خوارزميّات للحياة(3)


*لطفية الدليمي


القسم الثالث
أثارت التعليقات الفيسبوكية المتباينة بشأن القسميْن الأوليْن من مقالتي هذه كوامن الانشراح في روحي وكانت مبعث سعادة عظمى لي – فقد أبانت مدى اهتمام القرّاء بالموضوعات ذات الاشتغالات الفلسفية والفكرية الحيوية متى ماكانت تلك الاشتغالات ذات علاقة وثيقة بتطوير الحياة التي يحياها المرء ودفعها في مُرْتقيات أكثر رقياً وتقدماً . ولكن من جهة أخرى فقد لمحتُ شيئاً من خلط وتداخل متعجل لبعض المفهومات التي تتطلب قراءة هادئة ومدققة بعيداً عن القراءات المتسرعة ،وهو مادفعني لتثبيت الملاحظات التالية التي أراها تواصلاً مع روح المقالة في قسميها الأوليْن واستزادة في إضاءة الأهداف التي ترمي إليها مقالتي ، وسأعمد لأجل التيسير والتوضيح إلى إجمال ملاحظاتي في النقاط المحددة التالية :
1 . لابد أول الأمر من تثبيت إيضاح محدد لمفهوم (الخوارزميات) التي قصدتها في سياق مقالتي . الخوارزميات – موضوع المقالة – هي نمطٌ من خبرة بشرية مكثفة لها سمة عالمية تتجاوز المحدوديات المحلية والعنصرية والجغرافية ويمكن توظيفها من قبل الأشخاص في جميع المجتمعات المعروفة بسبب أن فائدتها المؤكدة تجاوزت طورالتدقيق والاختبار وقد أوردتُ أمثلة محددة على مثل تلك الخوارزميات . 
2. علينا التفريق بصورة حاسمة بين الخوارزميات الحياتية والخوارزميات الرقمية : أطلقتُ على الخبرة البشرية ذات الطبيعة العالمية العابرة لحدود الزمان والمكان والبيئة توصيف (الخوارزميات) في محاكاة مقصودة للخوارزميات الرقمية التي بوسعنا استخدامها بطريقة آلية وفورية ومن دون اختبارات شخصية مسبقة ، بمعنى أن الخوارزميات الحياتية يمكن أن تتشابه مع نظام التشغيل ( ويندوز ) مثلاً أو أية برمجيات جاهزة أخرى ، حيث أننا نستخدمها فحسب دون أن نخوض في تحضيرات مسبقة لأية لغات برمجية أو نظم تشفير ،،،، الخ من المتطلبات التي لم تضع الشركات المطورة لتلك البرمجيات شروطا ملزمة لتعلمها قبل توظيف منتجاتها في حياتنا اليومية . تتشابه الخوارزميات الحياتية مع الخوارزميات الرقمية من هذا الجانب فحسب ، أما في التفاصيل الأخرى فثمة فارق شاسع بين الاثنين وينبغي عدم الخلط بينهما . 
3 . تنقاد الخوارزميات ( أياً كانت طبيعتها وميدانها ) لمبدأ الاقتصاد في الفكر – ذلك المبدأ الفلسفي المتواصل في جميع الحضارات المعروفة ، ومن الطبيعي أن الاقتصاد في الفكر يقود بالضرورة إلى الاقتصاد في الوقت والمال والجهد البشري وتطويق الأسباب التي تشتت الجهد الفردي الثمين وتبدده في خضمّ الإنفجارات المعرفية الراهنة. 
4 . ليست الخوارزميات الحياتية غريبة عن حضارتنا المشرقية وتراثنا المستنير لكنها طُمِرت بقصدٍ متخابث تحت ركام المواضعات والمؤثرات اللاهوتية السائدة ،ويُعدّ الفكر المعتزلي – وبخاصة كتابات أبي حيان التوحيدي وإخوان الصفا – نوعاً مميزاً للغاية من خوارزميات العيش الدقيقة وإن تلبّست برداء العرفان. 
5 . تبقى موضوعة العلاقة بين الفرد ونظيره – وبخاصة علاقة المرأة بالرجل – منطقة اشتغال شديدة الخصوصية وخارج أية قدرة لضغطها في صيغة خوارزمية – ولو أني أراها أقرب الى فضاء الاشتغال العرفاني – ، لكن الخبرة اليومية للاثنين تُحيلُ إلى علاقة خاصة صعبة التوصيف والتنميط والتعميم . 
6 . في الوقت الذي تتيح فيه الخوارزميات لنا بلوغ منابع ومصادر الخبرات الإنسانية وتسهّل وضع يدنا على ألوان من الخبرة فإنها تعظّم مسؤوليتنا في اتخاذ القرارات المناسبة ، وسيكون أمراً عسيراً أن يرتضي المرء المراوغة مع نفسه بعد أن أتيحت له قاعدة خبرة واسعة لم تُتَح لمن سبقوه.
_________
*المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *