*ترجمة: أحمد عبد اللطيف
قرر روبرتو بولانيو، التشيلي الذي رحل عن الحياة مبكراً، بعد أن صنع أسطورته على أنقاض جيل الواقعية السحرية، ألا يموت. كان يعلم، ربما منذ بدأ الكتابة، أن ظل الموت الذي يلاحقه سيوقع به في فخاخه. لذلك قرر ألا يموت، أن يبقى بأعمال مخلدة، تصدر تباعاً عقب موته، كأنه يكتبها من العالم الآخر. هكذا ترك بولانيو، صاحب رواية «2666» الفارقة في تاريخ الأدب الحديث، أعمالاً غير منشورة ربما يفوق عددها أعماله المنشورة في حياته.
حتى أن عمله الشهير، الذي وصلت صفحاته إلى 1200 صفحة، نشر بعد رحيله. لكن أعمال بولانيو التي اكتشفوها ليست أعمالاً روائية فقط، بل رسائل ظهرت مؤخراً كان قد أرسلها إلى عائلته عندما كان في العشرينيات، يتحسس خطاه في الحياة كأعمى. أعمى يعرف أن مصيره الأدب.
هنا نترجم رسالة له أرسلها من تشيلي إلى أمه بالمكسيك، خلال سنوات حكم سلفادور الليندي القليلة ونشرتها جريدة الأونبيرسال. ورغم أنها رسالة شخصية، إلا أنها ترصد فترة حساسة في تاريخ تشيلي.
رسالة بولانيو إلى أمه
أمي الحبيبة. أم روحي، ماتيتا بانتيرا روسا، أنا في تشيلي. جئت في مركب مليء بالتشيليين العائد بعضهم من أوروبا، ومعظمهم رجعي جداً، يرددون اللعنات على الليندي: «هذا الرجل!». كانوا ينظرون إليّ بشيء من الاحتقار، ما أعتبره فخراً، لأن حتى وجهي يبدو عليه أنني من الحزب البلشفي، ولا أجد تفسيراً آخر. سألوني إن كنت أعمل أم أدرس، فقلت لهم، برضا «أنا كاتب»، لم يكن أحد يعرف شيئاً، لكن بمجرد أن عرفوا أن عائلتي في المكسيك سألوني: «وماذا ستفعل حضرتك في تشيلي؟». قلت: «لا أعرف، أنا تشيليّ»، وخلال الثلاثة أيام على ظهر المركب كانوا ينظرون إليّ بخوف، وأثناء الطعام كانوا يقولون لي مبتسمين: «يبدو أن حضرتك من الطبقة العليا». «لا يا رجل، كيف!» كنت أرد، رغم أنني في النهاية وعدتهم أن أطردهم من البلد شر طردة.
البحر جميل، هائل، يشعر المرء بأنه محض نملة، لكنه يثير الخوف. تذكرت نهاية رواية بوب كان فيها شاب طيب وجريح يتنبأ بأن الشاطئ سيبتلع كل شيء ذات يوم. أنا لا أرى ذلك، بيقين كبير أتذكر قرب وصولي من ماناجوا، على بعد 30 كيلو متراً من ماناجوا، استيقظت ورأيت السماء ملأى بالنجوم، لم أرها عبر نافذة، بل من ثقب صغير. كان مشهداً معتاداً ومكرراً، غير أنني استمتعت به، وشرعت في الضحك وحدي، ورفعت جسدي لأنظر للنجوم. نجمة بدت كطبق طائر. هكذا كنت أسلي نفسي في المركب، بمشاهدة الصور في السحاب وارتداء عدسات بعض أصدقاء فرنسيين، وتحققت من حاجتي الفعلية لشراء عدسات مماثلة. تعرفت على بحيرة نيكاراغوا، بالقرب من مدخل كوستاريكا: بحيرة جميلة، شديدة الجمال. فكرت، ولا زلت أفكر، في حضرتك، يا عزيزتي الأعز، «يا أقدم إنسانة أعرفها»، وفكرت في بابا، وفي مي، وفي تالي، وفي خايمي، وفي المكسيك، وفي المكسيكيات، وفي المكسيكيين. البحر جميل جدًا، يعرف الواحد من خلاله الشرق والغرب، الحقيقة أن الغرب هو الشرق.
أكلت قليلاً من الطعام التشيلي الشهي، الحريف، وقرأت في أنطولوجيا بابلو نيرودا الشعبية التي توزع مجانًا في المدارس، وهربت مني دمعتان من دموع التماسيح. نيرودا جيد، شعره ثوري ومحارب. «في بنما سرت بلا قبلة»، وعرفت المدينة كاملة، وعرفت «بابلوا» التي تقع عند القناة، وركبت مواصلات عامة، وركبت تاكسيًا مرتين. الناس تبهرني. لكن لا أعرف، لا أفهم بنما، ليس لدي فكرة، لكن الناس في لحظات صعبة، وربما تنتظرهم لحظات أصعب. هل حكيت لك عن جمال نساء كوستاريكا؟ في كوستاريكا وبنما اليانصيب ساحر.
سافرت إلى «كولون» في قطار، كريستوفر كولومبوس كان هناك ملتصقًا: في قطار لعبة في طريق/ غابة، في الدرجة الثانية، بجانب أناس من «كولون» وأطفال زنوج من «جامبوا» وأولاد من جامايكا متأملين وألمان وأميركيين شماليين بيض وأنثروبولوجيين، وسوسيولوجيين، يهبطون في فريخولس أو في محطة أخرى- كلها في القناة- تسمى تقريبًا مستر هوب، مونتي أسبيرانثا. عبرت ببحيرة جاتون، مذهلة، وكان القطار يعبر ببحيرات يمينًا ويسارًا، بحيرات ملوثة، قذرة، وبحيرات نظيفة جدًا حيث تعكس القطار. بحيرات هائلة. وكل شيء في القطار مضيء. كانت الحادية عشرة صباحًا، والنهار مشمس جدًا، والجو حار، والرطوبة عالية لدرجة أستغربها الآن. هل أنت مستعد؟
– نعم سيدي.
ركبت المركب في كولون وعبرت القناة في اليوم التالي. كانت الغرفة بأربعة أسرّة، لكن استخدمنا اثنين فقط: داريو نوسيكوانتو، تشيليّ الجنسية، 19 عامًا، وجونيور ماوديت، 18 عامًا، يعيش في فنزويلا وأرسله أهله إلى تشيلي ليتاجر في الدولار من أجل والدته التي تتمنى تكوين ثروة وأن يصبح رجلًا ويتوقف عن قطع الطريق في كاراكاس. الصبي الضجر والأحمق لم يضايقني إطلاقًا، لكنني ذات مرة كنت على وشك أن أكسر له فكه. «فجأة أصبحت شجاعًا، أصبحت شريرًا». لم أنفق دولارًا واحدًا. الفتيات كن يهدينني علب السجائر، رجل إسباني أراد أن يهديني أيضًا علبة سجائر، شيء فظيع. لم أقرأ شيئًا. لم أكتب شيئًا. الطعام كان لذيذًا. لو كان بيدي أن أرسل لك القائمة! كان هناك أيضًا واحدة من بنات القبطان، فتاة إيطالية جميلة جدًا، في سن الـ 16، وصارت الأمور على ما يرام وكسبت مشاعري. في «أريكا» ركبت جميلة بيضاء، تشيلية، في الـ 32، هكذا قالت لي، ولديها طفلان، ومتزوجة بالطبع. اسمها أديلي، أبوها سويسري ألماني، وصوتت لصالح أليساندري، لكنها الآن مع الليندي. تعمل سكرتيرة في مصنع، طويلة، بيضاء، نحيفة، أقول طويلة، مهرة، بعينين زرقاوين، وفيضان من اللطف. الجميع كان ينظر إليها، وهي كانت تغازلني، وأنا أغازلها. «هل أنتِ شاعرة حالمة».
كانت تقضي إجازتها في أريكا. لوحدها. وحيدة. وفي هواء البحر، فطرنا وتغدينا لثلاثة أو أربعة أيام، كانت أيامًا جميلة. وفي خط الاستواء أقاموا حفلة ليلًا ولم أحضرها، لأني لا أملك بذلة ولا كرافات، كما أن الحفلة كانت في الدرجة الأولى، حيث 10 أفراد فقط وبنات القبطان (الحزانى). في ليما فقدت تذكرة السفر في بيت فتاة فنزويلية صديقة لزميل في الغرفة…
من بعيد رأينا «بينيا»، رأينا «كينتيرا»، حيث مصنع النحاس، ورويدا رويدا تتضخم المدينة (كنا قد رأينا الساحل قبل ساعتين) وما زلنا نرى الساحل، وكان الجسر يكتظ بالتشيليين، وكلهم بين السعادة والمفاجأة والخوف. وصلنا في الثانية عشرة نهارًا، لا، في الرابعة عصرًا (لأننا أكلنا في الواحدة) «بينيا» و «بالباراييسو» وضواحيها، والجبال. سيدة تقول لسيد: انظر، هذا جبل المتع. وأنا أسألها فتشير لي: أشعر بسعادة. لا يُسمح للمركب بالرسو ونبقى معلقين. «بالباراييسو» في الليل مدينة خلابة: الجبال تضيء. وفي اليوم التالي نهبط للميناء دون مشكلة: لا أحد يساعدني بطوق. أرتدي ملابس زرقاء، بحذاء بدون جوربين. أخرج مشيًا وفي الجمرك كل شيء يسير على ما يرام. ينظرون في حقائبي وينتهي الأمر. وأسير حتى القطار، وأتعرف على كل الشوارع: نصب «برات»، وشعارات «مير». أركب القطار لثلاث ساعات وأهبط في الليسيه، بعد أن أتأمل «ريكريو» و«كاليتا أباركا». أقول إنني رأيت نفسي طفلًا وشقيًا وجميلًا بشكل عميق. أعبر بـ «كيلبوي»، بالمزرعة الألمانية، لم ينتظرني أحد لكنني أكثر سعادة. عمال الميناء رأوني كأخ دون مبالغة. وفي القطار، وبجانبي رفيق كرسي يساري وبيروقراطي (يعمل بالجمرك) وأناس كثيرون واقفون، توقف شاب بقميص أبيض، نصف متسخ، وبلوفر بلا أكمام وبيده كتاب ضخم، برفقة فتاة، تشيلية جميلة، كلاهما شاب، كلاهما فقير، كلاهما متعلم، صادقتهما. جلست الفتاة بجانبي. كانا يبدو عليهما الجوع. قدمت لهما مما معي فأخذاه بابتسامة. قبلها كنت قد اشتريت سندوتشًا من المزرعة الألمانية، وهما اشتريا سندوتشا واقتسماه. نصف لكل منهما. كان الولد يدخن، وليأكل أطفأ السيجارة وعاد بعدها مسرورًا وهو يشعل الجزء المتبقي منها. حينها كانت نفدت سجائري الدنهيل التي أهدوها لي في المركب، وفي الطريق لم يشعل الولد سيجارة رغم أنه قدم لي سجائره الهيلتون دون أي شعور بالمعاناة بل بكرم شديد. شعرت حينها بأنني مثل كاردينال أصبح كاهنًا. نظرت إليهما. هذا هو الحب، الحب الصافي، وضحكت حرفيًا، فعلا، بقهقهات من الحب، واحتفيت به. وقبل أن نصعد لمطلع توقف القطار، أخرجنا رؤوسنا لنرى ماذا حدث. عربة السائق كانت قد فلتت من القطار وسارت وحدها. لو حدث ذلك بعد صعودنا المطلع، ما كنت كتبت إليكِ هذه الرسالة. في النهاية، كل شيء كان أوديسة، أو إلياذة.. ووصلت إلى سانتياجو.
قابلت خايمي الذي قابلني بذهول، كأنني كنت مختفيًا وظهرت، ورأيت صِبية يتعاركون. خرجنا من المركز في الحال: كل شيء كان يبدو محتقنًا. كان ثمة تجمّعان: أحدهما لنساء يؤيدن الليندي والآخر لنساء يعارضنه بضراوة، وفي الشارع كانت هناك مشاجرات، غازات قوية مسيلة للدموع. وحشد ثالث لأناس من القرى. ورابع للطبقة الوسطى والبرجوازية، حشد أكبر من حشود الليندي، لأن أنصار الليندي كانوا في مظاهرة ضخمة أمس. دخلنا في المنتصف. الجميع كان مرتبكًا. شيء شبه طبيعي. وفجأة مجموعة من الناس تجري في اتجاه، وفرد يجري في اتجاه معاكس، وآخر يجري في اتجاه آخر، وثالث يبتعد ويجري آخرون في أي اتجاه ويبحث أحدهم عن مخرج. قضيت اليوم الأول متوترًا. المدينة تطاردني. خوذات في كل ناصية. مجموعات تأتي لتهاجم نصيرات الليندي، وتظهر خوذات أخرى حمراء لشباب الشيوعية أو الاشتراكية أو الميرية أو المابو الموجودين هناك للدفاع عن السيدات، ومسلحون آخرون يقفون ليمنعوا أي تصادمات. بعدها توجهنا لمركز الفن. الفنانون يصيبونني بالاكتئاب. شاهدنا معرضًا للرسم. كان هنا الشاعر لامبيرج، الفائز بجائزة البيت الأميركي الأخيرة. قدمه لي خايمي. كان طبيبا بيطريا بلا طعم، فظيعا. قابلت مجموعة شباب دعوني لمجموعة «الشباب الشيوعي». أحيانًا يجتاحني كره مجنون لكل شيء، أرى كل شيء أنانيا، وأنا بالأساس. أشعر بضيق، بيأس. (يبدو ذلك عملا دراميًا). لدي القليل من الدفاعات: الأدب مخلصي الوحيد. ليس المهنة الميديوكر التي تمارس فيها الحفلات والتوقيعات والجامعات وقراءات الكُتّاب المتقدمين أو في طريق التقدم ولا «ماريجوانا الكُتّاب المنحلين، الإقطاعيين. أتوه نعم، لكن عندي إرادة، أتمنى أن تكون عندي إرادة صلبة، ويجب أن أحارب. في الشارع أرى صفًا يدفن شابًا رفيقًا (15 سنة) كلهم يرتدون القميص الأحمر، والبنات جميلات جدًا، بعضهن يبكي بحرقة. مشيت قليلًا وقابلت مونيكا، الآن هي أسمن من قبل، كانت نحيفة جدًا. فرحت بمقابلتها وهي أيضًا. كانت تدافع عن الحكومة، شديدة الحماس. دعتنى لتناول الغداء معها يوم الأحد، رحت وتغديت. كانت هناك سيلفيا، متزوجة، وتحافظ على نفسها كما كانت من خمس سنوات، عرفتني على زوجها وكان ظريفًا جدًا. مونيكا تعيش بمفردها في «بيلباو» وتعمل مدرسة. أكلنا فقط طبق فاصوليا…
أحبك جدًا. وأحب بابا، سلامي له ومرري إليه الرسالة. وسلامي لمارتا ومرري لها الرسالة، ولتاتي كذلك. في أقل من عام سنلتقي. الواحد منا لا يشعر أبدًا أنه وحيد، وتشيلي جميلة. وسلامي لمارتا، وللجميع في المكسيك، اعتنوا بأنفسكم وزوروا الطبيب، وادخروا. لقد أقلعت عن التدخين وصحتي في تحسن، انتصرت أخيرًا على السل.
_________
كلمات
العدد ٢٧٨٩