*عُلا الشيخ
«نسوية بامتياز» حكاية فيلم «سافرجت» (Suffragette) الذي يعرض حالياً في دور السينما المحلية، إذ إن الفيلم الذي أخرجته سارة غافرون وكتبت السيناريو آبي مورغان، مبني على أحداث حقيقية، يحكي من خلال شخصيته الرئيسة قصص النواة الأولى لحركة سافرجت التي بدأت ببريطانيا، وانتشرت في غالبية الدول الأوروبية وأميركا، ويروي معاناتهن من الناحية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، من خلال واربس، الأم والزوجة والمرأة العاملة، التي انضمت – بمحض الصدفة – إلى حركة سافرجت؛ إحدى أهم وأبرز الحركات النسوية البريطانية التي برزت في نهاية القرن الـ19 وبداية القرن الـ20، للمطالبة بحق النساء في التصويت.
أدى دور البطولة في الفيلم الذي عرض في الدورة الـ12 من مهرجان دبي السينمائي، مجموعة من الفنانات العالميات، على رأسهن كاري موليغان في دور الشخصية الرئيسة واربس، وهيلينا بونام كارتر بشخصية الطبيبة ايديث ايلين، وأني ماري دوف في شخصية فايليت، وضيفة الشرف ميريل ستريب التي خلقت توازناً كاملاً لأحداث الفيلم ومجرياته رغم أنها ضيفة شرف، بسبب أدائها المميز، وهي التي لعبت شخصية زعيمة الحركة النسائية البريطانية أميلين بانكهيرست.
أحداث الفيلم تتنقل بين مراحل عدة، تبدأ مع السلطة المتمثلة في الأمن والصحافة والزوج ورب العمل، وبعدها مجابهة الأعراف الاجتماعية المتمثلة في بداية الثورة والحبس والضرب والتعذيب والتضحية ومواجهة الأزواج والجيران، لتنتقل الأحداث في النهاية إلى تحقيق المراد مع أول ضحية تسقط للحركة النسوية والتي بموتها غيرت مجرى التاريخ واسمها ايميلي ديفيسون.
الرضوخ
تبدأ أحداث الفيلم في مصنع أشبه بمغسلة كبيرة، الغالبية التي تعمل فيه من النساء، يرافق حركة عملهن أصوات رجال من البرلمان البريطاني من خلال المذياع، وهم يؤكدون على ضرورة عدم الموافقة على منح حق التصويت للنساء، ومن بين ما قاله أحدهم: «إذا أعطينا حق التصويت للنساء، سينافسوننا في أرزاقنا»، وآخر قال: «هذا الحق سيجعل المرأة غداً تطالب بحقها في مقاعد في المجلس، والقضاء والمسميات السياسية، لذلك يجب علينا منعها من الوصول إلى حق التصويت». كمية البؤس في وجوه نساء المصنع، رغم صغر أعمارهن، تؤكد الطريقة التي كانت تعامل بها المرأة، إذ تتحمل أجرها الزهيد مقابل ساعات العمل التي تفوق عدد الرجال في المهنة نفسها، والذين يأخذون أكثر من ضعف أجرها. ومن جانب آخر، ترى لكمات على وجوه بعضهن بسبب المعاملة السيئة التي يلقينها من أزواجهن، بالإضافة إلى سلطة رب العمل الذي يعتقد أنه يمتلكهن ويمتلك أجسادهن، ويقصد دائماً الفتيات الصغيرات، مثل ما قصد سابقاً واربس التي كان عمرها أقل من 12 عاماً عندما تحرش بها.
تنتقل الكاميرا بعد ذلك وتختفي معها أصوات رجال البرلمان، وتبدأ الأحداث الفعلية للفيلم بمشاهد تظهر اضطهاد المرأة آنذاك، وتقترب أكثر فأكثر إلى واربس وحياتها الشخصية، حيث تصطدم للمرة الأولى بمشهد تظاهرة نسوية وهي عائدة للمنزل، تشهد تكسير واجهات المحال، وبعض المشاغبات، وهجوم الأمن على المتظاهرات، وتفلت من كل هذا الصخب وتصل إلى بيتها، لكنها تلمح زميلتها في العمل فايليت، التي تعول أسرتها بسبب زوجها العاطل عن العمل، والذي يتفنن في ضربها كل يوم.
التفكير
تنشأ علاقة صداقة بين واربس وفايليت التي تحاول إقناعها بالانضمام إلى الحركة، لكن واربس تقف أمامها وتقول: «أي حركة هذه التي تقمن من خلالها بكسر واجهات المحال، وإثارة الفوضى»، لترد فايليت: «هذه المرحلة وصلنا إليها بعد تظاهرات سلمية لم تُجد نفعاً، فالقانون الذي يطلب منا احترامه يجب عليه أن يحترمنا، ويحقق رغباتنا، وقتها سنحترمه بل وندافع عنه».
ذاكرة واربس حافلة بالكثير من القصص، والوقائع التي تظهر الظلم الواقع على النساء، لذا تحاول أن تسمع صوتها ولو مرة واحدة، وتجرّب أن تكون جزءاً من المطالبات بحق التصويت، لكنها لم تدرك وهي الأم والزوجة والعاملة، أن في خطوتها ستضحي بالكثير، وكانت أولى تضحياتها أنها رأت زوجها وهو يبيع ابنهما لعائلة أخرى، ولم تستطع منع ذلك لأن القانون يقف الى جانب الزوج وقراره، فحرمت من حقها كأم في حضانة ابنها الذي عاش مع عائلة غريبة باسم القانون، ومن هذه المأساة بدأت تتأجج مشاعر الغضب لدى واربس، وكانت قد جربت الاعتقال للمرة الأولى في حياتها، وقررت أن تكون في الواجهة.
ومن ضمن المشاهد المحورية التي غيرت مجرى حياة واربس، عندما اضطرت أن تدلي بشاهادتها بدلاً من فايليت، ضد قانون العمل المجحف بحق النساء، إذ جلست أمام رئيس الوزراء وقالت: «أمي بدأت العمل وهي بعمر 14 عاماً، وورثت المهنة عنها بعد أن توفيت، وكان عمري أربع سنوات، عندما أصبح عمري سبع سنوات بدأت العمل بدوام جزئي، وعندما أصبح عمري 12 عاماً بدأت العمل بدوام كامل، وعمري حالياً 24 وأنا مسؤولة قسم الغسيل والكي، لم أتخيل يوماً أن يكون لي صوت، فكرة أنك من الممكن أن تحقق هذا الشيء بحد ذاتها منحتني القوة، ثمة أمل بطريقة مختلفة في معنى الحياة، فالمساواة بين الرجل والمرأة هي التي ستمنحني الحياة التي أحلم بها».
التمرد
أصبحت واربس رسمياً ضمن الحركة النسوية المطالبة بحق التصويت، وتتسلل ليلاً للاجتماعات السرية، وكانت متحمسة للقاء أيقونة هذه الحركة وزعيمتها أيميلين بانكهرست، التي اختصرت خطابها بضرورة الانتقال من المرحلة السلمية للعنف، وطالبت النساء بالتصعيد، مع مراعاة عدم إيذاء الناس، وقالت: «لقد تغربتن عن حياتكن الطبيعية، وهم لايزالون يتجاهلوننا كبشر، التضحية هي عنوان صوتنا، لا نريد أن نخالف القانون بل نريد أن نكون شركاء في صناعته». وعندما وقفت واربس أمامها، نادتها الزعيمة باسمها وقالت لها: «دافعي عن صوتك» وكانت هذه لحظة التحول الفعلية في حياة واربس التي خسرت ابنها وزوجها وعملها، بعد أن قررت المقاومة لنيل حقوقها.
والغريب أن الأمن لم يعتقلهن، وقال المسؤول: «اليوم سنترك مهمة تعذيبهن لأزواجهن»، وحدث هذا بالفعل، وخسرت واربس حياتها الزوجية للأبد بعد أن طردها زوجها وحرمها من رؤية ابنها، وباعه لعائلة أخرى. الأمر الوحيد الذي قامت به هو أنها حضنت ابنها بقوة وخاطبته: «اسمي واربس، وأنا أمك الحقيقية، سأنتظر حتى تبحث عني يوماً ما».
ورغم الأسى الذي يلوّن هذا المشهد فإن ضرورته تكمن في أن التضحية تكون كبيرة مقابل الحق في الحياة والتغيير، فذلك مرتبط ليس فقط بالحاضر بل بالمستقبل، فقد استطاعت المخرجة أن تصور هذا المشهد كنواة حقيقية لمعنى التضحية من أجل سلامة الوطن في المستقبل، مستخدمة إدارتها المميزة بإخراج كل المشاعر في وجه واربس التي تمثلت بشحوب الوجه، والرجفة، والغضب، والحزن، والنهوض من جديد، بطريقة من الصعب أن تمر بشكل عابر، فهي بالفعل قدمت التضحية الكبرى من أجل العدالة.
المقاومة
لم يعد لدى واربس شيء تخسره، لذلك قررت صب جميع طاقتها في برنامج الحركة النسائية، والمطالبة بحقوقهن، وقررت أن تكون جزءاً من التصعيد، حتى عندما قررت مسؤولتها المباشرة الطبيبة ايديث المتزوجة برجل يناصر حقوقهن أن يقمن بتفجير منزل غير مسكون للوزير، وتم القبض عليهن دون إثبات صلتهن بهذا التفجير، وبدأت مرحلة التعذيب والإذلال، والإضراب عن الطعام، وإطعامهن بشكل عنيف، وتطور شكل التهديد معهن.
الشعور بالانتصار كان على مراحل، إذ بدأ عندما ضربت واربس رب عملها المتحرش بها سابقاً، بمكواة ساخنة على وجهه، وعندما خرجت من السجن بعد تعذيب جسدي ونفسي، وقصدت المصنع وقامت باصطحاب فتاة صغيرة اسمها ماجي كان رب العمل يتحرش بها، وأنقذتها من براثنه ووظفتها في مكان آخر، هنا بدأت البطلة تلمس قوتها للمضي أكثر، إلى أن يصل شكل عملهن لذروته، عندما انضمت مع صديقتها إيميلي لاستغلال حدث رسمي سيتم تغطيته من وسائل إعلامية مختلفة حول حضور الملك جورج الخامس لسباق للخيول (دربي إبسون) في الرابع من يوليو 1913، لكن وبمشهد مأساوي بعد محاولات بالفشل في الوصول لمكان قريب من تواجد الملك، تقوم إيميلي بالدخول إلى ميدان السباق، لرفع لافتة مطالبتهن بحق التصويت، وتجابه حصان الملك وتموت تحت حوافره، لتصبح أول «شهيدة» للحركة النسوية، في هذه اللحظات يقوم مسؤول أمني رفيع المستوى بسحب اللافتة من يديها وتخبئتها، حتى لا تصل لها الصحافة التي لم تدعمهن يوماً، فجميع من لديه حق في القرارات كان يقف ضد صوتهن.
وينتهي الفيلم مع مشاهد حقيقية ووثائقية لتشييع جنازة إيميلي ديفيسون التي شارك فيها الآلاف، وتقفل شاشة العرض مع ذكر تواريخ منح التصويت للنساء، بدءاً من نيوزيلندا التي منحت المرأة حق التصويت عام 1893، مروراً ببريطانيا التي منحت النساء حقاً مشروطاً للتصويت بعمر 30 سنة عام 1918 ثم تحول إلى 21 عاماً في 1928، وفي النهاية تواريخ بعض الدول العربية، من بينها الأردن التي منحت حق التصويت عام 1974.
أهمية الفيلم أنه لم يركز على الشخصيات البارزة في الحركة النسائية كشخصية الزعيمة بانكهرست أو «الشهيدة» إيميلي، بل قام على حكاية امرأة من العوام، غير متعلمة، وغير مثقفة، لكن كان لديها الأمل بأن تكون جزءاً من التغيير واسمها واربس، فقد استطاعت المخرجة بالفعل أن تدخل المشاهد إلى تلك الحقبة بكل تفاصيلها.
فالفيلم يحمل رسالة، وقصة ربما مفادها: عندما لا يكون لديك الحق في التصويت، ستتحولين بشكل مباشر لملكية خاصة للرجل، لن تستطيعن كامرأة أن تمنعيه من ضربك، وإهانتك، والتحرش بك، حتى لو كنت فتاة عمرها 12 عاماً، لن يسمع القانون شكواك، حتى إن الأمر سيصل إلى أن القانون الذي يطلب منك طوال الوقت احترامه هو نفسه سيحرمك من رؤية طفلك، لأن زوجك قرر ذلك، بل وسيتعدى الأمر أن يعطيه الحق بمنحه لعائلة أخرى مع أنك كأم مازلت على قيد الحياة، القانون الذي يريدك أن تحترميه يجب عليه أن يحترمك، ويبدأ ذلك بحقك في التصويت، فصوتك هو كرامتك.
________
*الإمارات اليوم