الحبّ الأول


* صالح العامري


كنتُ صبياً صغيراً حينها، منقلاً جسدي النحيل بين الحارة التي يقطن فيها والداي، والحارة الأخرى التي تسكن فيها حبيبتي، بدعاوى اللعب مع الأصدقاء هناك، والسهر معهم بُعيد صلاة العشاء، لساعة أو ساعتين على أكثر تقدير، إذ عليّ أن أعود بعدها سراعاً، مندفعاً مثل شبح يسبح في ظلام القرية وحلكتها ونباح كلابها وصرارات ليلها، كي لا تقترب من ظهري عصا الأب الغليظة، والتي اقتربت مني قبل ذلك فعلاً، عندما كنت أنسى أو أتناسى أمر قسوتها الجائرة النازلة لا محالة عليّ، حين كنت أتمادى في طيشي الطفولي الذي يعانق الزمن الخاص المنفلت من حسابات الآخرين وأوقاتهم المقننة، مستمرئاً الوقوع في لحظات زمني الشخصيّ الجارفة، ومتأخراً عن الإياب الصارم، في استسلام لمصيري القادم.

كانت المشاعر البريئة أشبه بهالة من نور. وربما – كما في الأفلام- كان ثمة موسيقى تصويرية تحفّني وتتعقب خطواتي، موسيقى بالغة الرومانسية تغترف ألحانها من قيعان أزلية، تلفحني وتتمسح بي وتتفتّح على كائن يغوص عميقاً في مياه النهر، متلذذاً بالغرق والفراشات المتخيلة والخرير الناعم.
كان مجرد الاقتراب من الحبيبة، أو التنفس في محيط دارها، أو التمرئي في ناظريها من بعيد يفعل فعل السحر، ويشدّ الفتى إلى مغناطيس أو صاعقة، ويكثف العالم والكون في كلمة من كلماتها وفي التفاتة غنجة طفيفة منها، وفي ابتسامة غضّة في عينيها، لم ترتسم بعد أو تتشكل على شفتيها الصغيرتين.
أتذكر الآن تلك الرحلة اليومية المجنونة، ومحاولة تأسيس خلاص شخصيّ في ذات أخرى، (حين لا خلاص أبدا)، ومعانقة روح شهيّة تعتصرك وتشدك وتغْنيك وتغذيك وتحنو عليك وتعذبك وتتخطّفك في حالها وأحوالها، وتستغرقك حتّى تلفظ آخر نفس في حياتك. وهي الرحلة التي ستوتّر وشائجك وقوسك إلى أبعد الحدود وأرهفها، وتطوّح بك في براري الشعر ومنافيه، حتّى ينقطع الحبل وتتزوّج الحبيبة وتتدثر أنت بعباءة الحزن والانكسار والجرح الثخين، وتمضي بعيداً في طريق الآلام، نافضاً- أو مدعياً ذلك- تلك التجربة التي ساطتك أكثر من سياط والدك، والتي قرّحت روحك أكثر مما تفعل الكُلابّات والمطارق الحديدية بالجسد.
ربّما تكون تلك الصبية الفاتنة هي حبي الأول، وأنا أدور في نداءاتها الآن وأتضرع في حضورها الناعم وسخائها الفذ. لكنني إذ لا أملك برهاناً على جبهتي ولا دمغة على ظهري تدل أو توضّح شيئاً من أمر تلك الذات المتشظية التي كنتها أو تكشف بمصباحها ذلك الكائن المتهوّر الذي في داخلي، والزاحف نحو حتفه الوشيك، فقد لا تكون تلك الفتاة هي ما يمكنني أن أطلق عليه تلك الصفة، أي (الحبّ الأول)، هذه الصفة التي أشمّ فيها رائحة التملك الغادر وأبصر فيها طفح الأنانية، (فالمسألة برمتها ليست شيئاً يمكن أن أصفه بأنه أوّل أو أصمه بأنه أخير). ولهذا- حتّى لو كانت تلك الفتاة الجليلة باعثاً لي وسبباً لمظاني ودروبي كلها، السالفة منها والقادمة، البادئة منها والخاتمة- فإنني لا أستطيع أن أحيد عن بواطن قديمة ضربتني، والتملص من أشياء حلّت بي وبالقرية، مارست عليّ أدوارها، وراودتني، وأحدقت بي، وأخذتني معها على صهوة جوادها الهارب، وعليّ الآن أن أستحضر قدوماتها وهجوماتها الباكرة، لعلني أشفى من جرح قديم، أو ضياع أسلمني إلى كهوفه ومغاراته ومتاهاته.
وكما لو أنني نافخ في بوق البرية، أو في مزمار اللوعة، أمام ذاتي المنتصبة كأسًى يتيم، أو على مرأى من جميع الخلائق والأشهاد، سواء كانت تلك المرأة لا تزال تمشي جميلة كعادتها على التراب، أم ترقد مضيئة في قيعان الأرض وفيافيها الموحشة، «أيها الجمال الأخضر أيمكن أن تموت؟- بيير جان-جوف»، فإنني أودّ – ليس بين مصدق ومكذب، وليس بين راضخ أو جاحد – أن أهمهم بين «لعل» و«عسى»، وبين «قد» و«ربما»، بأن حبي الأول لم يكن امرأة، بل ربما كان شوكة غابرة سدّدتْ ولهها إلى خاصرتي. ربما كان حبي الأول، وقبل أن أعرف تلك الفتاة بكثير، ذلك الدمّل الخبيث الذي حاصر الجانب الأيسر من أرنبة أنفي، أو لعله كان ذلك السلطعون الذي عضّني في احد خيران القرية في رحلة صيد سرطانات البحر بمعية رفقتي الصغار.
ربما كان حبي الأول تلك الغيبوبة التي داهمتني وأنا في العام الأول من ولادتي، والذي ألجأ خالتي لكي تعد لي كفناً، بينما كانت أمّي التي حلت بها كارثة وحاصرتها قيامة، تُصِرّ بشكل جنوني على انتزاعي من تلك الغيبوبة وهي تلجأ حيناً بشكل يائس إلى أعواد الثقاب لكي توقظني بإشعالها وغرسها في مفرق حاجبيّ، أو بدلق شيء من ماء الجرّة البارد على وجهي حيناً آخر.
ربما كان حبي الأول تلك الياسمينة العارية التي أغوتني بحنينها الأبيض وفوحها العجائبي، أو ذلك الغراب الذي سرق من يدي التمرة المدلوكة والتي كنتُ أنوي تناولها أوان العصر المذهب بزنّار الأرياف.
ربما كان حبي الأول ذلك الحريق الزاعق الذي صفع القرية في مطلع السبعينيات، والذي أتى على أكواخها السعفية وأبقارها وقططها وحملانها وجرارها وحصرها القديمة، ولم يذر فيها غير روائح الرماد القاسي ومباهج الأطفال الراكضين، الذين يظنون الحريق عيداً أو كرنفالا سحريا.
ربما كان حبي الأول تلك الحُمّى التي هاجمتني عندما كنتُ طفلاً ألثغ بنجمة الراعي، أو تلك الحيّة التي وطأتُها –أكبر الظن- بدراجتي، إن لم تكن قد تسللتْ من إحدى العجلتين بأقل من ثانية، بعد أن أغمضتُ عينيّ حال أن تقاطع طريقها مع طريقي في السكة الملتوية، رافعاً – إثر قشعريرة خوف مفاجئة – كلتا قدميّ إلى أعلى، (حيث رفعتُ قدمي اليسرى عن معشّق التروس، وقدمي اليمنى عن متكأ القدم في الدراجة)، ممدِّداً ساقيّ إلى الأمام، في هروب بشري مضاعف على آلة ركض معدنية.
ربما كان حبي الأول جنية كانت توشوش أذني وتلقي في روعي بأنها ليست من الجبل الغامض، بل قادمة من البحر، تماماً مثل تلك السهام التي أطلقها الصيادون على الغزالة من ناحية البحر.
ربما كان حبي الأقدم شجرة غاف أو سَمُر أو قرط كانت خراف عائشة ونعاجها ومعيزها تسرح وتمرح وترعى تحتها وإلى جوارها. أو ربما تلك الموجة الزرقاء التي حاولت أن تبتلعني وأنا أساعد الصيادين في سحب قارب المعلّم (برّوك الغوظ) كي يستقر على الشاطئ في رحلة صيد الأسماك ذات صباح باكر.
ربما كان حبي الأول صخرة أحاول دحرجتها عبثاً، أو وطناً مسوّفاً محزوماً في لعابي، أو أمّاً مسافرة في قلبها إليّ، أو سمكة تنفض فضتها في أشواقي، أو نخلة هيفاء تقرّب إلى أنفي، وأنا نائم أحلم بها، روائح طلعها المقدس ورطبها الجني.
ربما كان حبي الأول موتاً تجاوزني، أو حياة منقلبة ومتدحرجة تشبه ملامحها فتاة ما، خزّنتني في بوصلتها الماكرة، وفي جهاتها المتحولة، فتاة لم أرها ولم ألتقيها حتى هذه الساعة.
ربّما كان حبّي الأول صفحة بيضاء كالتي في فيلم سينمائيّ، أو زاوية حادّة تنبعث فيها عزلتي الذهبية أو دمعتي السخينة التي تفيض بالحنين إلى شيء غامض أو موارب عنّي.
ربما كان حبي الأول شاهدة قبر لا مرئية، ترتعش بالوجد، وتصطكّ بالذكرى، تتضور جوعاً كي تفتـتها العاصفة وتتحرق عطشاً كي ينهبها الطوفان.
_______
*جريدة عًمان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *