الذاكرة ..عودة إلى صفاء الأبيض والأسود


*محمد الأسعد


هل يمكن نسبة شعراء إلى لونين، الأبيض والأسود، كما تُنسب إلى هذين اللونين سينما الأيام الخالية، وكما تُنسب لوحات يابانية وصينية يتلاعب الرسامُ بخطوط أو بقع سود نقية على صفحاتها البيض؟ الجواب نعم.. حسب مقالةٍ سريعة الإيقاع للصديق الشاعر «يوسف أبو لوز» حملها إلينا عنوان «شعراء الأبيض والأسود» (ملحق الخليج الثقافي، 11/‏1/‏2016). ليس لأن هؤلاء الشعراء الذين يأتي على ذكرهم بلذة لا تخفى، ويجمع بين شرقيّ منهم وغربيّ، كتبوا شعراً بسيطاً ورشيقاً يشبه في بساطتهِ ورشاقته قصص سينما النصف الأول من القرن العشرين، أو لوحات فناني أقاصي الشرق التي يكتفي أصحابها ببضعة خطوط للإيحاء بأن هاهنا في مواجهة الحس والبصر أغواراً لا تُدرك، وغوامض محملة بجماليات مستترة، بل لأن أحدهم، وهنا تخرج المقالة من البسيطِ إلى المركب، يكتبُ كما كتب «السياب» «بروح وقلب زمانه ومكانه»، أي انطلاقاً من الأصالة والتراث والثقافة التي تشرب بها من حضارة وادي الرافدين، وتضيف المقالة عنصراً آخر في معرض ذكر الشاعر «عرار» صاحب الجولات بين خيام النور في ضواحي عمان، الذي انتمى كما تقول «للإنسان في أرفع درجات آدميته»، ولم تكن «قصيدته متلّونة سواء باللغة أو بالمواقف» بل كانت «لا تستعير كينونتها إلا من ذات الشاعر وذات ثقافته الإنسانية».
لسنا هنا إذاً، أمام مجرد حنين أو تمجيد للرسم بلونين، ولسنا هنا حتى بصدد الحديث عن تقانات فنية حسبنا في البداية أن مدارها سيكون الأوزان والتفاعيل، والأشكال الحرة والمقيدة، بل نحن أمام تقييم «أخلاقي» واضح يعود بالنقد أيضاً إلى صفاء تلك الأيام المرسومة باللونين الأبيض والأسود، كناية عن البسيط والشفاف في وضعه حداً وفرقاً بين ما هو «إنساني» وما هو «همجي»، وبين «ما ينفع الناس» وما هو «غثاء سيل». 
وتقدم المقالة بنفسها الدليل على أن هذا هو المقصود؛ فهي تقرر أن حديثها عن شعراء الأبيض والأسود يتجه إلى شعراء الصدق والبراءة والعفوية الذين أشبعوا عواطفنا بالدفء والامتلاء والغنى الروحي والجمالي، لأنهم «عاشوا في أزمنة وأمكنة ليست ملتبسة ومتشظية ومنقسمة كما هي اليوم». 
وتقدم تنويراً يُحسب في ميزان ميلها إلى الإعلاء من شأن قيم لا مجرد الإعلاء من شأن الرسم البسيط، أو التصوير بعدسة تصوير بدائية، فتضع في مواجهة شعراء اللونين، من تسميهم «شعراء الألوان الفاقعة» في هذه الأيام، وتضع في مواجهة الباحثين عن الحقيقي والإنساني، أولئك الباحثين عن الزائف والغارقين في مستنقعات المنفعية والحسابات غير الشعرية المتكاثرين كما الفقع في الصحراء، سواء أمطرت وأرعدت أو أمحلت وأصابها الخرس. 
ومن جملة ما يضعه «أبو لوز»، في «مواجهة أزمنة وأمكنة»، يعتبرها جديرة بالحنين وإعادة القراءة، «عاش فيها شعراء الأمس الذين لايشبهون شعراء اليوم»، الشاعر العربي الذي لم يعد اليوم، كما يقول، سيداً ومستقلاً وذا كبرياء وجميلاً يستند إلى قوة الشعر وكرامته، بل ابتعد هو والعشرات من أمثاله أو المئات عن جوهر الشعر، وأخذتهم «تحولات الجغرافية المملوكة لما هو ليس ثقافياً».
***
كل هذا، الكتابة بالأسود والأبيض، بالمعاني المتعددة، سواء تلك التي جاءت في مقالة الصديق ظاهرياً، أو تلك التي توارت تحت السطور وبينها، أو تلك التي أطلقنا عليها النقد الأخلاقي، هي بحسب قوله، بحاجة إلى إعادة قراءة جديدة. وتحدد مقالته المساحة الشعرية المقصودة بخمسينات وستينات القرن الماضي. هذه المساحة بصريح العبارة، تحتاج إلى أن تتمرأى في «مرآة نقدية جديدة بعيدة عن المصطلحات المتضخمة للحداثة وما بعد الحداثة»، ويقصد هنا «بعيداً عن غابة الألوان والاستعارات والأحداث الكاذبة».
هو يود العودة إلى صفاء اللغة النقدية أيضاً، مثلما يودّ العودة إلى صفاء المخيلة التي منحتنا حسب رؤيته الغنى والجمال وروح الزمان والمكان، لأن لغة النقد، كما لغة الشعر، لم تعد تعيش زمن التحولات ذاك، على صعيد الثقافة والفكر والفنون والسياسة، الزمن الذي تميز بإيقاعه الذي كان يكفيه جمالاً أن يُرسم بلونين، بدل البلاغيات الزائدة والبهرجة اللغوية والصور المتدافعة التي توقف سير القصيدة. فهل كتبت اللغة النقدية باللونين المشار إليهما أيضاً؟ 
أعتقد أنه كان سيجيب بالإيجاب لو مرّ به هذا السؤال. وسيقرن اختفاء البساطة والإخلاص لروح المكان والزمان باختفاء شاعر بعينه، محمد مهران السيد، ذكره في معرض القول أنه كان «الأكثر اقتراباً من روح الأبيض والأسود»، شاعر نسيته الذاكرة الشعرية المصرية واحتفت «بشعراء الألوان الفاقعة المتكاثرين».
هذه الملحوظة الأخيرة تلفتني إلى جانب من جوانب هذه المقالة التي تحتاج إلى أن تمتد إلى أكثر من اتجاه؛ فأسأل: لماذا تنسى الذاكرة الشعرية؟ هي لا تنسى كل شيء، بل تنسى في الحقيقة نصوصاً، شعرية وروائية ونقدية وفكرية.. من النوع الذي أسميه النصوص/‏ الخمائر، تلك التي لم تتوفر في زمنها وضعية اجتماعية/‏فكرية/‏تاريخية تستقبلها، تماماً كما هي حال المخبز الذي يخلو من العجين وتتوفر فيه الخمائر، فلا طحين ليعجن فتفعل فيه الخميرة فعلها، ولا عجنة لتُخبز، وكما هي حال مجتمع مزارعين في قبو إسمنتي تحت الأرض يمتلك حبوب قمح أو ذرة، ولكنه لا يمتلك أرضاً فيزرع ولا ماء ليروي ولا شمساً تتسلل لتمد أشعتها النبات بطاقة التمثيل الضوئي. 
بسبب هذا كما أعتقد، لا تتصل بنا الأزمان والأمكنة الجميلة ولا نتصل بها بغير الحنين والرغبة، وهما إلى التحسر أقرب، وعن الفعل والفعالية أبعد.
***
حين أسأل: ما الذي يمنح الأعمال الأدبية والفنية على اختلاف أزمنتها وأمكنتها قدرتها على البقاء في الذاكرة، أو فعاليتها التي تتمظهر في آراء وأخلاق ومسارات حياة مجتمع من المجتمعات ونموها؟ أجدني أمام هذه الفكرة البسيطة أيضاً، فكرة استوحيتها من الكتابة والرسم باللونين الأبيض والأسود؛ أقول هو كونها أشبه بخميرة وجدت «عجنتها» فتخللتها وسرت في كتلتها وحولتها تحولاً كيانياً، أي إلى عجين صالح لأن يتناول منه أناس هذا المجتمع القطعة بعد القطعة ويدخلونها في الفرن أو التنور أو الطابون، أو أي آلة صالحة لإنضاج الخبز.
ولا أجد تشبيهاً للفن الجميل، بما في ذلك شعر الشعراء الحقيقيين، أرق وأبلغ معنى من تشبيهه بالخبز، تماماً كما جاء على لسان الشاعر «السياب» الذي استهل به «أبو لوز» قائمة أسماء الشعراء. روى لي أحد معارفه أن أحدهم سأله ذات يوم عن رأيه بشعر الشاعر «نزار قباني» الذائع الصيت في تلك الأيام، فقال ضاحكاً بلهجته العراقية، هذا شعره «جكليت»، والجكليت نوع من الحلوى، فعاد السائل وسأله «وماذا يكون شعرك أنت؟»، فقال السياب بلهجة جادة «شعري خبز». بالطبع لم يكن في وصف السياب لشعر نزار بالجكليت إهانة، ولا في وصفه لشعره بالخبز استهانة، كل ما في الأمر أن «الجكليت» لا يسمن ولا يغني من جوع، ولكن «الخبز» مادة الحياة التي لا يمكن الاستغناء عنها.
وأتذكر قول السيد المسيح: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان»، ذاك الذي يعتقد بعض الناس أن فيه استهانة بالخبز، بينما هو، في الوقت الذي لا ينفي فيه ضرورة الخبز، يضيف إليه أمراً آخر؛ أن يسمو الإنسان بحاجاته فوق الجكليت ومشتقاته.
مقالة «أبو لوز» إذاً، عودة إلى صفاء تلك الأيام، إلى أيام كان فيه الأدب والفن بمثابة الخبز، مادة الحياة.
________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *