ذاكرة جدّتي التي لم تعشها


*عزالدين التميمي


ماتت جدّتي قبل ثلاثة أيام، وماتت معها كل الأشياء القديمة التي كنت أنتمي لها، لم تكن هناك علاقة واضحة بين الأشياء التي أحن إليها من خلال جدتي، وبين حياة جدتي نفسها.
وُلدت أنا في عائلة قروية، أجبرتني الحياة في المدينة (المدينة؟ ليس تماماً) على هذا النوع الذي يبدو مضحكاً من الحنين. وجدّتي وُلدت في مدينة. تزوّجت من جدي الذي كان يعمل في وظيفة ممتازة أيام الحكم الأردني، كان صديقاً لأخيها الكبير، وكانوا يرتادون المقهى نفسه في أول المدينة. رفض أبوها – كما كانت تقول لنا – في المرة الأولى العريس، كما رفض شباباً آخرين، مهندسين وأطباء، وحتى لاجئين. كان اللجوء على ما يبدو وقتها صفة ما تشبه اسم الوظيفة؛ حيث نابت في فترة طويلة عن صفة الحدائقيين وعمال ورشات البناء والحمالين ووظائف أخرى، مع أن كل هذه الوظائف لم تكن طبعاً حكراً على اللاجئين. رفض أبوها جدّي مراراً، لكنه تراجع مع إصرار أخيها الأكبر؛ صديق جدّي، وصار وقتها أول فرح حقيقي للأسرة بعد الهجرة.

كانت تجلس طول الوقت تحت واحدة من صور جدّي المعلّقة على زوايا الصالون، حيث احتفظت بواحدة من صوره القليلة التي ارتدى فيها حطّة بيضاء، مع أنها اعترفت أنها لم تحبها أول الأمر، عندما اضطر إخوتها إلى لبسها أثناء الثورة الفلسطينية في الثلاثينيات.

لقد أصدرت الثورة الفلسطينية وقتها قراراً بضرورة ارتداء سكّان المدينة للحطة حتى لا يستطيع البريطانيون التفريق بين الفدائيين الفلاحين وبين سكان المدينة، والتزم أخواها الكبيران بالقرار كما قالت.
كنتُ قد سجّلتُ بالصدفة مجموعة من مقاطع الفيديو التي تحدّثت فيها عن جدّي وعن عائلتها، وعندما عدت أمس لرؤيتها، جاءني شعور غريب بالحنين وبالخسارة. وُلدت جدتي في مدينة، صحيح أنها من هذا النوع من النساء الذي اختار طواعية أن يكون مصنّفاً كما يحب الآخرون، أن يكون جزءاً ممّا حولناه كلنا إلى فلوكلور، صارت في آخر عمرها تلبس ثوب الفلاحين المطرّز (الذي صار وكأنه ثوب الفلسطينيات جميعهن)، مع أنها لم تكن تلبسه يوماً. صحيح أنها صارت تردّد أمثالاً طول الوقت عن العشب والنبع والأرض، إلا أنها لم تنس أنها في أول شبابها كانت تذهب في كل أسبوع إلى البحر، ومرّتين على الأقل في كل سنة إلى سينما الحمرا في يافا، وأنها سمعت مرة مباشرة أم كلثوم هناك. لم تتغيّر حياتها كثيراً بعد النكبة، فعائلتها واحدة من العائلات التي لم تعش في مخيّم بعد التهجير، ولجأ أهلها إلى بيت اشتروه قبل النكبة بفترة قصيرة في طولكرم.

 لم تعش التهجير كما عاشه اللاجئون إلا مجازاً، مجاز أجبرها مع كثيرات بعد ذلك على أن يرتدين ثوب الفلاحات، وأن يعشن حياتهن. هل هناك يا إلهي أقسى من أن نخسر ذاكرتنا الخاصة، ذاكرتنا الشخصية جدّاً من أجل أن نكون جزءاً من ذاكرة أخرى أكبر. لقد كنتُ طول الوقت أحن من خلال ذاكرة جدتي التي لم تعشها أبداً، إلى ذاكرتي التي لم أعشها أنا أيضًا. أيُّ تقاطع هذا الذي يكون بين ما لم نعشه كلانا.

 استطعنا قبل ثلاث سنوات الحصول على تصريح لمجموعة من أفراد العائلة، للدخول إلى داخل الخط الأخضر، واقتنعت جدتي بعد جدال طويل أن تدخل معنا. في البداية طلبت أن نزور المسجد الأقصى فقط، وزرته وقتها أنا للمرة الأولى في حياتي، وأقنعناها أنها فرصتنا التي قد تكون الوحيدة لزيارة يافا ووافقت أيضاً. تحدّثنا في الطريق عن الخسارة وعن التاريخ، لكنها كانت صامتة معظم الوقت، ولولا تجربة أبي المحدودة في العمل هناك قبل الانتفاضة الأولى، وبعض إشارات سائق السيارة الذي اتفقنا معه، لما عرفنا أننا وصلنا إلى أول المدينة. عندما وصلنا إلى المكان الأول المطل على الشاطئ، شعرت ببرد مفاجئ، وطلبت منا المغادرة.

______
*العربي الجديد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *