ثلاثة أفلام استوحت فكرتها من مسرحية ماكبث




*سمير فريد

شاهدت في مهرجان «كان» هذا العام آخر الأعمال التي استوحت فكرتها من مسرحية «ماكبث» للكاتب الكبير شكسبير، وهو من إخراج جوستين كورزيل كما أنني شاهدت أهم الأفلام التي قدمت ماكبث وهي: الأمريكي من إخراج أورسون ويلز عام (1948) والياباني عرش الدماء من إخراج أكيرا كوروساوا عام (1957) والثالث من إخراج رومان بولانسكي عام (1971).
أفلام ويلز وكوروساواوبولانسكي عن «ماكبث» من أفلام المؤلفين السينمائيين بامتياز، فكل منهم عبر عن رؤيته الخاصة للحياة والعالم وقت إنتاج الفيلم، ومن واقع ثقافته، وفي إطار عالمه الفني، تماماً مثل شكسبير كمؤلف وشاعر مسرحي.
كتب ويلز سيناريو الفيلم، وأنتجه وأخرجه، ومثل دور ماكبث عام (1948). وكان هذا هو الوقت الذي بدأ فيه الصراع على السلطة في العالم بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية (1939-1945). والمسرحية تعبير عن الصراع الدموي على السلطة، والذي يبرز العنف الكامن داخل الإنسان وكأنه مطلق ميتافيزيقي. وقد وصف برادلي في كتابه «التراجيديا الشكسبيرية» عام (1904) «ماكبث» بأنها «ميتافيزيقا الشر». وقد استمر الصراع بين «القوتين العظميين» عقوداً طويلة حتى عام (1989)، وهدد العالم بحرب عالمية ثالثة طوال هذه العقود. ولعل هذا ما دفع ويلز إلى التأثر بالمدرسة التعبيرية الألمانية في إخراج فيلمه، والتي ظهرت في فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وقاده إلى ذلك خشيته أن يكون العالم مرة أخرى بين حربين.
ويبدو ذلك التأثر بالتعبيرية الألمانية بوضوح في الديكور الذي صممه فريد ريتر، وفي تصوير جون راسل بالأبيض والأسود.

أما كوروساوا في «عرش الدماء» فيحول مكان وزمان المسرحية إلى اليابان، ولهذا لم يطلق على الفيلم عنوان «ماكبث». والفيلم ياباني إلى درجة أن بيتر موريس في كتابه «شكسبير في السينما» الصادر بالإنجليزية عام (1972)، يستبعده من الأفلام الشكسبيرية. ولكن الفيلم شكسبيري خالص. فقد استوحى كوروساوا المسرحية كما استوحاها شكسبير من كتب التاريخ، وتحديداً من تاريخ هولنشد. وأكد الفيلم عالمية شكسبير التي لا تضاهى.

يقول شادي عبدالسلام (1930-1986) في مطبوعات حلقة بحث «شكسبير على شاشة السينما» التي أعدها الكاتب وأقيمت في القاهرة عام (1971): «إننا أمام عمل يمتاز بأصالة لا مثيل لها. أصالة أسلوب كوروساوا، أي يابانية الأسلوب في البناء والإيقاع والحركة وسلوك الشخصيات وتشكيل المناظر والموسيقا، وليس فقط الأزياء والديكور. ليدي ماكبث هنا تختلف تماماً عن ليدي ماكبث الأوروبية الغربية. ليدي ماكبث هنا تجلس القرفصاء، وتتكلم بهدوء، وبصوت متعادل الأبعاد. أما النهاية حيث يلقى ماكبث مصرعه بأيدي كل رجاله، وليس على يدي ماكدوف، فهي تعبر عن فكر كوروساوا: لقد أغلق طريق ماكبث وفتح طريقاً آخر أرحب وأعمق».

وبقدر ما كان «ماكبث» ويلز أمريكياً، و«ماكبث» كوروساوا يابانياً، جاء «ماكبث» رومان بولانسكي بولانسكياً. إننا لا نرى في هذا الفيلم عالم شكسبير فقط وإنما عالم بولانسكي أيضاً، والذي عبر عنه منذ أفلامه القصيرة الأولى وهو طالب يدرس السينما، حيث ينتصر الشر دائماً، وعلى نحو ميتافيزيقي تماماً. وذلك رغم الالتزام بالنص الشكسبيري وزمانه ومكانه.

كان هذا الفيلم أول أفلام بولانسكي بعد مصرع زوجته شارون تيت وهي حامل (1969) على يد شاب مهووس يدعى شارلز مانسون، وعلى نحو مجاني دون سبب. ولذلك نجد ماكبث وزوجته في الفيلم في عمر الشباب لأول مرة في تاريخ المسرح والسينما، حيث مثل الدورين جون فينش (28 سنة) وفرنشيسكا آنييس (25 سنة). والقلعة الملكية أقرب إلى قلعة دراكولا في فيلم بولانسكي «قتلة مصاصي الدماء البواسل» عام (1967)، أو بيت برامفورد في فيلمه «طفل روزماري» (1968) عن السحر الأسود. والملوك والأمراء بل والساحرات، شخصيات عادية يمكن أن تلتقي بها في أي مكان، وإن كانت ترتدي أزياء من الماضي، وتعيش في زمن مضى. وفي «ماكبث» بولانسكي قدر كبير من الدم والعنف والجنس والعري غير مسبوق في أي فيلم آخر عن المسرحية.

كل فيلم لمؤلف سينمائي كبير عن «ماكبث» عبر عن زمنه، وكذلك «ماكبث» كورزيل الذي عبر عن زمن مطلع القرن الواحد والعشرين الميلادي. إننا أمام فيلم عن الشر المطلق، ولكن في الواقع. إنه شكسبير، ولكن امتداداً للعنف الذي يعرض في نشرات الأخبار التلفزيونية. إنه شكسبير، ولكن لمشاهدي أفلام الرعب.

أخرج كورزيل «ماكبث» وهو في الأربعين من عمره، فقد ولد في (3 أغسطس 1974) في أستراليا، ومن الصعب بصفة عامة إخراج هذه المسرحية قبل سن الأربعين. وليس من الغريب أن ينضم إلى مخرجي شكسبير في السينما.
أخرج كورزيل الفيلم عن سيناريو جاكوب كوسكوفا وتود لويسيو ومايكل ليسلي، وصوره بالألوان للشاشة العريضة آدم أركاباو، وألف الموسيقا جيد كورزيل (شقيق المخرج)، وصممت الديكور فونيا كرونبي، والثلاثة عملوا معه في «سنو تاون». وقام بالمونتاج كريس ديكنز، وتصميم شريط الصوت ستيوارت ويلسون، وتصميم الأزياء جاكلين دوارن. وتم التصوير في اسكتلندا التي تدور فيها أحداث المسرحية.
يلتزم الفيلم النص الأصلي، ولكنه يضيف مشاهد ولقطات من دون حوار ولا مونولوجات ليعبر عن قراءة جديدة للمسرحية. وبذلك يحافظ على النص الشكسبيري، وعلى حريته في قراءته في آن واحد. ومحور هذه القراءة الأسرة باعتبارها مظهر الحياة الواقعية الاجتماعية العادية، وحتى أن ماكبث وزوجته في انغماسهما في القتل والعنف يبدوان وكأن من بين دوافعهما أنهما من دون أسرة، ويسعيان لتدمير الأسر حولهما، وليس فقط السعي إلى عرش البلاد.

يعبر كورزيل عن هذه القراءة منذ أول مشهد لجنازة طفل ماكبث وزوجته، والذي يبدأ بلقطة للطفل قبل حرق جثمانه، أي أول لقطة في الفيلم كله. ويأتي هذا المشهد قبل العناوين كمفتاح لهذه القراءة، ولأنه من المشاهد المضافة حيث لا تشير المسرحية على أي نحو إلى وجود طفل للزوجين. والساحرات في المسرحية ثلاث، وفي الفيلم يضاف إليهن طفل لا يتحدث. وفي المسرحية يهرب فليانس ابن بانكو من القتلة في الغابة بعد مصرع أبيه، وفي الفيلم يساعده طفل على الهرب. وفي المسرحية نسمع عن قتل زوجة ماكدوف وأطفالهما، وفي الفيلم نرى الليدي ماكبث وهي تشاهد حرق الزوجة والأطفال وهم على قيد الحياة.

وتتكامل مفردات لغة السينما التي اختارها كورزيل لصنع أسلوبه الواقعي. فالشاشة العريضة مناسبة للمعارك والتصوير الخارجي وسط الطبيعة والآفاق المفتوحة، وبذلك تبدو الدنيا كلها مسرحاً للأحداث وإن كانت تقع في اسكتلندا، فضلاً عن إبراز التناقض بين جمال الطبيعة وقسوتها، وبين أصل الإنسان النبيل ووحشية الصراع على السلطة.والديكورات الخارجية أغلبها خيام متهالكة حتى خيمة الملك، والأزياء أغلبها رثة، وكلها ما بين ملوثة بالدماء أو على وشك التلوث بها.

ويصل هذا الأسلوب إلى ذروته في مشاهد الساحرات، فهن يتجسدن على نحو واقعي تماماً، ولا يختلفن عن الشخصيات الأخرى، ويكاد المتفرج الذي لم يقرأ المسرحية لا يعرف أنهن من عالم آخر مجهول. كما أن شبح بانكو في حفل تتويج ماكبث ليس شبحاً، وإنما هو بانكو المغدور به يدخل الحفل ويجلس على المقعد الذي كان مخصصاً له والدماء تسيل منه.وتقوم موسيقا جيد كورزيل بدور أساسي في التعبير عن عالم الفيلم، بخاصة في المشاهد المضافة إلى المسرحية، والتي تخلو من الحوار والمونولوجات التزاماً بعدم الإضافة إلى النص الأصلي.

لا نرى ماكبث في المسرحية يقتل الملك دانكان، ولكننا نراه وهو يقتله في الفيلم، وبالتفصيل، وكأنه جزار يقطع جسداً. يقول بدوي في مقدمة ترجمته للمسرحية إن قول ماكبث بعد قتل الملك إن يديه تشبهان يدي الجلاد، ترجع إلى أن وظيفة الجلاد أيام شكسبير لم تكن تنته عند شنق المحكوم عليه، وإنما تشمل تقطيع جسده بعد الشنق. وبينما تقتل الليدي ماكبث حارسي الملك في المسرحية، يقتلهما ماكبث في الفيلم، وذلك للتأكيد على انغماسه في القتل، وتعبيراً عن قوله «ما كانت بدايته شراً لن يقوى إلا بالشر».

وقد يبدو هذا التغيير دفاعاً عن الليدي ماكبث، بخاصة أننا نراها لأول مرة في الفيلم في مشهد ما قبل العناوين أم يعتصرها الألم والحزن على موت طفلها، ونراها لأول مرة بعد العناوين وهي تصلي في الكنيسة، ونراها تبكي بعد حرق زوجة ماكدوف وأطفالهما وتستعيد حرق طفلها بعد موته. ولكن هذا ليس دفاعاً عنها، وإنما تأكيد على واقعية الشخصية يتسق مع أسلوب الفيلم. واتساقاً مع هذا الأسلوب أيضاً نراها تموت من المرض، ونرى ماكبث يحمل جثمانها، ولا هذا المشهد ولا ذاك في المسرحية. وبمشاهدة موتها ينفي الفيلم احتمال انتحارها الذي يرد على لسان مالكولم في ختام المسرحية، وهي إشارة للتأكيد على قسوتها أكثر من شعورها بالذنب.

وعلى العكس من «هاملت» أوليفييه، و«ماكبث» ويلز، لا يضع كورزيل المونولوجات على شريط الصوت، وإنما تقال مباشرة، ومتزامنة، كما في الأصل المسرحي.ومن شأن أن يتحدث الممثل إلى نفسه، وليس على شريط الصوت، التأكيد على الواقعية في التعبير. وكما تفاعلت مجموعة الفنانين وراء الكاميرا مع النص الشكسبيري وقراءته الجديدة، استوعب مايكل فاسبندر في دور ماكبث وماريون كوتيلار في دور الليدي ماكبث، وكل الممثلين أمام الكاميرا، هذه القراءة. ماكبث والليدي ماكبث هنا ليسا ملكاً وملكة، وإنما شخصان يقتلهما الجشع مثل كل من يقتلهم الجشع في كل وقت وكل مكان.
_________
*مجلة دبي الثقافية

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *