ست قصص قصيرة جدًّا


محمود شقير*


*خاص ( ثقافات )
حائط قديم
اسمي حليم.
اقتربتْ مني وقالت: هيّا بنا. قلت دون أن أستفسر منها عن أيّ شيء: هيّا بنا. 
مشينا، وكانت تحمل كلّ ما يلزم للرسم على الحيطان. توقّفنا قرب حائط قديم في طريق الواد تنبعث منه رائحة رطوبة محبّبة. قالت: نزيّن الحائط بألوان ورسوم. قلت: لكنّني لا أجيد الرسم. قالت: لا يهم، ارسم أيّ شيء وأنا أعدّل ما ترسمه على النحو المطلوب. انهمكنا في الرسم، وكان المارّة يرمقوننا بإعجاب. 
وكنت بين الفينة والأخرى أرتاح قليلاً وأرنو إليها بألفة تتزايد يومًا بعد يوم. ولم نتوقّف عن الرسم إلا عند الغروب. 
مضينا معًا يدًا بيد، وكانت أيدينا غابة من ألوان.
نافذة
من نافذة غرفتها المطلّة على السوق، كنت أرقب حركة الناس. حركة خفيفة تحكمها ظلال الغروب. وكنت عاجزًا عن فعل أيّ شيء في تلك اللحظة. كان اللون الرمادي يغلّف السوق والحيطان وبيوت الحي. أغلقت باب خزانتها ووقفت بالقرب منّي وراحت تتأمّل المشهد دون كلام، والشمعة تحاول قدر المستطاع تبديد العتمة. قلت لها: هذه النافذة لا تبوح إلا بالقليل. قالت: ليس لها ذنب في ذلك. ثم صمتت ووضعت يدها على درفة النافذة وراحت تجيل النظر في المدى المتاح. 
والرماديّ ازداد غموضًا والقدس غطست في الظلام. والشمعة انطفأت، ونحن غطسنا معًا في صمت استمرّ حتى الصباح.
حارة النصارى
غادرنا بيتها في الصباح ودخلنا السوق الرئيسة في حارة النصارى. هنا هدوء ظاهريّ ومحالّ تجاريّة مملوءة بكلّ ما يعجب السيّاح من تذكارات وصور وأيقونات.
اقتربنا من حائط قبالة السوق. قالت: هنا نعمل اليوم وعليك أن تقترح اللون الأوّل. شعرت بالحرج: لماذا لا تقترحينه أنت؟ قالت: يوم لي ويوم لك. 
تأمّلت عينيها اللتين تشبهان خضرة الحقول. ورسمت على الحائط خطًّا أخضر. بعد ذلك انخرطنا في العمل، وهي إلى جواري من الصباح إلى المساء، وكنت سعيدًا. وهي، كما أخبرتني في الليل، كانت سعيدة لأوّل مرّة منذ أيّام.
خبز ونبيذ
اشترت من فلاحة في باب العمود سلالاً من قشّ مصبوغ بالأحمر والأخضر. وزّعت السلال على حيطان البيت، ولم تضع فيها شيئًا. قالت إنّها تحبّها فارغة لا يشغلها أيّ امتلاء.
فوجئتْ، قبيل عيد الميلاد، بواحدة من السلال فيها رغيف خبز وزجاجة نبيذ.
قالت إنّها ظلّت تحتفظ بالمفاجأة إلى أن أزورها في العيد. كنت يومها في رحلة خارج البلاد، ولم أذهب إليها إلا بعد انقضاء العيد. كانت شبابيك بيتها معتمة، وهي لم تكن هناك.
اختلاط
وأنا أمشي في الأسواق المكتظّة بالناس، أشعر بالأسى وأنفي يمتلئ بروائح شتّى، والألوان التي صنعناها معًا تتلاعب بي، وتجعلني مثل طفل يطارد فراشة مراوغة. 
ويزداد أساي وأنا أرى تلك الألوان وهي تتموّج على أجساد النساء المزدهيات ببياضهنّ الذي يلوح مثل برق السماء في ليلة عاصفة. 
وآنذاك تختلط عليّ الألوان، فهي ترسل في تمنّع محسوب ألقها الذي يجتاح القلب، مثل غمامة حبلى بالاحتمالات.
والنساء يواصلن مشيهن الرشيق في المدينة، وأنا أبدو مثل غريق في لُجّة الألوان. 
التباس
وأنا أمشي في الأسواق، سألت نفسي: هل انتهى كلّ شيء وما فات مات؟ 
مشيت، وتوقّفت عن طرح التساؤلات لأنّ يدًا رقيقة لمست كتفي. تلفتّ حولي ورأيتها تبتسم لي، وتقترح عليّ أن نمضي معًا لكي نلوّن أمكنة أخرى في المدينة ما زالت بلا ألوان.
مشيت، وكانت يدها في يدي. وبين الحين والآخر كان ينتابني إحساس بأنّني أمشي وحدي، ثم لا يلبث هذا الإحساس أن يتبدّد وأنا أراها تمشي إلى جواري مثل أميرة من غير حرّاس.
_______
*روائي وقاص فلسطيني

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *