يحضّر لنيل شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع، فهو مصرّ على الذهاب إلى ألمانيا للإقامة سنة هناك، لإجراء مقابلات مع أفراد من الجالية التركيّة. وهي قد تذهب معه وقد لا تذهب معه، ولا تدري حتّى هذه اللحظة ما سوف يكون. سألتها: هل كانت العلاقة بينكما مرتبكة حينما كنت أنا في اسطنبول؟ نعم، كانت مرتبكة. 
شعرتُ بالأسى وتركتُ الأمر كلّه للمجهول.
ذبول
وصلتني رسالة منها تقول فيها إنّ زوجها سافر إلى ألمانيا. وكانا اتفقا على أن تلحق به بعد أن يرتّب أوضاعه هناك. معنى هذا أنّها قد تغيّر خططها لكي تتواءم مع خططه، وهي تتساءل: لماذا عليها أن تخضع لما يراه هو مناسبًا، ولا يقيم وزنًا لما تراه هي في ما يراه؟ تستطرد في التساؤلات وتعيد تقليب العلاقة بينها وبينه وتتوقّف عند كلّ أمر مهما صغر. تعود بها الذاكرة إلى أيّامهما الأولى. كيف رقّ قلبه لها وأحبّها! كيف رقّ قلبها له وأحبّته! 
وهي تعيد طرح السؤال: هل يتعرّض حبّهما هذه الأيام للذبول؟ هي غير متأكّدة من ذلك، وعليها أن تستقرئ الجواب من تصرّفاته التي يشوبها غموض ما.
قالت لي ذلك ولم تطلب منّي أيّ جواب.
نحن الأربعة
رافقتُ رجلاً وزوجته قدما إلى اسطنبول من القدس. سألتهما عنك وقالا إنّهما يعرفانك ويتابعان مقالاتك في الصحيفة اليوميّة. الرجل اسمه إلياس وهو دليل للسيّاح، وزوجته اسمها مريم وهي رسّامة. قالت إنّك شاركتَ معها في تزيين حيطان المدينة. هل أنت رسّام أيضًا؟ لم تخبرني بذلك.
اصطحبتهما إلى كنيسة أيا صوفيا التي حوّلها العثمانيّون منذ قرون إلى مسجد. وأبديا رغبة في زيارة المسجد الأزرق القريب من أيا صوفيا. أخذتهما إلى هناك، وقد توقّفا بعد الزيارة في الساحة الكبرى حيث مسلّة تحتمس الثالث التي جرى إحضارها من مصر، لتصبح واحدة من المعالم السياحيّة في اسطنبول. 
طلبتُ منهما أن يحدّثاني عن القدس. تحدّثا عن أماكن سبق لي أن سمعت عنها منك. تجوّلنا في أنحاء اسطنبول. أخذتهما إلى الأماكن نفسها التي أخذتك إليها. 
كنتَ معي طوال الوقت، وكنّا نمشي معًا نحن الأربعة. 
انفصال
انفصلت عن زوجها. قالت: أصبح متزمّتًا، ولم يكن في بداية علاقتنا وفي الأشهر التي تلت زواجنا مثلما هو الآن. 
طلب منها أن ترتدي الحجاب لأنّه معجب بأمينة أردوغان. قال ذات مرّة: كم يطيب لي أن أراها إلى جوار زوجها رئيس الوزراء وهي ترتدي الحجاب! دخلت معه في حوارات متشعّبة. قالت له: أنا لست أمينة أردوغان وأنت لست رجب طيّب أردوغان. 
لم يعجبه الكلام. قالت: وصلت الأمور بيننا إلى منتهاها فاتّفقنا على الانفصال. أخبرتها أنّني آسف لذلك. قالت إنّها استأنفت التحضير لشهادة الدكتوراه. سررت لذلك. قالت إنّها ستزور القدس في القريب العاجل. رحّبت بذلك. 
تمنّيت بيني وبين نفسي لو أنّهما لم ينفصلا، ولو أنّه جاء لزيارة القدس معها، ولو أنّها جاءت للزيارة معه.
____
*روائي وقاص من فلسطين 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *