حوليّات سان جون بيرس


*ترجمة : خالد النجار

1

«أيّها العمر المتقدِّم، ها نحن أولاء.. برودة المساء على التلال، ورياح البحر فوق كلّ العتبات، وجبَاهُنَا قد تعرّت لملاعب أكثر اتّساعاً.

مساء حمّى حمراء متطاولة، تنهدّ فيها الرّماح، رأينا السّماء في الغرب أكثر حمرةً وتورُّداً من حشرات السباخ : مساء بحار رمل شاسعة ومدارات كبيرة، حيث بدت لنا سقطات أبجدية النهار كانحلال الكلام…

وإنّه لتمزّق أحشاء وأمعاء، على امتداد المجال المضاء لهذا العصر : خِرَق مطهّرة في المياه الأمومية، وإصبع رجل جائل في أقصى خضرة وبنفسج السّماء في فرجات الحلم تلك، الدّامية والمخرّمة في عنفوانها!

غيمة شفافة وحيدة وبطيئة لها انثناء أكثر إشراقاً، في سماء الجنوب، تحني بطنها الأبيض بياض القرش ذي الزّعانف الشفّافة، وحصان السفاد المسائي الأحمر يصهل في الكلس، وحلمنا في أعلى مقام. صعود متناغم مع صعود الكواكب التي تولد من البحر… أبداً، ليس بالبحر نفسه، كنّا نحلم هذا المساء.

أيّاً كان ارتفاع هذا الموقع، فثمّة بحر آخر، يرتفع في الأقاصي، ويتعقّبنا بمستوى علوّ جبهة الإنسان : جرم كثير الارتفاع، ونهوض عصر في أفق الأراضي كمتراس حجريّ على جبين آسيا، وعتبة شديدة الارتفاع تلتهب، منذ الأزل، في أفق البشر، أحياءً كانوا أم أمواتاً، فهم من حشد واحد.

ارفع رأسك، أَيا رجلَ المساء، فوردة السّنين العظيمة تلتفّ فوق جبينك الصّافي، وشجرة السّماء ضخمة مثل صبار يتسربل في الغرب بحشرات الكوشنيل الحمراء، ونحن، وفي توهّج ليل، يضوع برائحة الطحالب الجافّة، نزرع، لأجل انتجاع أعلى، جزراً كبيرة قريبة من السماء، مترعة بثمار التوت البرّي وبالعرعر.

ثمّة، في السّماء، حمّى وسرير جمر. شرعة الزوجات لليلة، كلّ الذرى المغسولة بالذّهب!

2

أيّها العمر المتقدّم، لقد كنت تفتري: فالطّريق كانت من الجمر، ولم تكن من الرّماد… وجوهنا محمومة، وأرواحنا سامية، فلأيّ تجاوز نسير أيضاً؟ الزّمن الذي يقاس بالسّنَة لم يعد مقياساً لأيّامنا. ولم تعد لنا، أبداً، مؤالفة مع الأهْوَن، ولا مع الأسوأ. لأجلنا، رعشة الاضطراب الإلهي الأخيرة.

أيّها العمر المتقدِّم، ها نحن أولاء نسير فوق دروبنا التي لا حدود لها، فرقعة السوط على كلّ الأعناق، وصرخة مدوّية في الأعالي! وهذه الريح الشديدة القادمة من مكان آخر تعترضنا، وتحني الإنسان على الحجر كما ينحني المحراث على الأرض.

سنقتفيك، يا جناح المساء… سَيَحان الزّيت الحجري في البازلت وفي الرخام! صوت الإنسان فوق الأرض، ويد الإنسان في الحجر تسحب عقاباً من ليله، بَيْد أنّ الإله لزم الصّمت عبر الأيام، وسريرنا لم يُمَدّ أبداً في المدى، ولا في الزمن.

آه، أيّها الموت المتزّيّن بالقناع العاجيّ، عبثاً تلتقي بمسالكنا الناتئة بالعظام، فطريقنا ينزع إلى الأقصى. حامل الأسلحة في أسمال العظام المضحكة، الذي نأويه والذي نتّخذه رهينة، سوف يغادرنا هذا المساء، في انعطافة الطريق.

وهذا مختصر القول: نحن نعيش فيما وراء الموت، وبالموت نفسه نعيش. عبرت الخيول التي كانت تركض نحو المعظمة، وأفواهها ما تزال نديّة بزهور الأرض، ورمّانة سيبيل ما تزال هي- أيضاً- تصبغ بالدم أفواه نسائنا.

مملكتنا تقع قبل الليل، في ذاك التوهُّج الكبير لعصر يمضي إلى أوجه، ونحن ليس لنا فيه أسرّة عدل ولا منازل شرف، بل نشر للأنسجة فوق المنحدرات، باسطين الطيّات الكبيرة لحِزَم الضوء الأصفر الضخمة، التّي يجمّعها متسوِّلو المساء من الأقاصي، مثل حرائر الإمبراطورية وحرير القبائل الخام.

لدينا ما يكفي من أصابع الطباشير تحت معادلة مستحيلة… وأنتم، أيّها الأبناء البكر الكبار، في أرديتكم الصلبة، يا من تهبطون من المنحدرات الخالدة، بكتبكم الحجريّة الكبيرة، رأينا حركة شفاهكم في ضوء المساء : لم تنبسوا بالكلمة التي تنهض، ولا بتلك التي تقتفينا.

لوسينا ، أيّتها الهائمة فوق رمال الشواطئ من أجل رعاية ولادة النّساء، ثمّة ولادات أخرى، لك أن تحملي إليها قناديلك! والإله الأعمى يلتمع في الملح وفي الحجر الأسود الأوبسيدي أو الغرانيتي، والدولاب يدور بين أيادينا مثل طبول قبائل الأزتيك الحجريّة.

3

أيّها العمر المتقدِّم، نجيء من كلّ ضفاف الأرض. جنسنا عريق، ووجوهنا بلا أسماء، والدّهر يعرف، جيّداً، أيّ رجال كنّا.

وحيدين سرنا على الدروب القصيّة، والبحار التي كانت تحملنا بدت لنا غريبة. عرفنا الظلّ وطيفه الذي من اليشب، ورأينا النيران التي كانت ترعب دوابنا، والسّماء التي ظلّت مستعرة الغضب في أوانينا الحديديّة.

أيّها العمر المتقدّم، ها نحن أولاء، لم نكن نعتني بالورود ولا بشوك الجمل، بيد أن رياح آسيا الموسميّة كانت تخفق، بشدّة، لبنها الزبدي وجيرها الحَيّ، حتّى أَسِرَّتنا التي من جلد وخيزران. أنهار كبيرة تفجّرت من الغرب كانت تدفع، وعلى مسافة أربعة أيام من البحر، عصارتها الكثيفة من الطمي الأخضر.

و فوق الأرض الصلصاليّة الاستوائيّة الحمراء حيث تمضي حشرات الهند الخضراء، كنّا نصغي، ذات مساء، إلى أولى قطرات المطر الدّافئة، ترنّ وسط تحليق كناري إفريقيا الأزرق، وإلى الطيور النازلة من الشمال في هجراتها الكبيرة، إذ تصفق السطح الأوردوازي لبحيرة شاسعة.

في بقاع أخرى، فرسان بلا سادة، يقايضون دوابهم بخيامنا المصنوعة من لبّاد. ونحن رأينا نحلة الصحراء القزمة تعبر، والحشرات الحمراء المرقّطة بالأسود تتسافد فوق رمال الجزر، وثعبان الليالي القديم لم يجفِّف دمه، أبداً، لأجلنا، بنيران المدن.

ولعلّنا كنّا في البحر يوم الكسوف، ذاك يوم الخبوّ الأوّل، يوم عضّت ذئبة السماء السوداء كوكب آبائنا القديم في القلب. وفي اللجّة الرّماديّة والخضراء التي بروائح البزر وبلون عيون الأطفال الرضّع، كنّا سبحنا عراةً، راجين أن يُبَدَّل لنا كلّ هذا الخير شرّاً، وكلّ هذا الشرّ خيراً.

أكيد أننا كنّا رجال هدم، كنّا من أنفسنا، وليس من أيّ من السّادة نأخذ شهادات العتق. معابد كثيرة هُدِمت، وعقائد انكشفت، مثل نساءٍ عارياتِ الأَوْراك، مقايضات بأرصفة المرجان الأسود وبيارق محترقة في كلّ المرافئ، وباحاتنا في الصباح مثل الجون البحرية.

آه، أنتم يا من كنتم تقودوننا إلى كلّ حيويّة الرّوح، هذه نعم هائمة فوق المياه: هل ستُعلِموننا، ذات مساء، على الأرض، باليد التي تكسونا ببرنس الخرافة الحارق ذاك؟ ومن أيّ عمق لجّيّ أتانا- خيراً أو شرّاً- كلّ ذاك الهجوم الفجر ي المحمَرّ، وذاك الجانب الإلهي في أعماقنا، الذي كان نصيبنا من الدياجير؟

هكذا نلمحه في المساء، في البلدات الكبيرة التي تربّي الماشية، حيث يتزوّد الريفيون ببزرهم: أقفرت كلّ الينابيع، وكلّ ساحة جفّ وَحْلها، موسومة بآثار حوافر الماشية، والغرباء بلا أسماء وبلا وجوه، يعتمرون قلنسوات طويلة مسبلة، يقتربون، تحت الأروقة وحذو دعامة البوّابة الحجرية، من فتيات الأرض الكبيرات اللواتي يعطّرن الظلّ واللّيل، مثل قوارب من صنوبر في الظلال.
_______
*الدوحة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *