رحلةُ البحث عن مستشرقة لا تأتي!


أحمد جاسم الحسين*



خاص ( ثقافات )
كان تحضيرُ عدد كبير من المفردات للتواصل معها أولويَّةً على سواه، حملَ صديقي الشاعر اللاجئ المستجد نسخة من مجموعاته المطبوعة بالعربية، ومضى نحو موعده الأول لِلقاء المستشرقة، وفي زحمة انشغالِه اللغويّ نسيَ أنْ يأخذ معه باقة ورد، غيرَ أنها تكفَّلت هي بالمهمة، عمَّق شعوره الخاص في فكرة أنَّ صبية تُقدم له ورداً، أعطاها الأبعاد الثقافية التي مرّت معه فيما قرأ من نصوص أدبية، أسبلَ عينيه تعبيراً عن امتنانه، وأغضَّ النظر عن حيادية طريقتها في الحديث، فالأنثويّة الاستشراقيّة الموعودة لم يجدها، وفي تفسير جيوبولوتيكي أقنع نفسه أن المناخ يؤثِّر على التعبير عن المشاعر، إضافة إلى كونها تلتقيه أول مرة، ربما لم تسمع بنصوصه المختلفة، لكن كلُّ شيء سيتغير بعد أن تسمعَ أو تقرأ شعره!
سألها: هل تتقنين العربية جيداً؟ ردت عليه: لاأتقنُها، لكن أحسُّ بها!
صاح: جميلٌ أن تحسّي بها، منذ زمان طويل وأنا أحنُّ لامرأة تحسُّ بما أقول، واستبعدَ صورة الصبية التي ظهرت في (الفيديو كليب) مع كاظم الساهر، مؤكداً أن نزار قباني ماكانَ ليكون لولا الأوربيات، ماكان ليتحدَّث عن تلك المرأة التي ينتظرها منذ دهور، سأكون نزار قباني القرن الحادي والعشرين، وأردفَ: طبعاً مع المحافظة على أسلوبيتي اللغوية وخصوصيتي الرؤيوية!
استعادت معه زيارتها إلى دمشق والشايَ الخمير في مقهى النوفرة، فأوضح لها أنه مقيمٌ إقامة شبه دائمة في النوفرة! وأنه بعد كل صلاة جمعة، يجلس هناك، صاحت بإعجاب: تصلي أيضاً؟ حلو؟ احتارَ بما يردّ عليها، فهي أُعْجِبت بالصلاة، وفي الوقت نفسه لا يريد أن يظهر أنه متديِّنٌ، فالمستشرقات يُعجِبُهن الفعل الديني بصفته جزءاً من ثقافة وليس بصفته عبادة! وجدَ حلاً وسطاً فقال: أتعامل مع الصلاة بصفتها حالة وجدانية ثقافية معرفية، ولا أصلي بالمعنى الحرفي لأولئك الذين يدخلون الجوامع، وصل إلى تفكيكية (دريدا) وهو يحاول نبشَ جُمل معبِّرة، فقال: إنّ انفتاح دلالة الصلاة جعلها تحمل معنى مُرْجَأ يكتشفه كل مؤمن بطريقته الخاصة.
كانت المستشرقة – كما يحبُّ صديقي الشاعر أنْ يسمِّيها- تجاوزتْ الموضوع، فيما كان لا يزالُ مُحتاراً في صياغةِ لغته، ليستْ مشكلته فكرية فحسب، بل إنَّ الاستعصاء اللغويّ، الذي يصيب إنكليزيته يحرجُه أكثر، لكنها كانت تُسعفه بمقترحات من اللغة العربية، وأمام زحمة انشغاله بالهمّ التوصيلي للّغة نَسِي الوظيفة الجمالية، شَبَحُ (رينيه ويلك) حضر أمام عينيه: سُمِّي الأدب أدباً لأنه يحمل رسالة جمالية وتوصيلية!
سألتْه: هل تكتب القصة أم الشعر؟ 
أدرك أنَّ تأخرَه عن الموعد، وشَعْرَه الطويل، والجينزَ الممزق مفرداتٌ لم توصِلْ رسالته، فقال لها: لن أقول لك ماذا أكتب؟، لكن سأقرأ وأنت تحكمين!
بدأ قراءة شعره، بانفعال زائد، ساعدَ عليه شعورُه بطيف من خيبة الأمل، وأنه بات في مُغْتَرَبِه خارج المكان والزمان، محاولاً أنْ يُوصِل لها كلّ ما يجيش في صدره وما لا يجيش، وبعد أن أثنتْ على شعره قالت له: عندي سؤال كان يحيرني، منذ أن كنت في دمشق وقد سمعتُ شعراً كثيراً: مادامتْ لا تُحبُّك لماذا تكتب لها؟ لماذا تشغل نفسك بِمَن لايحبُّك؟
ارتجف صديقي الشاعر من هول السؤال، وقال في سره (يا لبؤس المستشرقات!)، لكنه استعاد توازنه وبحث عن المعادل الموضوعي و(إليوت) رغم كونها من منسيّات النقد: يحاول أن يُوقِعَ الشاعر مَن يحبّ في حبّه!
ردَّتْ عليه: هل يعتقد الشاعرُ أنَّ الحب مصيدة؟ 
أجابَ بسرعة، وهو لا يريد للحديث أن ينحو منحىً مغلقاً: لا ليس لديه مصيدة، لكنه يتخذ من اللغة وسيلة للتأثير بمن يُحبّ؟ يُقدّمُ لغة مفتوحة تحمل أكثر من دلالة، قاطعاً علاقتَه مع نصّه، أو بتعبير بارت: يُميتُ نفسَه ليحيا نصُّه!
ردتْ عليه: هو قال لها أحبك، وهي لم تستجبْ له؟ ألا يُعدُّ ذلك إكراهاً وتحرشاً؟
قال لها: بالمفهوم القانوني كلامُك دقيق، لكن بالمفهوم الشعري يحتاج الأمرُ منكِ إلى إعادة نظر، وتابعَ: المرأة بالمفهوم الشرقي تُعجَبُ بالرجل، لكنها تخجل منه!
قالت: وهل الحبُّ فعلٌ مثيرٌ للخجل أم الإعجاب؟
حكَّ شعره، والتفت يمنة ويسرة: لكنْ وفقَ تفسيركِ هذا سنلغي ثلاثةَ أرباع الشعر العربي، وشخصيَّاً، شخصيَّاً سأحرقُ كلُ دواويني؟
ابتسمت: وهل شعرُك كله عن المرأة التي تنتظرها؟ أو المرأة التي لا تحبك؟
شربَ فنجان قهوته بصمت، ثم تساءلَ: إنْ لم أكتب عن المرأة وأنا أنتظرها، أو التي أحبُّها ولا تحبُّني فعمّ أكتب؟
قالت له: أكتبْ عن المرأة بعد أنْ تحبَّها، وتلتقيا وتعيشا الحب!
ردّ عليها: لكنها إذا استجابت لحبّي ستهدأ نفسي ويصمت الشعر، عندها لا بدَّ من البحث عن امرأة أخرى!
عاد صديقي الشاعر اللاجئ المستجد إلى شركاء غربته ولجوئه، الباحثين عن مستشرقات مساءً، وقد كتبَ قصيدة جديدة عن مستشرقة لا تأتي، ينتظرُها في المقهى كل يوم، لكنها لا تأتي، يحدّث كل من يراه عن جمالها، وحبّه لها، لكنها لا تأتي!.
____________
*كاتب سوري مقيم في هولندا

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *