فناجين أمي


*هنادي زرقه

جرت العادة لدينا أن تجهّز الأم ابنتها للزواج، فتشتري لها الأثواب وأدوات المطبخ، وعلى وجه الخصوص، الفناجين والأطباق، ولم تكن أمي من النساء الحصيفات في هذا المجال، ولم يساعدها وضعنا المادي على تجهيز أخواتي، غير أنها احتفظت بزجاجياتها الثمينة وشرشف مطرز، كان أبي قد أهداها إياها جميعاً قبل ولادتي، على أمل أن تقدمها لي ليلة زفافي.

خبأتْ أمي مقتنياتها هذه في علب كرتونية وأودعَتْها في خزانة خشبية قديمة في إحدى غرف البيت المهجورة، تخرجها كل شهر، تمسحُ الغبار عنها، تلمِّعُها وتعيدُها إلى مكانها، ولم أعرف ما الجدوى من هذا الفعل المكرور، فهي لن تستخدمها أبداً، ولن تسمح لأحد بالاقتراب منها خشية كسرها، هذه الزجاجيات هي الأشياء الوحيدة الباقية من أبي، ولطالما اعتقدت أنها تريد الاحتفاظ بذكرى أبي أطول فترة ممكنة، وتخشى خروج أي قطعة، فتنقص لوحة البازل لديها.
حين مرضت أمي بمرض «ألزهايمر»، واستلمتُ مقاليد الحكم في المنزل، مضت فترة طويلة من دون أن أفكر بفتح هذه العلب، إلى أن تزوج أخي الذي يكبرني. فتحتُ العلب وأردتُ أن أهديه شيئاً من ميراثي، كانت لحظةً رهيبة، أشبه بفتح تابوت مغلق لسنوات، أن تخرج مقتنيات أثيرة لأنثى، ومن دون اكتراث تمنحها لامرأة أخرى، لا علاقة لها بجميع الذكريات التي مرت بها أمي وهي تجمعها وتخبئها وتلمعها، وتستحضر صورة رجلها الغائب فيها. أي قسوة هذه؟ هكذا فكرتُ وأنا أخرجُ الفناجين والكؤوس من علبها، ما أدهشني أكثر، وجود كؤوس نبيذ كريستالية، متى فكرتْ أمي باقتناء هذه الكؤوس، لم تشرب أمي النبيذ في حياتها، وكانت تعتبر أن كلَّ مَنْ يشرب النبيذ سيذهب مباشرة إلى الجحيم.
اقتسمتُ الإرث مع أخي، ووضّبتُ حصّتي وأعدتُها إلى عُلبِها، ورغم التبدلات التي طرأت على المنزل، وتكسيري المستمر للأطباق والفناجين، لم تمتد يدي إلى فناجين أمي، أنظر إليها وقد تراكم الغبار فوقها، وأفكر: هل سيأتي اليوم الذي أستخدمها فيه؟ كنت أشعر أن ثمة روحاً معلقة بهذه الفناجين، روح أبي، روح أمي، لا أعرف روح مَنْ! ولا أجرؤ على الاقتراب منها.
استحقاق
تتقدمُ أمي في السنِّ، وفي المرض أيضاً، ولا يمكنك، إزاء هذا المرض، توقع لحظة وفاتها، ربما، من القسوة أن تتحدث عن لحظة موت عزيز لك، لكنك في لحظة أخرى عليك أن تجابه هذا الاستحقاق، وفي الوقت نفسه، لا تعلم من يموت أولاً أنا أم هي. هكذا، كان عليّ أن أعدَّ حقيبتها الصغيرة للسفر إلى عالم الأموات، اشتريتُ لها ثياباً جديدة، بدءاً من قميص النوم، وهي مفارقة غريبة أن تعدَّ شخصاً لنومٍ أبدي، وأقمطة للرأس والمناشف وانتهاء بالملابس الداخلية، لطالما شعرت بسخرية كبيرة من عالم الأموات، لمَ يحتاج الميت لثيابٍ جديدة؟ هل هو ذاهب في نزهة؟ ثم إنها ستتحلل إلى تراب، فما الفائدة من شرائها؟ وكان أن تذكرت الشرشف المطرز الذي أهداه أبي لها، وبالحديث عن هذه الأشياء جميعها، فقد قبع هذا الشرشف في الخزانة، شأنه شأن زجاجيات أمي، أربعين عاماً ولم يستعمله أحد، ورغم إلحاح أختي الكبيرة على أمي أن تأخذه كتذكار من أبي، إلا أنَّ أمي رفضت بشدة منحها إياه، فتحتُ الشرشف، كان ذا لون أخضر جميلاً مطرزأ بعبارة «منام العافية»، يا له من أمر مضحك حقاً، أن تلفّ ميتاً بشرشف مطرز بهذه العبارة، وهل في الموت عافية؟
تقول لي صديقتي: «عليكِ إتمام المهمة كما يليق بكِ وبأمكِ»، هكذا تكتمل سخرية المشهد كله! أبدأ بتحضير ملابس سوداء أنيقة، إذ من المعيب أن أتفاجأ بموت أحد هذه الأيام، الثياب السوداء هي الأكثر حضوراً في خزانات الملابس والشوارع.
ها هو الشرشف سيرحل معها، ويتحول هو الآخر إلى تراب، من دون ذاكرة، وزجاجياتها يعلوها الغبار، لا أعرف ما السرّ في البشر، حتى يخبئوا أشياء ولا يستخدمونها، ألا يفكر البشر بالموت؟ لم لا يعيشون أيامهم يوماً بيوم؟
أي قيمة للأشياء بعد موتنا؟ هل لأثاث البيت ذاكرة؟ للوسائد والأطباق، الأبواب والحيطان؟
أسئلة لا تنفك تؤرقني وأنا أتابع على شاشة التلفاز مشاهد العائدين إلى منازلهم في حمص وقد استحالت خراباً، إلى أي ذاكرة يعودون؟ لم يبق من بيوتهم شيئاً، سوى الحجارة، وحتى الذين بقيت منازلهم، دخلوا إليها وهي فارغة أو شبه فارغة من أثاثها، بعد أن تعرضت للنهب والسرقة، لم تنج من الخراب، هل يبحثون عن ذاكرتهم وسط الأنقاض والركام؟ هل يستطيعون تأثيث ذاكرة جديدة من الغبار والركام والدم؟
كم من امرأة تشبه أمي، خبأت ذاكرتها كلها لابنتها الصغيرة كي تهديها إياها ليلة زفافها، كم من أم ماتت تحت الأنقاض ولم تنعم بلحظة جميلة مع شراشفها؟
ما هي المشاعر التي تنتابك وأنت ترى أشخاصاً غرباء يستخدمون أغراضك الشخصية؟ يغتالون ماضيك كما اغتالوا حاضرك، ولا تأخذهم الرأفة بذكرياتك، عليك أن تألف الأشياء من جديد وتتعامل مع الصور كأنها طارئة، تعيش في ذاكرتك أنت وتمحو صور الدمار من لوحتك.
وهل بإمكان السارق أن يهنأ بأغراض الآخرين، وحين يشرب بفناجينهم، هل يتذكر أصابعهم الميتة وأفواههم التي صاحت بالحرية، هل يؤرقه النوم على وسائدهم، وتطالعه صور أطفالهم المذعورة من أصوات القصف والدمار، هل تتلطخ أحلامه بدماء الضحايا، هل يستطيع أن ينام بعد هذا كله «منام العافية»؟
لا أعرف كم بقيت شاردة، أقلّب ناظريَّ بين التلفاز وصورة أبي الراحل على الجدار، ثم تسمّرت نظراتي على أمي، نهضتُ بسرعة وذهبت إلى الغرفة المهجورة، أخرجت فناجين أمي من علبها الكرتونية، وبدأت مسحَ الغبار عنها وتلميعها، أعدتها إلى علبها، وعلى مقابضها علقت قطعة من روحي.
*(كاتبة سورية)/ السفير

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *