مفهوم النص الموازي عند إدوارد سعيد




*علي عواد



على النقيض من المثل الرومانسي الأعلى للإبداع الأصلي، الذي أصبح وهماً عبثياً في عصر “وسائط الاتصال”، وقابليتها اللانهائية للتولد والتعدد، والمفهوم الاتباعي للأصالة في تفكيرنا عن الأدب، الذي يدور حول معاني الابتكار والعراقة والثبات والقوة، كما تؤكد المعاجم اللغوية العربية، يذهب إدوارد سعيد، في كتابه “العالم والنص والناقد” إلى أن أفضل طريقة لدراسة الأصالة لا تتمثل بالتفتيش عن أول شواهد لظاهرة ما، وإنما تتمثل على الأرجح في رؤية نسخة طبق الأصل عنها، أو نسخة موازية لها، أو محاكاة ساخرة لها، أو نسخة مكررة عنها، أو في رؤية أصدائها، أي النظر إليها بتلك الطريقة التي حوّل فيها الأدب نفسه إلى موضوع أساسي للكتابة.

ولعل هذا المذهب يصب في سياق مبحث التناص، بأنماطه المختلفة من جهة، حيث أن “كل نص هو امتصاص أو تحويل لنصوص أخرى”، كما تقول كرستيفا، وعملية “التكييف” التي يتحول من خلالها شكل أدبي إلى شكل أدبي آخر، مع بقاء الثاني محتفظاً بأصالته الإبداعية، من جهة ثانية، مثل تحول ملحمة الإلياذة إلى تراجيديات مؤسسة للمسرح اليوناني، وملحمة جلجامش إلى مسرحيات وروايات حديثة، أي بمعنى أي كتابة تقرّب بين التواصل والأصالة.

في هذا السياق يؤكد إدوارد سعيد أن الشيء الذي يقوم عليه الخيال الحديث أو المعاصر يدور أكثره حول إعتاق شيء ما من كتاب بواسطة الكتابة، ويكون إنجاز هذا الإعتاق بطرق مختلفة عديدة. ويستشهد سعيد بجيمس جويس، الذي يعتق “الأوديسة” في دبلن في روايته “يوليسيس”، فالتماثل القائم بين دبلن وآتيكا يسوق الكاتب ليس إلى كتاب آخر، بل على الأرجح صوب “كتابة مطردة”. وكذلك بالشاعر إليوت الذي يحرر نتفاً من فيرجيل من ملحمته “الإنياذة”، وبترونيوس الذي يُنسب إليه كتاب “الساتريكون” في مجموعة من العبارات المتهافتة. فالكاتب قلّما يفكر بالكتابة الأصيلة، وأكثر ما يفكر به هو تكرار الكتابة: إن صورة الكتابة تتبدل من مخطوطة أصلية إلى نص موازٍ، من جرأة عشوائية إلى إنجاب مقصود، من اتساق الأصوات إلى لحن أساسي مكرر.
يقارب إدوارد سعيد فكرة الأصالة في عدة مستويات، انطلاقاً من كونها خاصيةً جوهريةً بالنسبة إلى خبرة الأدب جديرة بالبحث العميق. في المستوى الأول يقف على العلاقة بين الأدب والنظرية، بين الكتابة، كنشاط إبداعي ملموس، والقراءة كنشاط نقدي تأويلي. إن العقيدة السائدة الآن، حسب تعبيره، هي أن الأدب هو الشيء الملموس، بشرياً واجتماعياً وتاريخياً، الأمر الذي يعني القول إن الأدب يمدنا بأمثلة جمالية عن كل صنف من أصناف الخبرة. وأما النظرية، من ناحية أخرى، فمقرونة بالتجريدات والأفكار، أو بكل ما يتصوره تلميذ الأدب على أنه جدير بالدفاع عنه. بيد أن هذا القول، كما يفهمه سعيد، لا يعني أن النظرية لا تأثير لها في أوساط الأدباء، وذلك لأن حد السطوة الذي تبلغه نظريات النقد المختلفة على التلاميذ والمعلمين، على حد سواء، ما هو إلا علامة من علامات التعرض للأحابيل النظرية.
وكي يبرهن سعيد على ارتباط المستوى النظري للبحث بانطباع عن الأصالة، ارتباطاً تاريخياً في الغرب، يعود إلى جذر الفكرة في الفلسفة اليونانية، كما طرحها ويرنر جيغر، فالموضوع الذي تناولته محاورات أفلاطون قبل غيرها، ومن ثمة أرسطو من زاوية نقدية، هو العلاقة بين معرفة الأفكار (أي النظرية) وبين حياة الإنسان. لقد كان أفلاطون أول من اعتقد بالقيمة الأخلاقية للحياة النظرية كمشكلة في صلب الفلسفة، وأول من سوّغ حياة الإنسان النظرية ومجّدها. ولم يشذّ أرسطو عن هذا الإرث الأفلاطوني الذي يقوم على تصور مثالي للعلم. لكن ذلك الاعتقاد تغير، فانتقل من التصور المثالي لحياة التأمل الروحي إلى الإدلاء بالبراهين لمصلحة حياة مفعمة بالنشاط، وحياة معقدة، حتى أن القصص عن الفلاسفة كانت تستخدم كأدلة عن الأصالة، أي عن ذلك السلوك الغريب الذي كان يسلكه الفلاسفة، نظرياً وتأملياً، بين الناس.
يستنتج إدوارد سعيد أن التقسيم العام للعمل إلى ناشط من ناحية أولى، وإلى تأمل نظري من ناحية أخرى أتى من ذلك التصور. وفي أحد الأوصاف المختصة يصر هذا التقسيم اليوم على وجوده في صيغة أدبية مبسطة على أنه التمييز بين الكتابة الأصيلة الإبداعية وبين الكتابة التأويلية النقدية. وهذا التقسيم يولد تقسيماً آخر، متساوقاً معه، معناه أن الكتابة الأصيلة الإبداعية هي الأولى، في حين أن أي نوع آخر من الكتابة هو الثانوي. ولا يجد سعيد إلاّ شيئاً طفيفاً من المبالغة في القول إن دراسة الأدب في الغرب تدور تحت إشراف أناس عقولهم فياضة بهذه التمييزات، التي نتجت عنها مقارنات بين العمل الأولي الأصيل، والنقد كنشاط ثانوي تفاقم وبخس الناقد حقه، على الرغم من ذلك التسامح الذي فعله الأوغسطيون الإنكليز في القرن الثامن عشر حيال ما دعوه بالناقد الحقيقي.
التقسيم بين الكتابة الإبداعية والكتابة التأويلية، فإنه يرى أن الناقد، مثله مثل الروائي، هو كاتب يتوق إلى الكتابة بالكتابة، ولئن كان أحدهما هو ذلك الروائي الذي ينتج روايةً، أو ذلك الناقد الذي ينتج عملاً عن تلك الرواية، فإن كليهما أصيل، على حد سواء، وفقاً لمصطلحات خاصة باعتراف الجميع. وعلى هذا الأساس فإن السؤال عما إذا كان أحدهما أكثر أصالةً من الآخر يعني المخاطرة باستنتاجات سوسيولوجية من نفس الصنف الذي يتأتى من الحديث عن المساواة في رواية “المدجنة”، ولكن حتى ذلك النوع من الاستنتاج يستلزم شيئاً أكثر شبهاً بدقة بيير ماشيري أو لوسيان غولدمان منه بدقة جورج أورويل.
يضع إدوارد سعيد العلاقة بين الكتابة الإبداعية والكتابة التأويلية في سياق جدلية الحضور والغياب، حسب المنظور السيميائي، إذ أن قيمة الكتابة، بوصفها موضوعاً للتحليل، هي أنها تحدد بمزيد من الدقة تعاقب الحضور والغياب تعاقباً يكاد يكون مغفلاً، وتعاقباً نقرنه، انطباعاً وإدراكاً، بالأصالة، فالحضور والغياب يكفّان عن البقاء مجرد مهمتين من مهمات إدراكنا، ويصبحان بدلاً من ذلك أداءين إراديين من جانب الكاتب. وهكذا فإن على الحضور، الذي يمثّل مستوى الكتابة الإبداعية، أن يتعامل مع أمور كالتمثيل والتجسيد والمحاكاة والتبيين والتعبير، في حين أن على الغياب، الذي يمثل المستوى الاستعاري، وهو من إنتاج الكتابة النقدية، أن يتعامل مع الرمزية والتضمين والوحدة التحتية اللاواعية والتركيب. ولذلك يمكن النظر إلى الكتابة أيضاً على أنها الإطار الذي يحدث فيه منهجياً تفاعل الحضور والغياب.
في المستوى الثاني يقف إدوارد سعيد على الصيغة التي ينبغي أن تظهر بها الأصالة في الكتابة الإبداعية. إنها، طبقاً لأحد معانيها الأولية، يجب أن تكون ضياعاً، وإلاّ ستكون تكراراً، بمعنى أنها الفرق بين فراغ بدائي وبين تكرار دنيوي. وعلى الرغم من أن كيركيغارد، شأنه شأن العديد من الفلاسفة، لم يكن يرى أي تناقض (في مضمار الخبرة الدينية) بين التكرار والأصالة، فإن إدوارد سعيد يقرن التكرار إما بمرتبة دونية (المأساة في المرة الأولى والمهزلة في الثانية)، وإما بعودة اعتراضية، على ما يذهب نيتشه، الذي يعد الإدراك التاريخي محاكاةً ساخرةً في اعتراضه للتذكر الأفلاطوني. وبما أن تمييز الأصالة يتزايد عسراً فإن وصف سماتها يتزايد دقة بدوره، وهكذا في خاتمة المطاف فقد انتقلت الأصالة من كونها مثلاً أفلاطونياً إلى شكل مغاير ضمن نموذج طاغ أكبر منها. وقد لعبت اللغة دوراً عظيماً في هذا التبدل، فكل لفظة، مهما كان حجم تفردها، يجب إدراكها على أنها جزء من شيء آخر.
يستعير سعيد لفهم الأصالة، في هذا السياق، عبارة “رفض البدأة” في النقد الفرنسي، فبما أن إدراك الكتّاب الذاتي لأنفسهم قد تبدل من كونهم المبدئين المتوحدين، إلى كونهم عاملين في ميدان البدأة المتواصلة السابقة (أي السالفة على الدوام)، فإن من الممكن قراءة الكاتب بأنه ذلك الفرد الذي كان حافزه تاريخياً أن يكتب دائماً في هذا العمل المعين أو ذاك كي يحرز استقلالية الكتابة التي لا تعرف أيّ حدود. وهنا يفتش سعيد عن الأصالة في رواية توماس مان “دكتور فاوست”، التي هي نسخة موازية لأسطورة “صفقة بيع الدكتور فاوست نفسه للشيطان ميفيستوفيليس”، تلك الأسطورة البدئية، التي أعاد كتابتها في الثقافة الغربية كتّاب عديدون مثل: كريستوفر مارلو، غوته، ساوثي، ووليم بكفورد.
إن الأسلوب الفني الرائع لتلك الرواية، كما بيّن الكثير من النقاد، يكمن في تركيب العناصر المتباينة (المونتاج)، والصدى. فكل من توماس مان وشخصيته الرئيسة في الرواية يتقنان فن الاستبدال والتغلب والمحاكاة إلى أبد الآبدين. وتتجسد أصالتهما في ممارسة هذه اللعبة إلى أن يتوصلا إلى حالة من الفراغ، تقويض الحضارة والأخلاق الغربية، والنكوص بالأصالة إلى الصمت من خلال التكرار. فالحلف الذي أقامه أدريان لافركون مع الشيطان يعطيه هبة التميز الفني طيلة سنوات عديدة، بيد أنه منذ أقدم أيامه، ومنذ استهلال الرواية، يظهر عليه وعلى توماس مان الفتون بالتماثلات والمحاكاة الساخرة، ويعود سبب ذلك حصراً إلى أن الطبيعة نفسها، حتى الطبيعة، تستنسخ نفسها بأعجب الطرق: فالشيء اللاعضوي يحكي العضوي، وشكل يستنسخ شكلاً آخر، وهلم جرّاً. وهكذا فإن بنية الرواية، ناهيك عن موضوعها الرئيسي، مصوغة من بدأة ورجعة الكتابة، إذ أن ثمة نصاً مبدئاً أصلياً يتعرض للمحاكاة مراراً وتكراراً حتى يفقد، في خاتمة المطاف، سموّ شأنه.
يجد إدوارد سعيد تشابهاً غريباً بين معالجة توماس مان لهذا كله ومقالة كتبها ليو سبيتزر مؤسس الأسلوبية المثالية، التي تربط بين الفعل اللساني والأنا، بعنوان “الدراسة العلمية للغة والتاريخ الأدبي” تشكّل نوعاً من السيرة الذاتية المهنية له، أي أنه يصف فيها تطور نظريته الفيلولوجية فقه اللغة المقارن وممارسته لها. ويلمّح سعيد، من خلال تساؤله عما إذا كان توماس مان واقعاً تحت وطأة “تأثير” سبيتزر، إلى “أن الناقد أكثر أصالة، بمعنى ما، من الكاتب الأصلي”. لكن هذا التلميح ليس بيت القصيد، كما يشير، بل إن مساجلته تتقصد إلقاء مسؤولية الأصالة على كل مهنة تُعنى “بتشغيل” اللغة، وأن مان وسبيتزر نفسيهما لا يقرّان، من وجهة نظره، بوجود أيّ أصالة قائمة بحد ذاتها، لأن الطبيعة واللغة نظامان من أنظمة الاستنساخ ليس إلاّ. وانطلاقاً من المعقول فإن الأصالة، من الناحية الأخرى، هي تلك السمة المكتشفة في أيّ من الكاتبين نكتشفه أولاً، وهي، فضلاً عن ذلك، في انطباعاتنا عن الجدة والقوة مغرقة في الذاتية إلى ذلك الحد الذي يحول بينها وبين أيّ تحليل مؤكد.
لكن إدوار سعيد يؤكد، بسبب التحول من الكتابة الأصلية إلى الكتابة المثيلة، على قيام تحول أخطر أيضاً في تصور الأصالة، التي تصبح الآن سمةً من نوع ما للعبة مركبة. أما مسؤولية الكاتب فهي التحكم بهذه اللعبة التي تترك له أولها حرية الخيار تماماً فيما يتعلق بأمور من أمثال نقطة البدء والمركز، الذي تتمحور عليه الكتابة، وهكذا دواليك. ورغم ذلك فإن مسؤوليات الكاتب هذه ليست أفكاراً مجردةً أو ضمنيةً يكدسها ناقد ما فوق اللغة، بل أفكار جوهريةً، مادياً، للكتابة نفسها. ويقصد إدوارد سعيد بذلك، أساساً، الإحساس الفعلي بالبعد أو القرب من “الموضوع″، المنوط بالكتابة، والإحساس الذي تحسه الكتابة بأنها مادياً متساوية في الامتداد الزماني أو المكاني مع ما تقوله.
_____
*العرب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *