*هيثم حسين
“الموت بداية وليس نهاية، بالموت ينتقل الكائن إلى طور آخر، الموت ليس مرضا، ليس عرضا، إنّه صنو الحياة، لذلك نقول في صلواتنا (لقد مات مفعما بالحياة)”. هذا ما كتبه الأديب المصري الراحل جمال الغيطاني (1945-2015) في كتابه الأخير “حكايات هائمة”، وكأنّه كان يستشعر قرب الرحيل، فينشغل بمقاربة فلسفة الموت، وكيف أنّه في وجه من وجوهه حياة متجدّدة للكاتب.
حين يستعيد المرء أسماء مؤثرة في تاريخ الأدب العربي الحديث، لا بدّ أن يذكر الراحلين مؤخّرا جمال الغيطانيّ، وفاطمة المرنيسي (1940-2015)، وإدوار الخرّاط (1926-2015)، هؤلاء الذين خطفهم الموت في عام واحد، ربّما يصحّ وصفه بعام السرد العربيّ الحزين. ولا يخفى أنّ لكلّ منهم تميّزه وتأثيره، وحضوره المتجدد في ذاكرة الأدب وتاريخه.
يعتبر الغيطاني واحدا من أبرز الروائيين العرب في النصف الثاني من القرن العشرين، وقد برع في معالجاته الروائية التراثية، فكانت رواياته التي منها: “الزيني بركات” ملحمته الأشهر العابرة لزمنها، التي استعاد فيها التاريخ وأضفى عليه معاصرة بطريقته وبحسب قراءته لذاك التاريخ من منطلق التقدير والاعتبار في الوقت نفسه. وقد تتالت رواياته التي قاربت قضايا تاريخية ومعاصرة، وشقّ طريقه من خلالها إلى عالمه الروائي الرحب.
وبالرغم من الصداقة الطويلة التي جمعت بين الغيطاني ونجيب محفوظ (1911-2006) العربي الوحيد الحائز على جائزة نوبل للآداب (1988)، فإنه لم يمضِ في ظلّ محفوظ تجربته، ولا ارتكن لهيبة اسمه وصدارته وريادته، بل سعى إلى بلورة شخصيته الروائيّة التي تمكن من صياغتها، وترك بصمته الخاصة في عالم الأدب والصحافة في مصر والعالم العربي، وهو الذي أسّس “أخبار الأدب” القاهريّة. كما لم يفقده بعض تخبّطه السياسي، تميّزه كروائي كبير.
يشير ما كتبه الغيطاني في ختام فصل “كتابة” في عمله الأخير “حكايات هائمة”، إلى رغبة في مناورة الموت الذي بدا أنّه مهجوس به في آخر عمل له، حيث يظهر كمن يضع نقطة الختام لفصل أخير في حياته، ويبقي باب الكتابة مشرعاً على أزمنة قادمة، تراه يقول: “لم تظهر الحروف لتختفي، إنّما لتبقى، ظهورها لن يعقبه طيّ وما سيكون.. سيكون..”. وكأنّه يساير الفقدان مواسياً ببقاء أثر الكلمة وديمومة صياغتها لكينونة الإنسان.
جوّاب الآفاق
الروائي الراحل إدوار الخرّاط، شكّل بدوره منعطفا سجل باسمه في تاريخ الرواية العربية الحديثة، كان له امتيازه وارتياده آفاقا جديدة، فكان صاحب الحساسية الشعرية الجديدة في الرواية العربية، وكانت شعرية رواياته من أبرز السمات التي صدّرتها، وساهمت في تكريسها كأعمال لافتة ومميزة.
الإسكندرية التي شغف بها، تصدّرت رواياته، وسكنتها، فكان يعيد هندستها وتصميمها في خياله، ويعود إلى تاريخها، يرسم مسارات الواقع ومنعطفات الزمن، ويبرز كيف أنّ المدينة تكون كائنا حيّا “مؤسطرا” في الرواية، يضخّ فيها نبض الحياة، ويتشبّث بمكانتها الاعتبارية في التاريخ والجغرافيا معا عبر الأدب، وذلك من دون أن يهمل أمكنته الأخرى كالقاهرة والصعيد.
صاحب “رامة والتنّين” قرأ الواقع العربي بشعريّته الروائية، فكان جوّاب الآفاق وغوّاص البحار السردية مرتحلاً في مدن البحر وأعماق البشر في قصصه ورواياته. أثرى المكتبة العربية بأعماله، وأرسى بنيانا أدبيا شاهقا يليق بإسكندريته ومصريته، وتمكّن أن يكون عرّابا من عرّابي الرواية العربية، من دون أن يفسح أيّ مجال للتقليد أو التكرار كي يتخلّل أعماله، ومن هنا كان المجدّد في لغته وعوالمه وفضاءاته وحساسيته الروائية.
شهرزاد السرد
أمّا شهرزاد السرد العربي، عالمة الاجتماع المغربيّة فاطمة المرنيسي، فقد امتازت بمقارباتها العقلانية وقراءاتها الفكرية الفلسفية المعمقة للتراث والواقع، وكانت الحكايات معابرَ لأبحاثها نحو استخراج الدروس والعبر، وتقديمها متحلّية بقوة المنطق والحجّة والإقناع، معتمدة على إيمان راسخ بدور المرأة في تطوير واقعها، وتأثيرها في جيلها وأجيال لاحقة.
أثبتت المرنيسيّ في أعمالها -ومنها: “الحريم السياسي”، و”الجنس كهندسة اجتماعية”، و”هل أنتم محصنون ضد الحريم”، و”ما وراء الحجاب”، و”شهرزاد ترحل إلى الغرب”، و”أحلام الحريم”- مكانة المرأة العربيّة المثقّفة وقدرتها على التعمّق فيما وراء الأحداث والإشكالات، لتسبر أعماقها متحلّية بالجرأة والمسؤوليّة في قراءة الواقع وتفكيك خطاباته وبنياته، والتأسيس لوعي نقدي ينطلق من المكبوت، ويكشف الغطاء عن المحجوب والمخبوء، في نزع للأقنعة ومواجهة لاستبداد ثقافيّ متراكم.
لا يخفى أن الأدب العربي تعرّض لصدمة مؤلمة قاسية بفقده ثلاثة من أبرز وجوهه المعاصرة في فترة قريبة، لكنّ المنجزات التي خلّفوها وراءهم تظلّ إرثاً للإنسانيّة، وتؤدّي بعض المواساة والعزاء.
________
*الجزيرة.نت.