إضاءة بلا رحمة، حتى لا نختبئ


*د. هاني حجاج


يُتمّ الآن المخرج السويدي الاستثنائي (روي أندرسون) ثلاثيته الخاصة التي أسماها «ثلاثية أن تكون إنساناً»، بفيلمه الأخير ذي العنوان العجيب اللافت (حمامة جلست على غصن تتأمل في الوجود) A PIGEON SAT ON A BRANCH REFLECTING ON EXISTENCE أندرسون يُتمّ في الوقت نفسه عامه الثاني والسبعين من العمر، مع مسيرة فنّيّة بدأت بالفيلم الناجح جداً «قصة حب سويدية» في مطلع السبعينيات، تلاه فيلم «جاليب» 1975 الذي فشل على كافة المستويات، فانطوى على نفسه واعتزل السينما بالكامل لربع قرن حتى عادت إليه الصحوة بأول أفلام ثلاثيته المدهشة بعنوان «أغاني من الطابق الثاني» في مستهل الألفية الثالثة، ونال عنه جائزة لجنة تحكيم مهرجان كان، ثم فيلم «أنت الحي» عام 2007. قام هولجار أندرسون بدور جوناثان ونيلس وستبلوم بدور سام، وقامت بدور لوتا الممثلة شارلوتا لارسون، وتَمّ تصوير الفيلم في السويد وألمانيا وفرنسا والنرويج. ومدة عرضه 101 دقيقة، والسبب في العنوان الغريب يستلهمه المخرج من لوحة «ثلج الصيادين» للرسّام الهولندي بيتر بروجل، التي تصوِّر عودة مجموعة من الصيادين بعد رحلة غير موفقة وسط هالة من الفشل والامتعاض مما ينتظرهم من سخرية القوم، بينما تجلس بعض الحمامات على أغصان شجرة ميتة، وهكذا: «تخيَّلت أن الحمامة في اللوحة تشاهد القوم وتتساءل عمّا يفعلونه، لذا فقد كان العنوان وسيلة أخرى لطرح السؤال: ما الذي يفعله الناس على وجه التحديد؟ وهذا بالضبط هو الهدف من الفيلم كله!».
يمكنك ملاحظة أن الفيلم يتحدّث عن الموت، وبإيقاعه الحلزوني يتلبسك كالموت. في البداية ترى الحمامة الوديعة تحميها فقاعة زجاجية من نسر مفترس، ثم نرى اثنين من الباعة الجائلين يعانيان الفشل والحزن وأشياء أخرى. جوناثان المسكين لا يرغب أبداً في لقاء والديه في الفردوس، وهذا الرعب يطارده في كوابيس اليقظة والمنام. تغيّر الزمان الذي حَوَّلَ براءة الأحلام إلى كوابيس وسحر الطموح إلى هلاوس مستمرة. هذا البائع هو كل إنسان تحوَّل إلى طفل كبير يبكي الفردوس المفقود وضياع الأمم المجيدة. كلاهما حزين بالرغم من أنهما يبيعان مستلزمات الاحتفال. 
تعتمد أفلام أندرسون في المقام الأوّل والأخير على المشاهد. قد لا تتوافق الشخصيات مع بعضها البعض، أو حتى مع النص السينمائي، لكنها حتماً ستدهشك، وتصدمك أحياناً. ويفضّل ألّا ترتبط بالحبكة، فهي على الأغلب غير موجودة! ولكنها تتكشَّف بشكل سريالي، كامنة في متعتها البصرية، المشهد تلو المشهد، مواقف وصور، كاملة ومقطوعة، متجاورة ومتلاحقة كالحياة ذاتها. سريالية واقعية، لو كان هناك مصطلح كهذا، وإلّا فكيف تصف هذه الصور المتناثرة وهي مع ذلك أقرب إلى التعريف الأكاديمي للشعر (ذلك الكلام المفصّل قطعاً قطعاً، المتساوي في الوزن المتّحد في الحرف الأخير من كل قطعة من هذه القطع)، فكأن المشاهد أبيات كاملة المعنى تتفق في الروّي والقافية حتى آخر الفيلم. عمل إبداعي مُركّب مُعقّد لا يمكن فك أسرار جماله بسهولة إلّا إذا تناولناه مرّة كاملاً لا مجتزئاً كأنها نظرة حمامة شاملة للكون، ومرّة أخرى، المشهد غير المشهد، كأنها رفرفة سرب حمام في فضاء الروح. تنطبق على هواجس جوناثان فلسفة أبي العلاء المعري (بعض عمرك مالم تعشه، ومالم تمته، ومالا يُقال، وبعض حقائق عصرك، أنك عصر من الكلمات، وأنك مستغرق في الخيال)، ومن عبث حياته أنه لا يفيقه من تيار الخواطر الأبدي إلّا زمجرة محرّك الحافلة، رحلة بيع جديدة غير موفقة، وخارج النوافذ المغلقة تعلن البذور انتصارها وتنمو البراعم بإصرار كما تموت الفراشات زاهية الألوان ويحملها النمل. رائحة الغرف من الداخل معبقة بالشاي بالنعناع، لكنهما مغتربان في رحلة لا تنتهي. رحلة صيد فاشلة! حتى تبدأ المرحلة الأخيرة في حرب الصمت الطويلة، ولكن رياضيات الزمن تعكس كافة المسلمات بمعادلة لا تعرفها سوى الطبيعة وبعد أن يكون قطار العمر قد مضى، لهذا يبكي جوناثان ويصرخ ويضرب رأسه في الحائط. النوم والعمر الضائع والبيت الوهمي. 
لغة أندرسون لا تناسب ذائقة الجميع، فكنْ مستعداً لاحتضان المعنى، تقبَّل تعاسة الوجود هنا وسوف تجد معها بعض الفكاهة السوداء! إن كنت تبحث عن قصة كلاسيكية فعليك اختيار فيلم آخر، القصة هنا مدفونة في سلسلة من المحطات البصرية كهيكل أحفوري لحيوان ضخم منقرض، دفنته ووجدته الصدفة. يعمد المخرج هنا إلى تثبيت وجهة نظره (نظرة الحمامة للكون) من خلال ملاحظة سلوك البشر القاطنين لبُعد آخر يوازينا، يوازي خط آلات التصوير التي ثبّتها في نظام مراقبة خاص، يرى أمنيات الحاضر الحائرة وأحلام الماضي الحزينة في خواطر الأبطال الغرباء. اتّهم النقاد مخرج الفيلم بالعنصرية بسبب إدخال العبيد في الآلة السفلية، لكنها في الواقع استعارة تُشير إلى أن ثروة الغرب قائمة على أساس استعماري إمبريالي واستغلال الأعراق المستضعفة على الكرة الأرضية. أندرسون يلخص هذه الحقيقة المؤسفة في كبسولة بصرية تثير الرجفة والقنوط. أيضاً يهدف الفيلم إلى اتهام الإنسان ككل بابتعاده عن الفطرة، الطبيعة محبوسة في زجاجة كحيوانات التجارب مُقيّدة في أقفاص، مُتحف دامغ لوحشية البشر. وبطل الفيلم ينظر للسماء، وإلى حمامة حكيمة صامتة تتأمل كل ذلك في حزن وشفقة. الأبطال يتحرّكون ببطء كأنهم موتى أحياء في عالم يظنون أنه واعد وسعيد. الضوء ساطع، هكذا يحبّه المخرج: «أُفضِّل الإضاءة دون ظلال، كي لا يمكن للبشر أن يختبئوا. يجب عليهم أن يظهروا للعيان، أن يُفضحوا طوال الوقت. عرايا تماماً!».
___________
*الدوحة

شاهد أيضاً

غرناطة ..آخر الأيام: مسلسل الكاتب وليد سيف الجديد

(ثقافات) غرناطة ..آخر الأيام: مسلسل الكاتب وليد سيف الجديد زياد أحمد سلامة    “غرناطة…آخر الأيام …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *