السيد بينيت والسيدة براون




*فرجينيا وولف/ ترجمة وتقديم : خضير اللامي


خاص ( ثقافات )


هنا ، في هذه المحاضرة الماتعة ؛ رغم تمّيزها بالغموض والعمق وتناولها الشائك للشخصيات وتحليلها التي تُعدّ الثيمة الأساس أو العمود الفقري لها ، تحاول فرجينيا وولف، وكما شأنها في توجهها في الأدب ، أن تضع أسسا رصينة للحداثة تكون بديلا لما هو سائد في مفهومات المقالة في عهدها والعهود السابقة ، ومن خلال عقد مقارنة بين العهدين الادواردي والجورجي في بريطانيا وصولا إلى عهدها، وكما هو السائد أيضا في الإبداع ، وبخاصة في مجال الرواية . ولا يغيب عن بالنا ما طرحته روايتها أو رائعتها الأدبية ” السيدة دالاوي “وغيرها من الروايات ، بوصفها رائدة لمفهومات تتجاوز ما قبلها ومنها مفهوم تيار الوعي واللاوعي . والمحاضرة بعد هذا تشد المتلقي أسلوبا ، ومضمونا ، وجراءة في تحليل الشخصيات التي ركزت وولف بكثافة فيها . 
المترجم ..
_________________

يبدو أنني الشخص الوحيد في هذه القاعة( 2) ارتكب حماقة الكتابة ؛ أو حاول كتابة الرواية ؛ أو أخفق في كتابتها . تساءلت مع نفسي بعد دعوتكم إياي في أن أتحدث إليكم عن الرواية المعاصرة . أي عفريت هذا الذي همس في أذنيَّ ، وحثني إزاء قدري ، وبرز أمامي على هيأة رجل أو امرأة : ” أنا براون ، امسكي بي إن كان بمقدورك ذلك ؟! ” ومعظم زملائي الروائيين يمرون بهذه التجربة . بيد أنّ الاختلاف في اسم العفريت ، البعض اسمه براون ، والآخر سمث ، أو جونز ، يظهر أمامهم ويتحدث بطريقة مغرية جدا ، وساحرة في الغالب ، ( ها أنذا أمامكم هل تستطيعون الإمساك بي ؟!) وهكذا يستدرجهم بهذه الطريقة السرابية . ويروح الروائيون يتخبطون خبط عشواء ، في كتابة رواية بعد أخرى ، ويقضون جلّ أعمارهم في المطاردة ، ولا يتسلمون مقابل ذلك إلا جزءً قليلا من الأجر ، والبعض الآخر لا يقبض إلا الريح . والغالبية منهم تقنع بخرقة بالية من بدلة تلك الشخصية ، أو خصلة شعر من رأسها .
وأعتقد أنّ النساء والرجال ممن يكتبون الروايات يستخدمون طعما في خلق شخصية روائية تفرض نفسها عليهم ، وعلى وفق مواصفات السيد آرنولد بينيت للشخصية . وفي مقالة له أقتبس لكم هذه الفقرة ” أساس الرواية الجديدة هو خلق الشخصية ، ولا شيء آخر . نعم ، فالأسلوب يؤثر ، والحبكة تؤثر ، ووجهة النظر الأصيلة تؤثر ، ولكن ، لا شيء له تأثير فاعل أبدا ، مثل تأثير الشخصيات ، فإنْ كانت الشخصيات واقعية ، فثمة فرصة لها ، وإنْ كان العكس ، فالنسيان سيكون من نصيبها . ” 
ويستنتج السيد بينيت في ختام مقاله .. ” إنه ليس لدينا روائيون شباب ، مهمون من الدرجة الأولى في الوقت الحاضر ؛ لأنهم غير قادرين على خلق شخصيات واقعية وحقيقية ومقنعة . “
هذه هي المسائل التي أريد أنْ اناقشها ، وأريد أنْ ابرهن ، ماذا تعني حينما نتحدث عن ( الشخصية ) في الرواية . لنذكر شيئا ما عن السؤال الذي أثاره السيد بينيت عن الواقعية ، ولنقدّم بعض الأسباب عن إخفاق الروائيين الشباب في إبداع الشخصيات الروائية ، فإذا هم كما يؤكد السيد بينيت فشلوا حقيقة في هذه المهمة ، وهذا سيقودني ، وأنا واثقة من ذلك إلى بعض المسوحات والتأكيدات الغامضة جدا ، ذلك أنّ السؤال غاية في الصعوبة . ألا تتفقون معي أننا لا نعرف إلا النزر اليسير عن الشخصية ، فضلا عن أنّ معلوماتنا تقتصر على الشيء القليل من الفن ؟ ولكن ، لا بد لي من أن أكون واضحة قبل الشروع بالإجابة ، هي أنْ نصّنف الكتّاب الادوارديين (3 ) والكتّاب الجورجيين (4) إلى مخيّميْن ، وسأطلق على السيد ويلز والسيد بينيت والسيد غالزوورثي مخيّم ( الادوارديين ) والسادة ، فورستر ولورنس وستراشي وجويس واليوت مخيم ( الجورجيين ) . فإنْ تحدثت باسم ضمير المتكلم المفرد الأول وبذاتية ربما لا تطاق ، فإنني استميحكم مقدما العذر ، فانا لا أريد أن اعزو إلى نفسي عالم الآراء الانعزالية ، والفردية المضللة والسرد المريض .
فتأكيدي الأول ، هو أحد التأكيدات التي أعتقد أنكم ستخولونني إياها – إنّ كل شخص كما افترض هو محلل في هذه القاعة ، وفي الواقع ، سيكون من المستحيل أنْ تمر سنة دون أنْ تلمّ بنا كارثة ، ولا يمكن مواجهتها ما لم يمارس المرء قراءة الشخصية ، ويمتلك شيئا من المهارة في الفن ، فعلاقاتنا الزوجية وصداقاتنا تعتمد عليها ، وشؤون عملنا ترتكز عليها بقدر أو آخر ، وفي كل يوم يمر تثار أسئلة لا يمكن حلها إلا بقدرتنا على تحليل الشخصية . أخاطر بالتاكيد الثاني ، وخاصة عندما نشير إلى العام 1910، الذي ترك بصماته وتأثيراته على الشخصية .

وهنا ، لا أدعي أنّ التغيير يحدث سريعا ، مثلما يخرج شخص إلى حديقة ويشاهد هناك أنّ زهرة جديدة قد تفتحت ، وأنّ دجاجة قد وضعت بيضة ، فالتغيير لا يأتي فجاة ومحددا بهذه الطريقة ، بيد أنّ التغيير حاصل رغم ذلك ، ومهما كان الإنسان تعسفيا في آرائه . فدعونا نضع تاريخا للتغيير للعام 1910، (5) . فعلاماته اأاولى ، مدونة في مؤلفات صاموئيل بتلر ، في كتابه ، “طريقة الجنس البشري ، The Way of All Flesh ، ” واستمرت مسرحيات جورج برنادشو تشير إليه .. من هنا نستطيع أن نلاحظ وتيرة التغيير في مسار الحياة . فلنأخد مثالا مألوفا لدينا نحن الانجليز ، عن شخصية الطباخ في العهدين الفيكتوري والجورجي ، فالطباخ في العهد الفيكتوري عاش شبيها بالوحش البحري الشرير في الأعماق السفلى ، فهو كائن مرعب ، وصامت ، وغامض ، ومحاط بالألغاز ؛ في حين أنّ الطباخ في العهد الجورجي مخلوق لشروق الشمس ، والهواء الطلق في داخل وخارج قاعة الاستقبال . وثمة مثال آخر ، دعونا نلتمس من الديلي هيرالد ،The Daily Herald ، أنْ تقدم لنا نصيحة في شراء قبعة ، فهل نطلب منها تفاصيل وافية عن تاريخ السلالة البشرية وسلطتها وتغيرها ؟!! اقرأ اغا ممنون ، Agamemnon، ولاحظ إنْ كانت مشاركتك الوجدانية في عملية الزمن في الغالب لا تتطابق مع كليتمنسترا Clytemnestra، او تأمل الحياة الزوجية لكارليل ، والنواح على الخراب ، واللاجدوى ( له أو لها ) ، هو العرف المحلي المرعب الذي يجعل من ذلك شيئا ملائما للمرأة العبقرية في ان تمضي وقتها في مطاردة الخنافس ، والبحث عن الفضلات في القدور بدلا من تاليف الكتب ! فقد تغيرت جميع العلاقات الإنسانية – تلك التي بين السادة والعبيد ، والأزواج والزوجات ، والآباء والأبناء . من المنطقي ، حينما يعتري العلاقات الإنسانية تغييرا ، فلا بد أن يحدث تغييرا في الدين ، والسلوك ، والسياسة والأدب . دعونا نتفق على المتغيرات في العام 1910 .

ذكرت أنه يتطلب من الناس قدرا جيدا من المهارة ، لقراءة الشخصية لمواجهة أية نكبة قد تواجههم ، وقراءة الشخصية هو فن الشباب . فقد أُستخدم هذا الفن في العصر الوسيط والعصر القديم ، وكان من النادر أنْ تُخلْق الصداقات والمغامرات الأخرى ، والتجارب في فن قراءة الشخصية ، ولكنْ ، الروائيون يتمايزون عن بقية الناس ، لأنهم لا يتوقفون عند الاستمتاع في تحليل الشخصية ذاتها .. وحين تكون جميع الأعمال العملية في الحياة قد أفرغت من مضامينها ، فإنّ ثمة شيئا ما يستمر حول الناس ؛ يبدو لهم ذا أهمية غامرة بالرغم من الحقيقة أنْ ليس هناك قدرة على الاحتمال . مهما كانت أهميتها ، لها تاثير على سعادتهم وراحتهم ، وربما على دخلهم ، وأمست دراسة الشخصية بالنسبة لهم مطاردة شيقة ، ليضيفوا عليها نوعا من التسلط الفكري .. وقد وجدنا هنا ، من الصعوبة بمكان ، أن نوضح ، ماذا يعني الروائيون عندما يتحدثون عن الشخصية ؟ وما هو الدافع الذي يحثهم بقوة بين مدة وأخرى ليجسدوا رؤيتهم في العمل الإبداعي ؟.
وهكذا ، فلو سمحتم لي ، أن اسرد عليكم بدلا من هذا التحليل والتجريد ، قصة بسيطة ، هي على كل حال ، لا تحتوي على ثيمة ، بيد أنها جديرة ، أن تكون حقيقية . وهي ، رحلة ريجموند إلى واترلو ، على امل أنْ أريكم ماذا أعني بالشخصية ذاتها .. وبالتالي بإمكانكم أن تدركوا المظاهر المختلفة التي يمكن أن تتلبسها الشخصية ، والخطر الشنيع الذي يحدق بكم مباشرة ، ساحاول أن أصفها لكم . .
موعد مع السفر
في إحدى الليالي ، قبل أسابيع مضت ، كنت على موعد مع السفر ، بيد أنني تأخرت بعض الشيء ، عن موعد القطار ، وعند وصولي المحطة ، قفزت إلى أول عربة واجهتني ، وعند جلوسي انتابتني مشاعر غريبة ، وغير مريحة في الوقت ذاته ، ذلك أنني قطعت حديثا كان يجري بين شخصين كانا جالسين في العربة ، ليس لأنهما شابان او سعيدان ، أنّ الامر يتعدى ذلك ، كانا كلاهما متقدمان في العمر ، فالمرأة تجاوزت الستين والرجل فوق الأربعين ، وكانا متقابلين في جلستهما ، كان الرجل يتكلم بثقة ، كان ذلك يبدو ومن خلال جلسته ، ومن خلال الضوء الذي ارتسم على وجهه ، لكنه ، لاذ بالصمت ، ويبدو أنني سببت له إزعاجا . فضلا عن مضايقتي إيّاه . أما السيدة العجوز التي سأطلق عليها ، على كل حال ، اسم السيدة براون ، كانت تبدو إلى حد ما ، مرتاحة ، وكانت واحدة من السيدات اللائي يتمايزن بالنظافة ، برغم الملبس الرث – فكل شيء مزرّر ، ومربوط باحكام ، ومرتب ، ومصقول ، وتوحي بالفقر أكثر مما توحي أسمالها ، وثمة شيء ما يبدو يضايقها – نظرة المعاناة والخوف من شيء مرتقب ، كانت ضئيلة البنية جدا ، وكانت قدماها في جزمتها الصغيرة النظيفة ، نادرا ما تمسان الأرض ، وشعرت بأنْ لا أحد يريد إنقاذها ، وعليها أنْ تفكر بطريقة ما للخلاص من هذا الوضع الحرج . ويبدو أنها هجرت أو تُركت أرملة منذ سنوات مضت ، ويبدو أنها تعيش حياة يشوبها الترقب والإنهاك ، ربما كان ذلك ناتج عن معاناتها من تربية وليدها الوحيد ، أو من المحتمل أنه في هذا الوقت يسيء التصرف .. كل هذا انثال في ذهني بسرعة وأنا جالسة ، وانتابني شعور بعدم الارتياح ، مثل بقية الناس الذين هم في سفر مع زملائهم المسافرين ، وأحسب لهم حسابا آخر ، بطريقةأاو بأخرى ، بعد ذلك ، تطلعت إلى ذلك الرجل ، لم تكن له علاقة مع السيدة براون ، وأنا متأكدة من ذلك تماما ، أنه ضخم البنية ، ومن النموذج الذي يعوزه التهذيب ، واستطيع أنْ اتخيل أنه من رجال الأعمال ، ومن المحتمل جدا ، أنْ يكون بائع قمح قادما من الشمال ، يرتدي نسيجا صوفيا أزرق جيدا ، يحتوي على جيب سكين ، وقد وضع منديلا حريريا في جيب صدره ، ويحمل حقيبة جلد كبيرة . ومن الواضح ، على كل حال ، أنه ارتكب عملا غير سار ويريد أن يضع له حلا مع السيدة براون ، عملا سريا ، ربما عملا فاسدا ، لا ينويان مناقشته في حضوري . قال السيد سمث ” كما سأسميه ” ” إنّ الكروفتيين 6 سيؤوا الحظ مع خدمهم ” .. قال ذلك ، بطريقة توحي بالاحترام عائدا إلى الموضوع الرئيس بقصد التمويه والحفاظ على المظاهر . ردت السيدة براون ” آه ، يا لها منإانسانة مسكينة .. ” قالت العبارة بطريقة تُظهر تفوقا تافها ، ثم أردفت ” كان لجدتي خادمة ، جاءت عندما كانت في الخامسة عشرة ، وبقيت معها حتى الثمانين ” قالت ذلك ، بشفقة مشوبة بألم ، واعتداد عدائي ،ربما بدافع التأثير علينا . قال السيد سمث بنبرة توفيقية ” إنّ المرء لا يلتقي أحيانا بهذا البشر في هذه الأيام” ، ثم لاذ بالصمت لمدة وجيزة ، بعدها أردف ، ويبدو أنّ الصمت لم يبعث في داخله الارتياح . ” إنه من الغريب ، إنهم لم يبدأوا بعد تأسيس ناد للغولف – واعتقد أنّ أحد الزملاء الشباب سيقوم بذلك . “
ولم تأخذ السيدة براون المشكلة محمل الجد ، لذا لم تكّلف نفسها بالإجابة .
قال السيد سمث ، وهو يتطلع إلى النافذة ويختلس النظر اليً كما يفعل دوما ” ما هي التغييرات التي يقومون بها في هذا الجزء من العالم ؟”
يبدو جليا من صمت السيدة براون ، ومن الدماثة غير المحببة التي تحدث بها السيد سمث أنّ له تاثيرا عليها من خلال الجهد الذي بذله من أجل ذلك . ربما كان بسبب ابنتها ، وربما كانت ذاهبة إلى لندن لتوقيع بعض الوثائق لتحويل ملكية عقار ، ومن الواضح ، أنها وقعت في براثن السيد سمث ضد رغبتها .. وبدأت اشعر بتعاطف كبير إزاءها ، حينما قالت فجأة وبطريقة لا صلة لها بالموضوع وبصوت نيّر وإلى حد ما دقيق ، وبطريقة مهذبة يشوبها الفضول ، ” هل بالإمكان أنْ تحدثني إنْ كانت اوراق شجرة البلوط تموت عندما تبدأ الدودة الجرارة بأكلها على مدى سنتين متتاليتن . “
جفل السيد سمث ، لكنه تنفس الصعداء ، ليتناول موضوعا لا ينطوي على مخاطر عن السؤال الذي وجهته إليه ، أخبرها بسرعة عن وباء الحشرات ، وقال ،إنّ له شقيقا كان يمتلك مزرعة فواكه في منطقة كينت . وأخبرها أيضا عن عمل المزراعين الذين يأتون في كل سنة إلى هذه المنطقة . وهكذا ، وهكذا ، وعندما تحدثإاليها عن شيء غريب حدث هناك ، تناولت السيدة براون منديلا صغيرا أبيض ، وبدأت تمسح عينيها ، كانت تبكي ، بيد أنها استمرت في الإصغاء برباطة جأش لما يقوله سمث ، استمر يتحدث بصوت مرتفع قليلا ، تتخلله نبرات غضب ، كما لو أنه كان فعلا قد شاهدها من قبل تبكي ، وكما لو أنها كانت مادة مؤلمة ، وفي النهاية أثارت عصبيته ، توقف حالا ، تطلع إلى النافذة ، ثم مال باتجاهها ، وبينما هو كذلك ، أفسحت له مجالا ، وهددته متوعدة أن يكف عن هذا الحديث ، عن هذا الهراء .
قالت السيدة براون وهي تجمع نفسها وتوحي تعبيراتها بكرامة فائقة : ” سبق أنْ كنا نتناقش في هذا الموضوع . ومن الأفضل ألاّ أتاخر أكثر لأنّ جورج سيكون هناك يوم الثلاثاء القادم .”
لم ينبس سمث ببنت شفة ، نهض زرّر معطفه ، تناول حقيبته ، وقفز من عربة القطار ، قبل أن يتوقف في محطة كافلام جنكشن ، وقد نال ما أراد ، ولكنه احس بالخجل من نفسه . مع انه بدأ عليه السرور وهو يغادر مشهد السيدة براون .
بقينا أنا والسيدة براون حسب ؛ جلست هي في زاويتها المقابلة ، جدّ أنيقة ، جدّ ضئيلة ، غريبة إلى حد ما ، تعاني الكثير ، مما تركت لدي انطباعا غامرا ، جاءني متدفقا مثل تيار ، مثل رائحة حريق ، كيف تكوَن ذلك الانطباع الخاص ، وذلك التيار الغامر ؟! إنهما يتألفان من أفكار وعناصر لا تُعد ولا تُحصى ، متناثرة وغير مترابطة ، وأخرى منسجمة مع بعضها ، تزدحم في رأس الإنسان في مثل هذه المناسبات ، فأنت تشاهد إنسانا ما ، والآخر يشاهد السيدة براون في مركز جميع المشاهد المتباينة .. تخيلتها وهي تسكن في دار على شاطئ البحر ، تحيطها زخارف غير مألوفة ، وقنافذ بحرية ، ونماذج من السفن موضوعة في صناديق زجاجية ، وأوسمة زوجها معلقة فوق رف الموقد الحجري . وهي تدخل الغرفة ثم تخرج منها تتكيء على حافات الكراسي ، تلتقط بعض الطعام من الأواني القريبة منها ، وتطلق العنان لتحديقات طويلة وصامتة في الفضاء ، بدت تتأمل الدودة الجرارة ، وشجرة البلوط التي تحتوي على جميع هذه الأشياء ، وفي خضم هذه الحياة الخيالية المنعزلة ، رأيت السيد سمث يتهاوى في مهب الريح في يوم عاصف مطير ، وهو يتكلم ويضرب ويصفق بمظلته الأرض ، مما أدى إلى خلق بركة من الماء وسط الغرفة وقد جلسا مختليين معا .. بعد ذلك ، واجهت السيدة براون إلهاما مرعبا ، فقد اتخذت قرارها البطولي ، في وقت مبكر من الفجر ، حزمت حقيبتها وحملتها بنفسها إلى المحطة ولن تدع السيد سمث يمسسها ، فقد أحست أنّ كبرياءها قد جُرحت وتحرر مركبها من مرساة المرفأ ، ووصلت إلى مرتبة الأشراف الذين يملكون الخدم – ولكن لا بد من انتظار التفاصيل ، وما يهمنا هو أنْ نبدأ بفهم شخصيتها والغور في قاع محيطها ؛ بيد أنه ليس ثمة وقت كاف لأوضح أنّ ثمة إحساسا قد غمرني ، أنّ تلك الشخصية كانت إلى حد ما ، تراجيدية ، وبطولية ، وقذفت بالطيش والفنتازيا جانبا قبل أنْ يتوقف القطار . راقبتها وهي تختفي، حاملة حقيبتها ، دخلت في وهج المحطة الهائل ، بدت صغيرة ومتضائلة ، وبطولية ، ولم أرها من بعد ، ولم أعرف ماذا حل بها ..
من ريجموند إلى واترلو
القصة تنتهي دون أي موضوع يشير اليها ، بيد أنني لم أخبركم ، أنّ هذه الحكاية توضح أما براعتي أو سعادتي في السفر من ريجموند إلى واترلو . أريدكم أنّ تلاحظوا مايلي : هنا شخصية اسمها السيدة براون فرضت نفسها على شخص آخر ، كي توحي للكاتب اوتوماتيكيا في الأغلب أنْ يكتب رواية عنها . واعتقد أنّ جميع الروائيين ، لنقل هكذا ، يتعاملون مع الشخصية ليعبروا عنا – ولا يعظون تعاليم أو يؤدون أغان ، أو يحتفلون بأمجاد الامبراطورية البريطانية . هذا النوع من الرواية هو ثقيل جدا ، ومطنب ، ولا دراماتيكي ؛ رغم إنّه ثر ، ومرن ، وحيوي ، للتعبير عن الشخصية ، وكما قلت ، إنكم ستبقون تتأملون مليا ، إنّ ذلك التأويل الواسع جدا ، يمكن أنْ تحتال عليه الكلمات ، فعلى سبيل المثال ، إنّ شخصية السيدة براون ستدهشكم بطريقة مختلفة جدا طبقا للعمر ، والبلد الذي ولدتم فيه ، ومن السهولة بمكان ، أنْ تكتب ثلاثة روايات متمايزة للحادثة التي وقعت في القطار ، رواية انجليزية ، ورواية فرنسية ، واخرى روسية . فالكاتب الانجليزي سيحول السيدة براون إلى شخصية character، وسيُظهِر غرائبها ، وأخلاقياتها ، وازرّتها ، وتجاعيدها ، أوسمتها وثآليلها ، وستسود شخصيتها في الرواية . أما الكاتب الفرنسي ، سيزيل كل هذه الصفات ، وسيضحي بفردية السيدة براون ليعطي فكرة عامة عن الطبيعة الإنسانية ، ليجعل من ذلك أكثر تجريدا وتناسبا . وسينْفذ الكاتب الروسي إلى السيدة براون من خلال جلدها ، وسيُظهر لنا روحها – الروح فقط ، متجولا في واترلو ليطرح تساؤلا كبيرا عن الحياة سيبقى يرن ويرن في آذاننا حتى نهاية الرواية ، فضلا عن العمر ، ثمة مزاجية الكاتب التي يجب أنْ تؤخذ بنظر الاعتبار . فأنت ترى في الشخصية شيئا وأنا أرى شيئا آخر . أنت تقول تعني كذا ، وأنا اقول تعني كذا ، وحين يحين مخاض الكتابة ، فكل واحد منا يختار ما يناسبه وانسجاما مع مبادئه . وهكذا ، بالإمكان أنْ تتعامل مع السيدة براون في تنوع مطلق من الأساليب ؛ طبقا للعمر والبلد ومزاج المؤلف . والآن يجب أنْ نستحضر قول السيد ارنولد بينيت ، حيث يقول : ” اذا كانت الشخصية واقعية فقط ، فإنّ الرواية لها نصيب في البقاء على قيد الحياة ؛ وبعكسه ، فموتها حتمي . ولكن دعونا نطرح هذا السؤال على أنفسنا ، ما هي الواقعية ؟ ومن الذي يحكم عليها أنها واقعية ؟ فالشخصية يمكن أنْ تكون واقعية من وجهة نظر السيد بينيت ، ولا واقعية من وجهة نظري تماما . فعلى سبيل المثال ، يقول ، D. Watson، في شرلوك هولمز ، هو شخصية واقعية بالنسبة له . أما انا فأرى د. واتسون هو عبارة عن كيس محشو بالقش ، أبكم ومثير للسخرية . وهكذا ، مع بقية الشخصيات الأخر ، وبقية الروايات واحدة بعد الأخرى ، ولا شيء يثير جدلا أكثر مثل الواقعية في الشخصية المعاصرة ، فاذا وسّعنا المشهد أكثر ، فاعتقد أنّ السيد بينيت كان صائبا تماما . ومن هذا المنطلق ، المشهد ، بإمكاننا أنْ نفكر بروايات قد تبدو لنا عظيمة ، مثل الحرب والسلام ، وتدسترام وشاندي ، وعمدة كاستر بريدج الخ .. وإنْ تأملتم هذه الروايات فإنكم لا تفكرون فجأة في شخصية محددة ، قد تبدو لكم واقعية ، ” ولا أعني بذلك الحياة الواقعية ” . ذلك أنها ، أي الشخصية تمتلك القوة لتجعلك تفكر بقوة ليس فيها حسب ؛ بل تفكر في كل أنواع الأشياء من خلال عينيها – في الدين ، والحب ، والسلام ،والحرب ، والحياة الأسرية ، وألعاب الكرة في مقاطعات البلدان ، وشروق الشمس ، وبزوغ القمر، وخلود الروح . وقلما نجد موضوعا عن التجربة الإنسانية لم تتناوله رواية ( الحرب والسلام ) . وإنّ جميع الروايات هذه وجميع أولئك الروائيين العظام طلبوا منا أنْ نرى ما كانوا يظهرونه من خلال الشخصية ؛ وإلاّ لما كانوا روائيين ؛ بل مجرد شعراء ومؤرخين أو كتَاب كراسات .
ولكن دعونا نتمحص . ما يريده السيد بينيت هو الاستمرار في حديثه . فقد ذكر أنه لا يوجد روائي عظيم بين الكتَاب الجورجيين ، لماذا ؟ لأنهم لا يستطيعون خلق شخصيات واقعية ، وحقيقية ، ومقنعة . وهنا ، لا أتفق معه . ثمة أسباب ومبررات وإمكانات تجعلني أفكر في أنْ أضع طيفا على القضية ؛ وتبدو لي هكذا على الأقل ، بيد أنني ادرك جيدا ، أنّ هذه القضية التي من المحتمل أنْ اكون فيها متحيّزة ، ومتفائلة ، أو قصيرة النظر . وسأضع وجهة نظري هذه أمامكم على أمل أنكم ترون فيها النزاهة والشرعية والعقل الحصيف .. وهنا ، نتساءل ، هل من الصعوبة بمكان بالنسبة للروائي في هذا العصر ، أنْ يخلق شخصية تبدو واقعية ليس بالنسبة لبينيت حسب ، ولكن على نطاق العالم أجمع ؟ بيد أنّ ثمة سؤالا لا بد أنْ يطرح نفسه ، لماذا أخفق الناشرون تزويدنا برائعة أدبية منذ العام 1910 ؟ للإجابة على ذلك ، هناك سبب واحد ، هو أنّ الروائيين والروائيات الذين استلهموا كتابة الرواية منذ العام 1910، أو قريبا من هذا التاريخ ، كانوا يواجهون مشكلة عويصة – ذلك لأنه ليس ثمة روائي انجليزي حي استطاع الإفادة من تجربته الروائية باستثناء السيد كونراد Mr. Conrad، الذي كان يشكل في الرواية أحد قطبي أرضيْن جامدين ، بالرغم من إنه كان رائعا ، لكنه لا يبدي أية مساعدة .أما السيد هارديHardy ، فلم يكتب أية رواية منذ العام 1895، وكان أغلب الروائيين البارزين والذين حققوا نجاحا يذكر منذ العام 1910 ، هم ، كما افترض ويلز، والسيد بينيت ، والسيد غالزوورثي ، والآن ، يبدو لي الموضوع ، كما لو أنك تذهب إلى هؤلاء الرجال وتطلب منهم أن يعلّمونك كيف تكتب رواية – وكيف تبدع شخصيات واقعية – وعلى وجه الدقة ، كما لو أنك تذهب إلى إسكافي وتطلب منه أن يعلمك كيف تصنع ساعة ؟ وهنا ، لا اريد أن أعطيكم انطباعا انني لا أعجب او استمتع برواياتهم – فهم يبدون لي ذا فائدة عظيمة ، فضلا عن أنهم سيشكلون ضرورة كبيرة تعلقا بي ، وهناك فصول من السنة تكون أكثر اهمية في أن نصنع فيها أحذية بدلا من صنع ساعات . دعونا نسقط هذه الاستعارة ، ذلك أنه بعد النشاط الإبداعي في العصر الفكتوري ، أعتقد من الضروري جدا ، أنّ على الإنسان أنْ يؤلف أو يعيد تأليف الكتب التي ألفها ويلز وبينيت وغالزوورثي ، ليس في الأدب حسب ؛ وإنما في الكتب التي تتناول مختلف مسارات الحياة ، وأتساءل مرة أخرى ، ماهذه الكتب الغريبة ؟! إن كنا صائبين أنْ نسميها كتبا ؛ إذ ثمة شعور غريب ينتابني أنّ هذه الكتب لا تسد حاجة القارئ أو جوعه ، وهي غير مقنعة . ولكنْ قد تم كل شيء . وطبعت الكتب ولا يمكن الا أنْ نضعها على الرف ، ولا نحتاج إلى قراءتها مرة ثانية . بيد أنّ الأمر مع الروائيين مختلف ، فرواية ترسترام وشندي .. ورواية Pride and Prejudice ، هما روايتان تامتان ، ويتمتعان باكتفاء ذاتي ، ويخلقان لدى القارئ شعورا غامرا بالعودة إلى قراءتهما ثانية بهدف استيعابهما ، وربما الاختلاف هو ، أنّ ستيرن Sterne ، وجين اوستن Jane Austen، كانا كلاهما يستمتعان في الأشياء وفي الشخصية ذاتها ، وفي مجمل الكتاب ذاته . وهكذا ، فإنّ كل شيء كان في داخل الكتاب ولا شيء خارجه ، بيد أنّ الادوارديين كانوا على العكس من ذلك ، لا يستمتعون في الشخصية أو في الكتاب ، أنهم يستمتعون بشيء خارج الكتاب . ولهذا ، فإنّ كتبهم أو رواياتهم تعد كتبا ناقصة ، وفي هذه الحالة ، يتطلب من القارئ أن يبذل جهدا عمليا وحيويا لإنجاز هذه الروايات .
وربما ، نقدّم صورة أوضح ، إنْ اخذنا حريتنا في تخيّل حفلة صغيرة في عربة قطار السيدة العجوز براون – فالسادة ويلز وغالزوورثي وبينيت هم مسافرون إلى واترلو مع تلك العجوز ، وقد سبق لي أنْ ذكرت أنّ هذه السيدة كانت رثة الثياب إلى حد ما ، وضئيلة الجسم ، وتمتلك نظرات متلهفة ومنهكة . وقد انتابني شك ، حينما أطلقتم عليها صفة امرأة متعلمة ، وربما سأكون غير منصفة عندما لا أعير أهمية للتعليم المدرسي ، ولكن لا أستطيع إلا أن أكون غير ذلك ..
حسنا ، سيعرض السيد ويلز من خلال لوح زجاج نافذة القطار رؤية لعالم أفضل وأروع وأسعد وأيسر وأكثر مخاطرة وعملقة . من خلال عربات قديمة في إحداها امرأة عجوز محافظة ، في وقت تجلب البوارج العملاقة الفواكه الموسمية من كامبرويل في الساعة الثامنة صباح كل يوم ، وحيث مشاتل الأزهار العامة منتشرة ، والنافورات والمكتبات في كل زاوية ، وبيوت فيها غرف استقبال وغرف طعام ، وتقام حفلات الزواج ، والمواطن الانجليزي كريم ونزيه وشهم ومعتدّ بنفسه ؛ وإلى حد ما شبيه بالسيد ويلز ، ولكن لا أحد يشبه السيدة براون ، وليس ثمة سيدات بهذا الاسم في عالم اليوتوبيا . وفي الحقيقة ، لا اعتقد أن السيد ويلز يريد أن يجعل من عاطفته ما ينبغي أن تكون عليه السيدة براون ، ولكن من جهة أخرى ، ماذا يرى السيد السيد غالزوورثي ؟ هل نستطيع ان نشك أنّ جدران مصنع دولتون تستقبل تصوره ؟ ففي هذا المصنع ثمة نساء يصنعن خمسا وعشرين دزينة من الخزف في كل يوم ، وثمة أمهات في مايل ايند وود يعتمدن في رزقهن على ربع ما تكسبه تلك النساء . ولكن ، هناك في المقابل أصحاب عمل في سوري يدخلون السيجار الفاخر على أنغام صوت العندليب ، ويمورون سخطا ورؤوسهم محشوة بالمعلومات التافهة ، فضلا عن عدم رضاهم عن الحضارة .
ويرى السيد غالزوورثي في السيدة براون مجرد إناء خزف مكسور مقذوف على عجلة عربة في إحدى الزوايا المهملة ، بيد أنّ السيد بينيت هو الكاتب الوحيد في العهد الإدواردي الذي يحافظ على نظرته في عربة القطار . وفي الواقع ، أنه سيراقب كل التفاصيل باعتناء دقيق ، بما فيها الإعلانات وصور سواناج وبورتسموث وانتفاخ تنجيد جلود المقاعد وتقطع أزرّتها . وسيلاحظ كيف أنّ السيدة براون تضع دبوس الزينة الذي اشترته بثمن بخس من وتوورث وقد عدلت من قفازيها . ويبدو أن إبهام قفاز اليد اليسرى قد وضع خطأ في إبهام قفاز اليد اليمنى ، ولن يفوته على مسافة سير القطار دون التوقف من وندسور إلى ريجموند ، هو ملائم لمواطني الطبقة الوسطى الذين بامكانهم ارتياد المسارح دون أن ترهقهم النفقات . بيد أنهم لم يصلوا المرتبة الاجتماعية التي تؤهلهم شراء سيارة . لكنْ بامكانهم الذهاب لحضور بعض المناسبات بوساطة استئجار السيارات وهكذا ، سيمشي السيد غالزوورثي برصانة اتجاه السيدة براون ليقدم لنا ؛ أو ليقول ، أنّ السيدة براون قد تركت أرضا هي ملكا صرفا ، وأخرى إقطاعية ملزمة ،وثروة في داتشيت مرهونة باسم السيد بنغيه المحامي .
ولكن ، لماذا عليَ أن استأنف التلفيق ضد السيد بينيت ؟ هل أنه لم يكتب روايات بنفسه ؟ إنّ السيد بينيت لم ينظر بكل قوة ملاحظاته المدهشة وعاطفته وإنسانيته العظيمة إلى السيدة براون في زاويتها ولو مرة واحدة – فهي تجلس هناك في زاوية العربة التي كانت مسافرة ليس من ريجموند إلى واترلو ، ولكن من عصر الأدب الانجليزي إلى عصر آخر ، لهذا ، فإن السيدة براون تتغير فقط على السطح ، وليس ثمة أحد من الكتاب الادوارديين قد نظر اليها كثيرا . فهم نظروا نظرة قوية ومتفحصة وعاطفية من خلل النافذة إلى المصانع واليوتبيات ، وحتى إلى زينة تنجيد اثاث العربة ، ولكن ليس إلى السيدة براون ، ولا إلى الحياة ، او إلى الطبيعة الإنسانية . وعلى هذا فهم قد طوروا تقنية كتابة الرواية التي تلائم أغراضهم ، ولكن تلك الأساليب (الأدوات ) لم تكن أساليبنا ، وتلك لم تكن أعمالنا . وإنّ تلك التقاليد والأساليب بالنسبة لنا هي بقايا آثار عفا عليها الزمن حسب .
وهنا ، ربما تشكون من غموض لغتي ، وربما تتساءلون ما هي التقاليد ؟ وما هي الأساليب ؟ وماذا تعنين بقولك إنّ تقاليد السيد بينيت والسيد ويلز والسيد غالزوورثي هي تقاليد خاطئة من وجهة نظر الجورجيين ؟ ويبدو أنّ السؤال غاية في الصعوبة ، ذلك أنّ التقاليد في الكتابة لا تختلف كثيرا عن التقاليد في الأخلاق . فكلاهما ضروريان في الحياة والأدب . ولا بد لنا من بعض الوسائل لتجسير الثغرة بين الكاتب وقارئه المجهول . فالكاتب على وفق هذه الأساليب يجب أن يكون في تماس مع قارئه من خلال شيء ما أمامه يعرفه ويحفزّ مخياله ويخلق لديه الرغبة في التعاون في أعمال أكثر صعوبة وحميمية . ومن الأهمية بمكان أنّ هذا اللقاء العام بينهما يجب أنْ يصل بسهولة وبطريقة عفوية ، كما لو أن الكاتب يسير في الظلام ويستخدم في الوقت ذاته عينا واحدة في تلمّس الأشياء ، وهنا ، يستخدم السيد بينيت هذه الأرضية المشتركة بين المؤلف والمتلقي . والآن لو تسمحون لي ، أن أمزق حكايتي هذه إلى مزق صغيرة ، وسترون كيف أنني اشعر بحماس لحاجتي إلى التقليد ، وكم يبدو أن الموضوع جاد حينما تكون أدوات أحد الأجيال عديمة الفائدة للجيل التالي . فالحادثة حفرت في ذاكرتي انطباعا حادا ، ولكن كيف أنقله لكم ؟ كل ما أستطيع فعله هو أن اكتب بدقة قدر الاستطاعة لأصف بالتفصيل ما قد ارتدت السيدة براون من زي ، ولأقول إنّ جميع تلك المشاهد انثالت في ذهني لمتابعة تخبط الروائيين ، ولأصف هذه الحيوية ، وهذا الانطباع الغامر الشبيه بالتيار المتدفق ، او رائحة الحريق ، ولا اكتمكم اذا قلت إنني أُغريت بقوة لفبركة رواية من ثلاثة أجزاء عن ابن السيدة العجوز ، ومغامراته عبر المحيط الأطلسي ، وابنتها وكيف حافظت على محل صنع قبعات النساء في ويستمنستر ، والحياة الماضية لسمث ذاته ، ومنزله في شيفيلد ، رغم إنّ هذه القصص تبدو أكثر جفافا ، وغير مترابطة ، فضلا على احتوائها قضايا احتيال في العالم ؟
ولكنني ، إذا انجزت ذلك فلا بد لي من الهروب من الجهد المروع من قول ما أعنيه ، ولكي أدرك ما عنيته ، فعليّ العودة إلى الخلف ، ثم الخلف ، ثم الخلف . ولأجرب هذه الجملة او تلك ، وهذه الفقرة أو تلك ، والرجوع إلى مصدر كل كلمة من خلال رؤيتي ، واجعل لها مرادفا دقيقا قدر الإمكان . ومعرفة ذلك بطريقة أو أخرى، فإنه من الضروي إيجاد أرضية مشتركة بيننا ، وتقليد أدبي لا يبدو لكم غريبا جدا او غير واقعي ، أو تصديقه بعيد الاحتمال ، واعترف أنني تجنبت هذا التعهد الشاق . وجعلت سيدتي براون تنزلق من بين أصابعي ولم أخبركم عنها أي شيء . بيد أنّ هذا كان خطأ الادوارديين الكبير إلى حد ما ، وسألتهم بوصفهم الأدباء الكبار والأفضل – كيف ابدأ في وصف هذه الشخصية ؟ قالوا : ابدئي بالقول ، إنّ والدها مثلا ، يمتلك محلا في هيروغريت للرقابة على استيفاء الايجارات ، ورواتب عمال المحال في عام 1878 ، وأنك اكتشفت سبب وفاة أمها ، وصفي مرض السرطان الذي توفيت بسببه ، وصفي القماش القطني . واكتشفي .. ” بيد أنني صرخت : كفى ! كفى ! ” وقد شعرت بالندم أن اقول إنني قد رميت تلك الأداة القبيحة ، والفظة ، والمنفّرة ، من خارج النافذة ، لأنني ادركت إنْ أنا وضعت السرطان والقماش القطني ، فإن سيدتي براون تلك الرؤية التي اتشبث بها لا أعرف كيف أصورها لكم ؟ وسأكون على هذا الأساس متبلدة الاحساس ، ومتبددة ، ومتلاشية للابد .
هذا ما اعنيه بالقول ، إن ادوات الادوارديين غير صالحة لنا في استخدامها ، لانهم ركزوا بقوة على فبركة الاشياء واعطونا دارا على امل ان تكون لدينا القدرة على تمييز الناس الذين يسكنون فيها ، ولنمنحهم استحقاقهم ، كما جعلوا من تلك الدار افضل سكن يمكن العيش فيه . فاذا كنتم تعتقدون أن تلك الروايات هي تعبير عن مشاعر الناس بالدرجة الاساس ، وثانيا ، عن المساكن التي تسكنون ، فهذه بداية خاطئة – وعلى هذا ، كما ترون ، أن الكاتب الجورجي وجب عليه أن يتخلى عن ذلك النهج في الكتابة الذي كان يستخدم في ذلك العصر . قد تُرك هناك وحيدا في مواجهة السيدة براون دون اي منهج لايصاله إلى المتلقي ، بيد أن هذا ليس دقيقا ، فالكاتب ليس وحيدا ، فثمة اناس معه ، فإذا لم يكونوا على المقعد في عربة القطار اوغيرها ، ففي الاقل هم في الشقة المجاورة له . اما الجمهور فهو رفيق سفر غريب ؛ فهو في انجلترا مخلوق لديه رغبة في التعلم ومثير جدا . فإن قلت له بلغة مقنعة تماما : ” إنّ جميع النساء لهن ذيول وإنّ جميع الرجال لهم سنامات .” سيفكر فيما قلته ، وربما لا نحتاج أن نقول له ” هذا هراء ! القرود هي التي لها ذيول والجمال هي التي لها سنامات .. ولكن النساء والرجال يملكون عقولا وعندهم قلوب . وهم يفكرون ويشعرون .” وهذا يبدو نكتة سمجة غير مناسبة للوصول إلى اقناع .
ولنعد للموضوع ، هنا جمهور انجليزي جالس إلى جانب الكاتب ، ويقول بطريقة جمعية واسعة إنّ العجائز يمتلكن منازل ، ولهن آباء ، وعندهن موارد مالية ، ويمتلكن خدما ، ويواجهن مأزق ، وبهذه الطريقة نعرف أنهن عجائز . فقد علّمنا السادة ، ويلز وبينيت وغالزوورثي أن نميز بينهن بهذه الطريقة ، ولكن كيف نتعامل مع سيدتك براون ، كيف نصدقك ؟ فإنْ كانت الفيلا التي تمتلكها تسمى البرت ، او بالمورين ، وكم دفعت ثمنا لقفازيها ؟ او كانت أمها توفيت بمرض السرطان ، او بذات الرئة ، وكيف تعيش ؟ كلا ، أن الامر تلفيق ومن بنات خيالك حسب .
فالنسوة العجائز لكي يكونن عجائز ، يجب أن يقترنّ بما يملكن من فلل ،او عقار فلل ، وليس هنا ذلك الخيال حسب .
فالروائي الجورجي ، على هذا الاساس ، هو في مأزق صعب ، ذلك أن السيدة براون كانت تحتج أنها كانت متميزة ، واستطاعت أن تغري الروائي لانقاذها بطريقة ساخرة ، رغم اسلوب وميض سحرها الزائل . من جانب آخر ، كان هناك الادوارديون الذين ينشرون رواياتهم بين البيوت الفارهة ، وبيوت اللصوصية في آن واحد ، فضلا عن الجمهور الانجليزي الذي يصر على أن يرى المأزق اولا في وقت كان القطار مندفعا باتجاه المحطة الاخيرة ، حيث يجب على الجميع ان يهبطوا منه .
وهكذا ، فانا اعتقد أن المأزق الذي وجد الروائيون الجورجيون الشباب انفسهم في خضمه حوالي العام 1910 ،امثال ، فورستر ولورنس بشكل خاص – وقد دمروا اعمالهم ، لانهم بدلا عن التخلي عن تلك الاساليب التي حاولوا استخدامها ، وحاولوا ان يوفقوا ، وحاولوا أيضا ان يربطوا احساسهم المباشر بما فيه من غرابة ومغزى للشخصية – بمعرفته لFactory Acts ،ومعرفة بينيت للمدن الخمس Five Towns ، نعم أنهم جربوا السيطرة ، ولا بد لهم من القيام بعمل ما ، ومهما كلف الثمن في الحياة كلاّ او جزءً لتدمير الثروة النفيسة ، ويجب علينا ان ننقذ السيدة براون ، وأن نعبّر عنها وتنطلق في علاقاتها السامية مع العالم قبل أن يتوقف القطار ، وتختفي للابد . وهكذا ، بدأ التحطيم والتهشيم ، وهكذا ، أيضا نسمع ما يدور حولنا في القصائد والروايات والسير الذاتية ، وحتى مقالات الصحف وافتتاحياتها نسمع صوت التحطيم والسقوط والتهشيم والخراب .. إنه الصوت في العصر الجورجي – إنه الصوت القادم من الماضي .. فكروا في شكسبير وملتون وكيتس وحتى في جين اوستن وثاكيري وديكنز في اللغة والسمواللذين يحومان طليقان حينما يشاهدان العقاب نفسه حبيسا اصلع وناعبا ..
في ضوء هذه الحقائق – مع تلك الاصوات التي ترن في اذني ، وتلك المخيالات في رأسي – لا اريد ان انكر أن السيد بينيت لديه سبب وجيه عندما يشكو من أن كتّابنا الجورجيين غير قادرين على ان يجعلونا نؤمن أن شخصياتنا هي شخصيات واقعية ، وانا مرغمة أن اقول لهم إنهم لم ينتجوا ثلاث روائع ادبية خالدة في العهد الفكتوري في كل خريف ، وبدل من ان اكون متشائمة ، فإنني اشعر بالتفاؤل ، وفي هذه الحالة ، أنه من المحتم كما اعتقد سواء في العصر الجليدي ام في عهد الشباب الغر ، سيتوقف النقد الادبي عن كونه وسائل اتصال بين النص والمتلقي بل العكس من ذلك ، سيتحول إلى عائق او معرقل بينهما . وفي عصرنا سنعاني من عدم وجود نظام اخلاقي يقبله القاريء او الكاتب على حد سواء ، كإستهلال لاتصال اكثر اثارة في العلاقة بينهما ، والتقليد الادبي للعصور هو مسألة تلطف ليس الاّ – وفي هذه الحالة ، من الطبيعي جدا ، ان يؤدي الوهن إلى حالة من الغضب ، والقوة إلى تخريب المؤسسات والقواعد في المجتمع الادبي ، وتبدو علامات ذلك ظاهرة في كل مكان ، فقواعد اللغة منتهكة ، والإعراب متحلل ، تماما مثل صبي يقضي عطلة نهاية الاسبوع مع عمته فيروح يتدحرج بحرية في حقل زهور الجيرانيوم ، نتيجة يأس مطلق اصابه . أما الكتّاب الكبار فلا يفعلون ذلك . وبالطبع يطلقون عنانهم في مثل لهو الصبي في حقل الزهور ،لأن اخلاصهم شديد ، وشجاعتهم فائقة ، لكنهم لا يعرفون متى يستخدمون ايديهم ؟ وهكذا ، اذا قرأت جويس واليوت فإنك ستصاب بالصدمة لبذاءة الاول وغموض الثاني ، فبذاءة جويس في عوليس تبدو لي وعي وحسابات الرجل اليائس الذي يشعر كي يتنفس عليه ان يهشم زجاج النوافذ ، وفي اللحظة التي تتهشم فيها النوافذ ينتابه شعور بالعظمة ، ولكن ، اي تدمير للطاقة هذا ؟! وبعد ذلك كم تبدو غبية تلك البذاءة ، أما غموض اليوت فاعتقد أنه كتب ابياتا فاتنة في الشعر الحديث ، ولكن ، كم كان متعصبا للاستخدامات القديمة واخلاقيات ذلك المجتمع ، الذي يحترم الضعيف ويقدر البليد !
وهكذا ، فقد جربت امتدادا مضجرا ، واخشى أن اجيب عن بعض الاسئلة التي شرعت بطرحها ، وقدمت تعليلا لبعض الصعوبات التي هي من وجهة نظري تكتنف كل الصيغ الادبية للكاتب الجورجي . وقد بحثت عن مسوغ اقدّمه له ، فهل انتهي إلى مغامرة ، لاذكر كم كانت مدهشة ورغم ذلك ، فإنكم ستسمحون لهؤلاء الكتّاب كي يقدمون نسخا من رواياتهم ، وصورة للسيدة براون التي ليس لها شبه لكل ما يظهر من اندهاش ، وتبدون في تواضعكم أن اولئك الكتاب يتباينون عنكم دما ولحما ، ذلك أنهم يعرفون السيدة براون افضل منكم ، وهم معصومون عن الاخطاء . هذا هو الفاصل بين المتلقي والمؤلف ، وهذا هو التواضع من جانبكم ، وهذه هي اجواء الاحتراف والتمايز، وهذا هو فساد الكتب وعجزها التي من المفروض بها أن تكون عافية فصل الربيع ، فصل التحالف والتقارب بيننا .
ودوركم هو أن تصرّوا على أنّ اولئك الكتّاب سيهبطون إلى الدرك الاسفل من قاعدة التمثال ، وتصفون بجمالية إنْ امكن ، وبواقعية السيدة براون على كل حال ، وتصرّون على أنها سيدة عجوز في قدرتها اللامحدودة وامتلاكها تنوعا متعددا ، ومقدرة على الظهور في اي مكان . وترتدي اي زي تشاء ، وتقول ما تشاء ، وتفعل اشياء لا تعلم بها الاّ السماء .. بيد أن هذه الاشياء التي تقولها والافعال التي تنجزها ، وإنّ عينيها وانفها وكلامها وصمتها كله سحر غامر ، ولأنها بالطبع ، الروح الذي نستنشق من خلاله الحياة ، بل هي الحياة ذاتها .
ولكن ، لا تتوقعوا في الوقت الحاضر ، ظهور صورتها كاملة مُقنِعة وقادرة على تحمل التشنج والغموض والاخفاق . ومساعدتكم هو أنْ تستحضروا سببا وجيها . ولهذا ، سأقوم بتنبؤ نهائي واندفاع مدهش – ذلك ، أننا نرتعش على حافة احد العصور العظيمة للادب الانجليزي ، ولكننا ، فقط سنصل إلى ما نريد اذا صممنا الا نهجر السيدة براون أبدا ، أبدا ..


الهوامش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ هو ارنولد بينيت Arnold Bennet ، ناقد وروائي انجليزي والسيدة براون شخصية روائية مفترضة بدأت الكاتبة بتحليلها في هذه المحاضرة ( المترجم )
2 ــ محاضرة القتها فرجينيا وولف في نادي هيرتكس في كمبردج ( المترجم )
3 ــ نسبة إلى عهد ادوارد السابع ملك بريطانيا وآيرلندة 1841ــ 1910 ( المترجم )
4 ــ نسبة إلى عهد جورج الخامس ملك بريطانيا العظمى 1865ــ 1936( المترجم )
5 ــ وهي السنة التي تولى فيها جورج الخامس عرش بريطانيا العظمى وحدثت في عهده الحربين العظميين الاولى والثانية ( المترجم ) 
6 ــ هم اصحاب الحقول الصغيرة المقسمة بين المزارعين عن طريق الشراء والاستثمار خاصة في اسكوتلنده ( المترجم )


شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *