*نصر عبد الرحمن
تنشغل الأوساط الأدبية لعدة أسابيع، وربما لشهور، بالمنُجز الإبداعي للفائز بجائزة نوبل في الأدب، وتظهر المقالات والدراسات حول كتبه في الدوريات الأدبية؛ إلا أن المشهد اختلف هذا العام بفوز الصحفية «سيفتلانا ألكيسفيتش» لقد تجاهلت الصحف والمجلات الأدبية فوز الصحفية البيلاروسية، وقامت بتغطيته من الناحية الإخبارية فقط إلى جانب قليل من المقالات التي تناقش أحقية فوز الصحفيين بالجائزة الأدبية الأرفع على الإطلاق، وقد ورد خبر فوزها بنفس الصيغة تقريباً في أغلب الصحف الغربية، واقتصر على اقتباس خطاب الفوز الذي أعلنته الأكاديمية السويدية، إلى جانب معلومات أساسية عنها، إذ لا يعرف عنها الجميع شيئاً، ثم الإشارة إلى دورها الشجاع في فضح الاتحاد السوفييتي، هذا إلى جانب تقديم عروض موجزة لكتبها التي لم يُترجم منها إلى الانجليزية سوى كتابين فقط؛ هما «فتيان الزنك» و«أصوات من تشرنوبل» وقد ورد خبر في مطلع ديسمبر/كانون الأول 2015 عن قرب الانتهاء من إعادة ترجمة الكتابين إلى الانجليزية مرة أخرى لما شاب الترجمة الأولى من أخطاء أسلوبية جسيمة.
أحياناً كانت صيغة الخبر تحتوي على نبرة تعجب؛ مثلما جاء في صياغة العبارات الأولى لخبر فوزها في صحيفة «إيكونومست»: «سيفتلانا ألكيسفيتش.. الصحفية التي تجري حوارات وتكتب موضوعات استقصائية لمدة سنوات باللغة الروسية، أصبحت موضع اهتمام بعد أن أعلنت الأكاديمية السويدية عن فوزها بجائزة نوبل في الأدب…».
رأى الروائي الألماني «ليونيد بيرشيدسكي» في مقاله بموقع «بلومبرج» أن فوز «سيفتلانا» هو اختيار سياسي وليس أدبياً، ويتفق مع آخرين حول شجاعتها في انتقاد الاتحاد السوفييتي، لكنه يُضيف: «كتبها ليست إلا مجموعة من المقالات والمقابلات، وهي ليست أديبة، ولا تقدم نفسها باعتبارها أديبة» ويؤكد القيمة السياسية لفوزها بقوله: «كان فوز ألكسندر سولجنتسين عام 1970 بمثابة رسالة إلى الاتحاد السوفييتي مضمونها أن الغرب يعلم ما يجري داخل الاتحاد السوفييتي، ويبعث فوز سيفتلانا برسالة مُشابهة، لكن إلى بوتين وإلى الكرملين».
ويتفق كذلك «فيليب جورفيتش»؛ رئيس تحرير مجلة «باريس ريفيو» الأدبية المرموقة، مع أغلب من تناولوا خبر فوزها بشأن شجاعتها وقدرتها على التعبير عن أصوات البسطاء، لكنه أعرب عن دهشته حين رأى اسمها في قائمة التوقعات للفوز بجائزة نوبل: «لم أصدق عيني وأنا أرى اسمها بعد نغوجي واثينيجو، وموراكامي في القائمة، وقلتُ لنفسي.. أليست هذه سيفتلانا ألكيسفيتش؟ أليست صحفية؟ هل يمكن أن تعتبر لجنة نوبل الكتابة الصحفية نوعاً من الأدب؟» كان «جورفيتش» يطرح السؤال الأخير بنوع من التفاؤل حول التعامل مع الصحفيين باعتبارهم أدباء، وأضاف أن هذا يفتح الأمل أمام غيرها من الصحفيين؛ خاصة أنه أصدر كتاباً استقصائياً عن الحرب في «رواندا» منذ سنوات.
تناول عدد من الصحفيين هذه النقطة في تغطيتهم الإخبارية لفوز «سيفتلانا»، وأشاروا إلى حصول «ونستون تشرشل»؛ رئيس وزراء بريطانيا الأسبق على الجائزة عام 1953 عن مقالاته التاريخية، وحصول الكاتب الشهير «برتراند راسل» على الجائزة عام 1950 عن كتابته الفلسفية، بالطبع ينطوي هذا الرأي على منطق أعوج؛ إذ إن التقدير المهني يجب أن يكون داخل إطار المهنة ذاتها، وليس خارجها، يجب ألا يسعد الصحفي حين يفوز بجائزة أدبية عن عمله، والعكس صحيح بالطبع، وجدير بالذكر أن فوز «تشرشل» كان فضيحة مدوية، أثارت اتهامات للجنة السويدية بالرياء وإهدار قيمة الجائزة.
اتسمت التغطية الصحفية للخبر بالحيادية في أغلب الأحيان؛ وانطوت على قدر من الارتياح المصحوب بهجوم مُستتر على رئيسي روسيا وبيلا روسيا، ولم تظهر حالة واضحة من العداء تجاه فوز «سيفتلانا»؛ بينما اتسمت تعليقات أغلب القراء على هذه الأخبار المنشورة إلكترونياً بالشراسة في الهجوم على الأكاديمية السويدية وعلى «سيفتلانا» نفسها، وتركز النقد حول ضرورة الابتعاد بالجائزة وبالأدب عموماً عن السياسة، والتذكير بما حدث من قبل مع الروسي «بوريس باسترناك»، وروايته «دكتور زيفاجو»؛ التي كانت دون المُستوى.
وصدرت أكثر الانتقادات حدة عن الصحف والمواقع الروسية والبيلاروسية (الصادرة بالإنجليزية) التي وصفت «سيفتلانا» بأنها صحفية مجهولة، لا يعرفها أحد في بلادها، وأن كتبها بلا قيمة حقيقية، كما وجهت انتقادات حادة للجنة الجائزة ويمكن وصف هذه الانتقادات الحادة بأنها سياسية كذلك، وليست من مُنطلق أدبي؛ كما أن عدم شهرتها في وطنها يرجع في جانب منه إلى منع كتبها هناك، لكن الصحفي الأمريكي من أصل روسي «أناتولي كارلن» نفى عن الفائزة كونها أدبية، وفند ما جاء في خطاب فوزها استناداً إلى النظرية الأدبية، واستشهد بمقولات «باختين» عن «تعدد الأصوات» في العمل الأدبي التي تحمل رؤية إيديولوجية، وأوضح كيف استخدمت لجنة نوبل المُصطلح في غير سياقه وعلى نحو غير صحيح.
أجرى «كارلن» مسحاً على مُحرك البحث غوغل وحصل على إحصاءات ورسوم بيانية عن عدد مرات البحث عن اسم «سيفتلانا أليكسفيتش» باللغتين الانجليزية والروسية، في الفترة من 2004 حتى قبل فوزها بأسبوع في 2015، ليُثبت أنها مجهولة بالفعل مقارنة بشعراء وروائيين من أبناء وطنها كما أشار إلى وجود كتاب واحد من كتبها على موقع أمازون العالمي قبل حصولها على نوبل؛ هو كتاب «ليس للحرب وجه أنثوي» ولم يتوقف «كارلن» عند هذا الحد، بل تناول أسلوبها الصحفي ووصفه بالركيك وغير الدقيق، ويستشهد بهذه الجملة من كتابها عن «أصوات من تشرنوبيل»، الذي تصف فيه الحدث باعتباره: «الحدث الأبرز في القرن العشرين، ولغز القرن الحادي والعشرين» ويضيف أن هذا الكلام مُرسل وغير دقيق وغير مقبول من صحفية استقصائية، وقام صحفي روسي آخر هو «ليزي جلوسوفيتش»، يُقيم كذلك في الولايات المُتحدة، بالكشف عن المُغالطات التي يحتويها الكتاب في الأرقام والنسب المئوية، وأضاف: «هناك عشرات الكُتاب الليبراليين في روسيا أحق بالجائزة، فلماذا أمسك أعضاء لجنة نوبل بكتب سيفتلانا؟».
بالطبع يُلمح «ليزي» إلى العامل السياسي في اختيارها، ويعيد إلى الأذهان ما يُعرف بتاريخ نوبل الأسود الذي تجاهل، عدة مرات، القيمة الأدبية من أجل حسابات سياسية أو قومية، بدأت في مطلع القرن العشرين برفض منح الجائزة للكاتب السويدي العالمي «أوجست سترندبرج» لأنه كان يُهاجم العرش السويدي، وحين حصل عليها الكاتب المسرحي الانجليزي «جورج برنارد شو»؛ رفضها في البداية، ثم قبلها واستخدم قيمتها المادية في ترجمة أعمال «سترندبرج» إلى الانجليزية، هذا فضلاً عن الانحياز الواضح للمُبدعين الفرنسيين، وتجاهل تجارب إفريقية وعربية جديرة بالفوز، ومنح الجائزة لكاتبين من الاتحاد السوفييتي كجزء من الحرب الباردة بين الشرق والغرب.
لم يستمر الاهتمام ب«سيفتلانا» طويلاً، ولم تظهر في أي من المحافل الأدبية حتى الآن، واقتصر ظهورها على عدة مُحاضرات عامة، ومقابلات إذاعية وتلفزيونية؛ لا تتطرق فيها إلى قضايا الكتابة والصحافة، بل كانت تنتقد الأوضاع السياسية في بيلاروسيا وفي روسيا الاتحادية، وتتحدث عن ذكرياتها في الاتحاد السوفييتي السابق، ويمكن القول إن جائزة نوبل مرت هذا العام مرور الكرام على الأوساط الأدبية؛ التي انشغلت بعدها مُباشرة بفوز «مارلون جيمس» بجائزة «بوكر مان». ومن المُلاحظ أن كبار أدباء العالم التزموا الصمت تجاه فوز «سيفتلانا» ربما كان سبب هذا الصمت هو الخوف من الدور الروسي الذي يراه الرأي العام في الغرب خطيراً، وربما كان مرجعه الدهشة من غرابة الاختيار، أو ربما بدافع من اللياقة والكياسة التي منعتهم من انتقاد اللجنة، أو الصحفية التي اختطفت الجائزة، لكن أغلب الظن أن هذا الصمت هو نوع من التجاهل لأن الفائزة أقرت بأنها ليست أديبة، وبالطبع ليس لها إنتاج أدبي يثير جدلاً أو يستدعي تعليقاً.
________
*الخليج الثقافي