*ماهر منصور
خاص- ( ثقافات )
أحد التساؤلات الملحة التي تفرض نفسها اليوم عند كل متابع لمضامين الدراما العربية، هو مدى قدرة هذه الأخيرة على التحدث بلغة شارعها، وما مقدار تمثيلها له، وبالتالي ما إمكانية تواصلها معه، وتأثيرها به..؟
من حيث المبدأ تعد الدراما صورة عن المجتمع، فناسه وقضاياهم هم في صلب موضوعاتها واهتماماتها، والصراعات الإنسانية اليومية فيه، هي التي تشكل حبكة حكاياته، أما أبطاله فهم صورة عن أناس نعرفهم، أو من المحتمل أن نعرفهم كونهم يتقاطعون معنا في شيء من تفاصيل حياتهم..ذلك كله يجعل الدراما التلفزيونية نماذج لحياة نعيشها، ومرآة لذواتنا ولتجارب نخوضها واختبار لأخرى، وبهذا المعنى تتجاوز الدراما التلفزيونية دورها في الترفيه والتسلية نحو أدوار أخرى كالتأثير والتبشير بوصفها نموذجاً للعبرة وحالة التطهير الأرسطي، فالشيء بالشيء يعرف، وبمقدار ما تتوغل الدراما في المجتمع بمقدار ما تمتلك مفاتيح التأثير فيه.
تلك المهمة المأمولة للدراما التلفزيونية، تشبه إلى حد كبير مهمة المسرح، الأمر الذي قد يوحي بسهولة تنفيذها من قبل صانعيها، كون غالبية ممن يساهمون في تشكيل المشهد الدرامي التلفزيوني العربي، ولا سيما السوري، هم من خريجي المعاهد المسرحية المتخصصة، وفيها تتلمذوا على قواعد المسرح وأخلاقياته وأدبياته، وبالتالي ليس غريباً عليهم الحديث عن دور للدراما التلفزيونية يتجاوز حيز الترفيه، وإدراك أهمية أدوار أخرى لها في مجتمعاتهم بوصفه أصحاب رسالة إنسانية، ولكن إلى أي حد بالفعل وجدت تلك الرؤية المفترضة عن صانعي الدراما تجلياتها العملية على أرض الواقع..؟
إلى أي حد تجاوز الفنان، كاتباً كان أو مخرجا أو ممثلاً، مساحته المفترضة في بث الروح بشخصيات الورق التمثيلية، نحو بث الوعي فيها..؟
هل يمكن أن نعد أن صانعي الدراما قادة للرأي عام، أو مساهمين في تشكيله..؟
لعل قدرة الدراما على التغير المجتمعي صعبة، ولكن هل تعجز عن تحريك الماء الراكد فيما يخص قضايا المجتمع بطرح الأسئلة، وهل إيماننا أن الدراما لا تقوى على التغيير، يعني أن تأخذ دور المتفرج السلبي، أو الجاهل، والمتجاهل..؟
لطالما كانت تلك الأسئلة موضع جدل لا ينتهي بين من يرى أن الدراما مجرد حكايات تقدم العبرة وتثير الأسئلة حول المشكلات والقضايا المجتمعية فقط، وبين من يرى أن على الدراما تقديم أجوبة وحلول لتلك المشكلات، ولننتبه هنا كيف أن المتجادلين متفقون على دور مجتمعي للدراما التلفزيونية، وخلافهم يقتصر فقط على تقدير حدود هذا الدور.
إلا أن عوامل خارجية تتعلق بشرط الإنتاج والتسويق والمشاهدة، وأخرى داخلية تتعلق بضعف النص التلفزيوني وغياب مفهوم الصناعة عن الإنتاج التلفزيوني، كان من شأنها أن تعصف بكل الأدوار المحتملة للدراما التلفزيونية العربية لتنحصر دورها في حيز الترفيه، وتتراجع علاقتها مع المتلقين بتراجع علاقتها مع واقعهم وضياع هويتها الخاصة، ورغم أن عدداً ضخماً من الناس يشاهدون الدراما التلفزيونية اليوم، إلا أننا لا نبالغ بالقول أن نسبة قليلة منهم تبقى تعنيهم حكاياتها، وهو الأمر الذي يؤكد أن الدراما التلفزيونية العربية، كثير منها لا كلها اكتفت بحيز الترفيه، حيث تقتصر علاقتها مع المشاهد على تسليته في دقائق معدودة، بعدها ينفض عقد الشراكة بينهما وكأنها لم تكن. ووفق هذا المنظور يمكن من المجدي أن نسقط صفة”العربية” وما يلحقها بطبيعة الحال من تسميات “قطرية” ونكتفي بتسمية ما ينتج اليوم بـ”الدراما التلفزيونية” .. هكذا دون هوية تميزه أكثر من كونه مادة درامية معدة للعرض التلفزيوني. ومع إسقاط هوية الدراما التلفزيونية، لابد من إسقاط/ تجاهل هوية المكان الذي تدور فيه، ليس فقط لكسر أي حالة إيهام بأن هذه الدراما تخص مجتمع دون آخر، وإنما لتلافي مساءلته أيضاً عن مصداقيته في نقل المجتمع الذي يتحدث عنه.
وفق تلك الصورة فقط تكتسب كثير من المسلسلات الموسم الدرامي الحالي، ومواسم قبله بطبيعة الحال، مشروعية وجودها وأسلوب مشاهدتها، ولنكف عن البحث عن ظلال مجتمعاتنا في تلك الأعمال، ونكتفي بمشاهدة ضمن شرط الفرجة المسلية فقط وبرسالة مجردة عامة تشبه تلك التي نخلص إليها عادة من حكايات الجدات، وبالتالي فلنكتفي من “تشيللو” بعبرة الفكرة المتأتية من جنون المال حين يعصف بالحب وقدرة هذا الأخير على مقاومة إغراءاته أو تطويع المال لصالح العاطفة، ولنتتبع كيف أن صراع المافيا والفساد سيأكل أصحابه في مسلسل “العراب”، ولنستمتع بقصص الشهامة وأخلاقيات أهالي الحارات في مسلسلات ما يعرف بدراما البيئة الشامية، ولنتنفس عطراً ونمتع عيوننا بمسلسلات الـ”بان آراب””..ونتلصلص على أجزاء “صرخة روح” بوصفها عالماً ليس لنا،ولندع مساءلة هذه المسلسلات وسواها، عن ذواتنا الغائبة أو المشوهة فيها، فهي تمر بحالة غريبة من انفصام الشخصيّة تجاه واقعها.
______
*ناقد فني