خوارزميّات للحياة(2)


*لطفية الدليمي


القسم الثاني

لا بد أن نكون منذ البدء واضحين تماماً : ثمة خبرات أولية لا مناص من دفع ثمن لاكتسابها . لكن ثمة خبرات يمكن تمريرها للآخرين بلا أثمان واجبة الدفع باستثناء ثمن البحث والتقصي الممتع عن الخبرة وتوظيفها المنتج في حيواتنا العملية . 
أذكر يوماً من أيام الحصار الظالمة والمظلمة التي أحاقت بالعراقيين وحوّلتهم هشيماً في منتصف تسعينات القرن الماضي. كنت أراسل بانتظام صديقة لي غادرَتْ إلى الدانمارك في أعقاب حرب الكويت المهلكة عام 1991 ، وقد اعتدت في كل مرة أراسلها أن أختص بجانب من جوانب الحياة في المجتمع الدانماركي . كنّا ذات مرّة نتباحث في موضوعة التعليم وتنشئة الطفولة – وهما موضوعتان أعشقهما كثيراً – ، وقد أجابت صديقتي على تساؤلاتي بطريقة واضحة تماماً : إن 98% من شخصية الطفل تشكّلها الأجهزة الحكومية خارج نطاق سلطة الأبوين التقليدية ، وإن الخبرات تنقل لهم بطريقة آلية بلا تدخّل من أية مرجعية قامعة ، فلا سلطات ولا مرجعيّات غير لغة القانون الذي يمتثل له الجميع بحب وسلاسة . ثمة تركيز على الموسيقى والرياضة وتعلم اللغات و السفر والاطلاع المباشر على حقائق الطبيعة . وعندما سألتها : أليست هذه وصفة جاهزة لخلق بيئة شمولية مقيتة ؟ أجابت : لا،،، فهناك من يراقب ويحاسب ويدقق ، ولا ينبغي أن ننسى أننا في كنف مجتمع ديمقراطي ترسّخت قواعده وتجذّرت آليات اشتغاله ، وليس من سبيل لإساءة الاستخدام الواسع والمتعمّد من قبل الحكومة أو أي طرف آخر.
من المهم أن أشير هنا إلى ذلك النبع الخصب من أدب السيرة الذاتية – تلك الذخيرة الرائعة من الخوارزميات الثمينة ، ولطالما قرأت في سِيَر علماء وكتّاب ومبدعين أعرفهم ووجدت أنهم أودعوا سيرهم خلاصة خبراتهم التي قلما تناولوها في أماكن أخرى وبخاصة أن هذه السير عادةَ ما تكتَبُ بعد أن تكون الخبرات قد تعتّقت وصارت قابلة للضغط في صيغة خوارزميات كاشفة . و ربما كان هذا هو السرّ وراء الاهتمام الهائل في العالم الغربي بهذا النمط من الأدب الحيوي الذي يكشف أدق تفاصيل الحياة الداخلية للفرد وخبراته بلا انغمارٍ في زيف مصطنع فاضح وغير منتج . 
هناك ملاحظة ذات أهمية بالغة في هذا المجال : تبدو بعض الخبرات البشرية قابلة للتنميط والضغط في خوارزميات محددة ، و مثال ذلك : الاهتمام بالرياضة والمشي لمسافات طويلة ، تعلم كثرةٍ من اللغات ، التسامح وإتقان فن العيش مع المختلف ، التعددية الثقافية والحضارية ، عدم التشبث بمرجعيات من أي صنف ولون ، مجاوزة المحلي باتجاه الكوني ، الحس الإنساني المشترك ، الاهتمام البيئي في شتى تفاصيله الكثيرة . لكن ثمة خبرات يبدو أمرها غيرواضح تماماً : هل هي قابلة للتشكل في خوارزميات أم لا وذاك أمر يتعلق بطبيعتها واختلاف آلية تأثيرها في الفرد . ويلعب المزاج الشخصي دوراً حاسماً في كيفية تطويعها إلى ما يليق بخبرة منتجة ، وليس من بأسٍ في بقاء بعض الموضوعات عصية على الضغط في أيّة مقايسات خوارزمية متاحة للخبرة العامة طالما كان هذا الأمر دافعاً لتحريك المخيال الفردي ولايقود إلى عواقب مؤلمة في سنوات لاحقة.
__________
*المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *