“فئران أمي حصة” .. في مصيدة الرقابة



ربى زياد الشوشي*


خاص ( ثقافات )
الفئران
يغدو الهاجس الأكبر لكاتب فاز بجائزة كالبوكر أن يثبت لنفسه قبل قرائه، أن عمله لم يبلغ الذروة بعد وأنه لا زال قادرا على أن يجعل الدهشة تدب في رتابة العمل الأدبي الزخم وعلى أن ينتزع من القارئ تعجبا لا إعجاباً فقط.
هذا ما نجح الكاتب الكويتي الشاب سعود السنعوسي من تحقيقه في رواية “فئران أمي حصة”. 
الكاتب في روايته السابقة «ساق البامبو»، قام باختيار البامبو لانعدام جذوره أو ارتباطه بأي أرض كإشارة لبطل الرواية الشاب الفلبيني من أب كويتي ولفظ المجتمع له، يأتي ليوجد نقيضه في روايته الجديدة «فئران أمي حصة»؛ فنرى الشخصيات وقد ضربت جذورها عميقاً في أرض الكويت، تلك الجذور التي أعطت لكل شخصية عمقاَ وبعداً ،فأي حدث برز في ماضي إحدى الشخصيات أو في رواية إرث النار التي ذكرها الكاتب تنبت في صفاتها وتصرفاتها في الحاضر أو ما عنونه الكاتب يحدث الآن مع الوقت وكأننا في حلقة من مسلسل الآكشن الأجنبي 24 والذي تدور أحداثه في يوم واحد فقط كما هو الحال في الرواية.
الفصل -1 يفتتح الرواية، إذ هو السد الذي قرضته الفئران منتشرة في ارجائها، أربعة فئران بأربعة فصول يرافقها في كل فصل تهديد ووعيد «الفئران آتية…احموا الناس من الطاعون» الجملة المأخوذة على لسان فؤادة من المسلسل الخليجي «على الدنيا السلام»، هذا الفصل الذي يبدأ بتفجيرات المقاهي الشعبية في الكويت عام 1985 والتي راح ضحيتها الحج أبو صالح ( زوج بطلة الرواية حصة) والتي كانت الشرارة الأولى في فتيل خلاف ونزاع فكري وطائفي ومذهبي الذي ما لبث أن تأجج واستعر في هشيم العنصرية والتعصب. هذا الصراع الذي كنا نرقبه يتسع في هوة العلاقة الظاهرية بين الجاريين الشيعي والسني أبو فهد وابو صادق وفي التغيرات الداخلية لجدار كل منهما في صدر المنزل لصدام والخميني وغيرها من صور وشعارات و تأتي من مواقف متزعزعة وكره يدب في أوصال الاختلافات بينهما يشل أي فرصة للمحبة والاخوة في جسد الوطن الواحد.
ومن ثم تنقسم الرواية إلى جزئين وكأنها روايتين في قلب واحدة؛ القسم الأول من الرواية والذي يوثق فترة الاحتلال العراقي للكويت ومعاناة الشعب الكويتي وقتها وقائع التعذيب والسجون وحرق آبار النفط على مجموعة من الأسر الكويتية ممثلة بأبطالها (فهد وصادق وأيوب والراوي وضاوي) المأساة التي تتلخص باعتقال وأسر والد «ضاوي» مأساة الفقد والتي جردت لا «ضاوي» وحده بل الشعب بأكمله من قدرته على النطق والتعبير عن حجم الفاجعة، وكأن الكاتب في اختيار اسم الشخصية ما قصد إلا لغة «الضاد» وفجيعة العرب بالعرب، وأخيرا الأمل بالنجاة والعودة إلى ما كانت عليه الأمور سابقاً، وعودة الوطن لملامحه من أسماء المباني والشوارع وغيرها وهذا ما أسماه برواية إرث النار بفصولها (شرر، لظى، جمر ورماد) والتي انفجرت في الشق الثاني حربا أهلية طائفية، الحرب التي نهشت نسيج المجتمع الكويتي بشكل خاص والعربي بشكل عام، متخيلة ما لبث أن أطلق عليها الكاتب “نبوءة” عند انفجار مسجد (الأمام صادق) في حي الصواير يونيو 2015.
الجزء المخصص للحرب الأهلية يبدأ بوصف مشهد انفجار يتوسطه البطل أو الراوي في بعض الفصول، مشهد كلما توغل الراوي فيه أكثر، تعمق في السواد أكثر في اليأس وفي نتانة الموت الذي يحيط به من كل صوب، مشهد المدينة التي خيم عليها شبح النهاية ليذكرك بترتيب مشابه لهذا الدمار في رواية بلاد الأشياء الأخيرة لبول أوستر، حيت تتربص بك الجثث ونهاشوها.
الأصدقاء الخمسة الذين حاولوا مقاومة الصراع الطائفي والعنصري المستشري بتشكيل جماعة أولاد فؤادة، في بثهم لبرامج إذاعية ومقتطفات من قصائد وطنية ودعوة إلى مسيرات وحملات مقاومة جعلت منهم القشة التي يتعلق بها غريق الدماء في شوارع الوطن.
الا أنهم لم يسلمو من هذه اللظى، إذ وفي غمرة وعكة الحنين أصاب الأصدقاء نزغ من طاعون الطائفية وفي غمرة الغضب ورغم أواصر الصداقة والأخوة الممتدة منذ الطفولة قتل أحدهما الآخر ، ليحل الكاتب بأسلوب ميلودرامي لغز الانفجار الذي توسطه الراوي (كتكوت) في الفصل الأول وبحثه خلال الفصول المتبقية عنهم بتراتب وتسلسل جميل مشابه للأغنية الشعبية التي ما انفكت تتردد في رأسه ( والصندوق ماله مفتاح والمفتاح عند الحداد…..).
الرواية التي لا تنفك بتذكيري برواية 1984 لجورج أرويل رغم تشبيه النقاد للرواية بالطاعون لالبير كامو، الأسلوب السردي والوصف للديستوبيا التي يعاصرها كلا الراويين، الموت والعجز الذي يتربص بكل فعل مقاومة سواء كتابة أو حب أو ذكريات باتت تعيث بهم فسادا كلما تسللت من ثقوب الزمن. الاختلاف الشاسع هو أن الأولى كانت في ظل الأنظمة وسيطرة الدولة والأخرى في انعدامها.
المصيدة
بعد فترة قصيرة من إصدار الرواية في الكويت في شهر فبراير 2015، الرواية تم منعها من قبل لجنة رقابة المطبوعات في وزارة الإعلام وجردت كافة الرفوف في الأسواق من النسخ، بعد خمسة أشهر دون قرار فعلي لمنعها. ويرجح السبب الرئيس للمنع هو تناولها لواقع الصراع الطائفي (السني والشيعي) في الكويت.
وقد صرح الكاتب سعود السنعوسي في مقابلته مع صحيفة الحياة الجديدة عن اعتقاده في سبب المنع فكان رده كما يلي: « كيف للكويت التي فتحت ذراعيها لكل أولئك المبدعين الكبار أن تضيِّق اليوم على أبنائها؟ الوجع ليس ذاتياً هنا حول كتاب يُمنع أو يُجاز، الوجع هو أنك تشاهد بلادك مختطفة لا تشبه بلادا تعرفها، أنا لا ألقي اللوم كاملاً على الرقيب فهو مغلوب على أمرِه، مهزوز الثقة وأبعد ما يكون عن القراءة والثقافة. الرقيب لا يمنع من أجل المنع، فهو يدرك تماماً أن المنع صوري وإن حقَّق هدفه في سحب النسخ من المكتبات. الرقيب لا يملك شجاعة اتخاذ قرار الإجازة، لأنه يخشى المجتمع، والمجتمع هنا هو الرقيب الحقيقي حين يسائل الفرد صاحب المكتبة، أو حين يسائل عضو البرلمان وزير الإعلام: «كيف تجيزون مثل هذه الكتب؟»
وكما يقول السنعوسي في بداية كل قصة على لسان حصة «الزور ابن الزرزور الذي ما عمره كذب ولا حلف زور»، إن أردنا تصنيف هذه الرواية فالأجدى أن تصنف بأسلوب شخصياتها فكما يقوم فهد بتصنيف أغان المطرب عبد الكريم عبد القادر بألوان لا يراها إلا هو ، يمكننا أن نصنف هذه الرواية بلون؛ فاللون الذي يناسبها حقا هو ألوان الطيف فهي تحتوي على نفحة من النستالوجيا التي تراودنا دوما لطفولتنا “وحدها ذاكرة الطفولة موشومة في الوجدان وكل ذكرى عداها عابرة” وتحتوي على كم هائل من الدفء والحكمة الذي يتسلل لقلبك في شخصية أمنا حصة، وكم هائل من الخوف من أن تكون حقا نبوءة وأن يستفحل أكثر هذا الكم الهائل من الكره والموت باسم الدين.
_______
*كاتبة من الأردن

شاهد أيضاً

التاريخ والحلم والقصيدة.. عرائس الخيال عند “فوزي صالح”

(ثقافات) التاريخ والحلم والقصيدة.. عرائس الخيال عند “فوزي صالح”  حاتم السروي في مجموعته القصصية “حكايات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *