حق الموت.. وسلطان الحياة


في الفصل الأخير من كتاب «أمزجة فلسفيّة، من أفلاطون إلى فوكو»، الصّادر عن دار فايار الفرنسيّة، وقد خصّصه الفيلسوف الألماني بيتر سلوترداك Peter Sloterdijk لميشال فوكو، نجده يتحدّث عن صاحب «الكلمات والأشياء» بوصفه حدثاً فلسفيّاً عظيماً وسم مرحلة حاسمة من التّحوّل المابعد ميتافيزيقي postmétaphysique من التّفكير الفلسفيّ الغربيّ. فإذا كان نيتشه ينادي بأن يصبح دينوسيوس فيلسوفاً فإنّ فوكو كان يراهن على أطروحة أخرى يضحي دينوسيوس بمقتضاها أرشيفيّاً archiviste. ولا غرابة في ذلك فقد انتقل مجال البحث الفلسفي مع فوكو من مقاعد الجامعة وبيوت الحكمة والمكتبات العظيمة إلى كهوف الأرشيف القابع في مؤسّسات المصحّات النّفسيّة، ومستشفيات الأمراض العقليّة، قبل أن ينتقل في مرحلة أخرى إلى السّجون وأجهزة الدّولة المعقّدة.

بفضل تبحّره الأركيولوجيّ في اللّغات الإداريّة الّتي سادت في العصور السّابقة تمكّن فوكو من إحداث انقلاب في المعرفة الفلسفيّة جعلته يفلح في مداورة مشاكل الفلسفة الرّسميّة والاقتراب في معظم أعماله، إلى حدّ الالتباس، من اختصاصات أخرى بات فيها التفريق بين فوكو الفيلسوف وفوكو النّاقد الأدبي أو فوكو الطّبيب النّفسي أو فوكو مؤرّخ المجتمع، أمراً عسيراً. إلاّ أنّ فوكو، وإن انغمس في أرشيف العلوم الإنسانية وتعمّق في دراسة الممارسات الانضباطيّة، قد ظلّ في كلّ ما كتب فيلسوفاً بما يحمله هذا اللّفظ من معاني التّسامي والنّظر العميق.
ورغم ذلك لا نجد في كلّ أعماله نصّاً واحداً يمكن أن يُقرأ باعتباره مساهمة في مشاكل الفلسفة الأساسيّة، أو تفسيراً للنّصوص الكلاسيكيّة. وربّما لأجل ذلك ظلّ تصنيفه أمراً مثيراً للجدل. فإن كان بعض الفلاسفة يعتبره ابن الفلسفة الترسندنتالية الضّالّ، فإنّ بعض المؤرّخين قد نظروا إلى أعماله بعين الارتياب. فقد اعتبروها مجرّد تخييلات fictions تاريخيّة متوحّشة لامعة جدّاً. بيد أنّ سلوترداك يتجاوز هذا الإشكال معتبراً أنّ فوكو لم يكن ذاك الفيلسوف الّذي كان حريصاً على تجميع رصيد هائل من الحقائق الدّائمة، وإنّما كان مثل ذاك الّذي صعد على الرّكح لا قصد له إلاّ كتابة تاريخ الأحداث البارقة كالوميض. ذلك أنّ الكائن étant الحقّ عنده هو من طبيعة الوميض les éclairs. فمعنى الكينونة l’être عند فوكو ليس الوجود، ولا الصّيانة اللاّزمنيّة للجوهر، وإنّما هو الحدث بما هو انفتاح أفق وزمنيّة ذات نسق ظرفيّ مؤقّت.
غير أنّ عمل الفيلسوف فوكو ما كان ليكتمل لو لم يعاضد عملَ رجل الإبستمولوجيا والأركيولوجيا عمل فوكو السّياسيّ والإيطيقيّ. وهو عمل قد واجه معضلة كبرى تمثّلت في هذا التّحدّي الّذي اتّخذ من إعادة التّفكير في نواة الفلسفة برمّتها موضوعاً. بيد أنّ هذا التّحدّي قد جعله فوكو يجابه نظريّةَ الحريّة بوصفها عقيدة الحدث الّذي يحرّر الكائن الفرديّ l’individuel.
صعوبة فوكو
في هذا السّياق العامّ، نجد في قول الفيلسوف سلوترداك، في شأن الأثر الفلسفي الكبير الّذي خلّفه ميشال فوكو، ما يبرّره اليوم. فقد ذكر في كتابه «لا الشّمس ولا الموت» أنّ هذا الأثر «يمثّل قطيعة لم يفهمها إلى اليوم سوى قلّة من النّاس». وإذا استثنينا جاك دريدا Derrida وجيل دلوز Deleuze وميشال دو سرتو De certeau وبول فاين Veyne وميشال سير Serres وهوبار درايفوس Dreyfus وبول رابينوف Rabinow وغيرهم من كبار قرّاء فوكو ومعاصريه أيضاً فإنّ فهم ما أحدثته أعمال فوكو الفلسفيّة من قطيعة يقتضي منّا أن نبحث عن آثار هذه القطيعة في أعمال فلسفيّة أخرى استعانت بـ»صندوق أدوات»، (أو كتب) فوكو لتحدث قطائعها الخاصّة، أو لتعمّق فهمها لما خلّفه صاحب «تاريخ الجنون» من قطائع في كلّ الحقول المعرفيّة الّتي طرقها والمواضيع العجيبة التّنوّع الّتي عالجها.
ومن بين هذه «القلّة من النّاس» يمكن أن نعتبر الفيلسوف الإيطاليّ جيورجيو آقمبن Giorgio Agamben من الّذين وجدوا في فرضيّة «سياسة الحياة» Bio-politique الّتي صاغها فوكو في الفصل الأخير (حقّ الموت والسّلطان على الحياة) من كتاب «إرادة المعرفة» (وهو عنوان الجزء الأوّل من كتاب تاريخ الجنسانيّة) ما يؤسّس به أطروحته thèse الّتي تقوم على إعادة التّعريف بلفظي الحياة bio والسّلطان le pouvoir، وإعادة التّفكير في ما يقوم بينهما من علاقات.
بيد أنّ موضوع «سياسة الحياة» في أطروحة آقمبن هو «الحياة عارية»، «La vie nue » (zôé)، وقد عرضها في كتابه «الإنسان المقدّس، سيادة السّلطان والحياة العارية». وهي عموماً تعني عند الإغريق مجرّد أن نحيا أو نعيش. فهي القاسم المشترك بين كلّ الكائنات. وهي متميّزة كلّيّاً عن «الحياة المخصوصة» «La vie qualifiée» (bios)، الّتي تعني شكل (أو طريقة في) الحياة الخاصّ بفرد أو مجموعة. ولا يتعلّق موضوع السّيادة عند آقمبن بحياة المواطن الخاصّة المحميّة بشتّى الحقوق، وإنّما بالحياة عاريةً وقد اختصرت في صمت اللاّجئين والمعتقلين والمطرودين المبعدين. هي حياة «الإنسان المقدّس Homo sacer» ذاك الإنسان الّذي يمكن قتله دون أن نقترف بقتله أيّ جرم، ولكنّه أيضاً الإنسان الّذي لا يمكن التّضحية بقتله في أيّ شكل من أشكال القتل الطّقوسيّة. فهو يشبه الصّعلوك الّذي إذ طردته القبيلة، لا تطالب بديّته إن قتل، إلاّ أنّه يختلف عنه على نحو جذريّ، إذ لا يمكن أن يوجد إلاّ في وضع استثنائيّ (وهو في الأصل تعليق مؤقت للنّظام القضائيّ والقانونيّ بسبب وضع خطر حقيقيّ أو حالة طوارئ) فتضحي المدينة بتعليق القوانين والدّساتير كالمعتقل. ففي هذا الوضع الاستثنائيّ فقط يمكن أن يوجد الإنسان المقدّس الّذي يهرق دمه ويُبذل جسمه البيولوجيّ على نحو سافر، دون أدنى وساطة، لقوّة التّأديب وقسوة العزل وقساوة الموت.
ولذلك يضع آقمبن مقابل منوال المدينة الّذي يفترض أنّ السّياسة الغربيّة قد نهضت عليه منذ أمد مديد منوالا آخر يمثّل ناموس الحداثة، هو منوال المعتقل. وهو أنموذج من «تسييس الحياة العارية»، بل هو يمثّل أنموذج السّلطان العاديَّ. فبنية السّياسة الغربيّة عند آقمبن لا تقوم على العبارة وإنّما على العزل والإقصاء وإسقاط الحقوق المدنيّة.
«تفرقة» أرسطو
إنّ هذه التّفرقة بين «الحياة عاريةً» و«الحياة المخصوصة» نجد آثارها عند أرسطو في «كتاب السّياسة»، و«الحياة المخصوصة» إنّما هي مخصوصة سياسيّاً. فالمجتمع البشري يتميّز عن سائر الكائنات بأنّه ينهض على زائد سياسيّ مرتبط باللّغة، وعلى قيم الخير والشّرّ، والعدل والظّلم، لا على اللّذّة والألم فحسب. فلفظ السّياسة عند أرسطو ليس صفة تطلق على كلّ كائن حيّ، وإنّما هو لفظ يدلّ على فارق نوعيّ يتحدّد به النّوع البشريّ. وإن كان فوكو قد اتّكأ على هذه التّفرقة الأرسطيّة في آخر فصل من كتابه «إرادة المعرفة» فليبيّن أنّ الحياة الطّبيعيّة (أو الحياة عارية، بتعبير آقمبن) في عتبة العصر الحديث قد بدأت تندمج في آليات سلطان الدّولة وحساباته، فانقلبت السّياسة إلى «سياسة حياة». ذلك أنّ «الإنسان قد ظلّ خلال آلاف السّنين على ما كان عليه عند أرسطو حيواناً حيّاً وقادراً على الوجود السّياسيّ، أمّا الإنسان الحديث فهو حيوان قد أضحت سياسة حياته بوصفه كائناً حيّاً موضعَ سؤال». وبهذا الانتقال من السّياسة إلى «سياسة حياة» نقف على واحد من أهمّ منعرجات التّفكير السّياسيّ عند فوكو. وهو منعرج يمكن تنزيله عموماً ضمن بحوثه المتعلّقة بممارسة السّلطان، ولكنّه منعرج ينهض هذه المرّة على فرضيّة «سلطان الحياة». فمنذ 18 ق. م، أو منتصف هذا القرن على وجه التّحديد، أضحت حياة النّوع البشريّ رهانَ الإستراتيجيّات السّياسيّة. وهو رهان على حياة أجساد الأفراد بوصفهم موضوعاً للتّشريح السّياسيّ. ومن ثمّة أصبح السّؤال يخصّ التّطوّرات البيولوجيّة المؤثّرة في السّكّان تأثيراً قد اقتضى تعديلا بوساطة سلطان معدّل هو ما سمّاه فوكو بكلّ بساطة بـ «سياسة الحياة». وتدشّن هذه التّسمية سلسلة من الأسئلة تتعلّق بفرضيّة «سلطان الحياة» بصفة عامّة، وبالكيفيّة الّتي يحدّد بها كلّ لفظ من لفظي «سلطان/‏‏ الحياة» الآخر بصفة خاصّة. فما هي هذه الحياة المتضمّنة في السّلطان؟ هل هي حياة متعلّقة بالجسد بوصفه موضوعَ اختصاصات ومراقبات؟ أم هي قوّة عمل؟ أم هي حياة بيولوجيّة (حياة المريض أو السّكّان)؟ أم الحياة عارية، تلك الّتي نذرت للموت من غير عقاب (الإنسان المقدّس)؟…
السلطان مفهومه وآلياته
على هذا النّحو يمكن أن نرى كيف تحوّرت بنية السّلطان بدخول الحياة في حقله ومجاله ومشاغله. بيد أنّه ينبغي أن نفهم من هذا التّحوير في بنية السّلطان تحويرين آخرين يخصّ الأوّل الطّريقة الّتي يمارس بها السّلطان ويبذل للرّؤية، ويتعلّق الثّاني بالطّريقة الّتي ينبغي أن نفكّر بها فيه. ولأجل ذلك تقتضي فرضيّة «سلطان الحياة» إعادة تعريف السّلطان، ومساءلته بطريقة مختلفة للإحاطة بتكنولوجياته الجديدة. ويدعونا هذا إلى أن نتابع تحليل هذه الفرضيّة في اتّجاهين متكاملين، يعتني الأوّل بإظهار الصّيغة الجديدة في ممارسة السّلطان، ويهتمّ الثّاني بإبراز جدّة المقاربة الّتي اقترحها فوكو في معالجة السّلطان في «عتبة الحداثة البيولوجيّة» للمجتمع.
1 ـ نحتاج ها هنا إلى أن نستعين ببعض دروس فوكو الّتي ألقاها بـ (الكوليج دو فرانس) لإظهار هذه الصّيغة الجديدة في ممارسة السّلطان. ففي دروس سنة 1976 الّتي صدرت بعنوان «ينبغي الدّفاع عن المجتمع»، خصّص فوكو الدّرس الأخير من هذه السّنة بتاريخ 17 مارس 1976 للحديث عن فرضيّة «سلطان الحياة». وقد انطلق من فكرة أنّ شكل الحرب قد تغيّر خلال القرن 18، فأصبحت حرب أَعْرَاق. وقد بيّن أنّ مفهوم الحرب قد أقصي من التّحليل التّاريخيّ بوساطة مبدأ الكونيّة الوطنيّة، ولكنّه أبقى من جهة أخرى على موضوع العِرق ليوظّف في تحليل عنصريّة الدّولة. ولتوضيح مولد عنصريّة الدّولة اضطرّ إلى الحديث عن «سلطان الحياة» من خلال اهتمام السّلطان السّياسيّ بالإنسان بما هو كائن حيّ. وهذا الاهتمام هو ضرب من ضروب دولنة البيولوجيّ. ولكن للحديث عن دولنة البيولوجيّ هذه توجّب الحديث عن النّظريّة الكلاسيكيّة في السّيادة. وهي نظريّة تنهض على حقّ الحياة والموت. ويعني هذا الحقّ أنّ الملك يمتلك حقّ الإحياء والإماتة. ويسمّى هذا الحقّ بحقّ السّيف. وفي الواقع ليس للملك سوى حقّ القتل، إلاّ أنّ سلطانه على الحياة لا يمارس إلاّ متى استطاع أن يقتل.
ولاحظ فوكو أنّه حدث في هذا الحقّ تحوّل كبير يعتبره أحد التّحوّلات الكبرى في الحقل السّياسيّ. ففي القرن الـ19 تأسّس حقّ جديد هو حقّ الإحياء بعد أن كان حقّ السّيادة يقوم على حقّ السّيف في الإماتة والإحياء. غير أنّ فوكو لم يتابع هذا التّحوّل على صعيد النّظريّة السّياسيّة، وإنّما تابعه على مستوى آليات السّلطان وفنونه وتكنولوجيّاته. ففي القرن الـ17 ظهرت تقنيات السّلطان الجديدة المتمركزة أساساً على الجسد، والجسد الفرد بصفة أدقّ. وتتمثّل في سلسلة من العمليّات يجري بواسطتها توزيع أجساد الأفراد مكانيّاً لمراقبتهم وتنظيم حقل الرّؤية بشكل شامل. فبهذه التكنولوجيّات الانضباطيّة يمكن ترويض الأجساد وتقويتها أيضاً. وهي تكنولوجيّات قد درسها فوكو في كتاب «المراقبة والمعاقبة». ولكن خلال منتصف القرن الـ18 ظهرت تكنولوجيا سلطان أخرى «ليست انضباطيّة هذه المرّة. تكنولوجيا لا تقصي الأولى، ولا تقصي التقنية الانضباطيّة، وإنّما تحتويها وتدمجها وتعدّلها جزئيّاً، وبصفة خاصّة، تستعملها…» أنظر المقال: (ينبغي الدّفاع عن المجتمع، .ص 215 -216).
ويرى فوكو أنّ هذه التقنية الجديدة للسلطان غير الانضباطيّة تجرى على حياة النّاس، بخلاف تقنية الانضباط الموجّهة أساساً إلى الجسد، بل هي لا تتّجه إلى «الإنسان الجسد» وإنّما تتوجّه إلى «الإنسان الحيّ»، وفي أقصى الأحوال هي موجّهة إلى «الإنسان النّوع». (ينبغي الدّفاع عن المجتمع، ص216).
2 ـ إنّ دراسة الآليات الخاصّة بسلطان الحياة لا يمكن أن تجري وفق مقاربة تقليديّة عن السّيادة. فأسئلة من قبيل: هل الحياة بالفعل حقّ من حقوق السّيّد؟ أليست الحياة هي الّتي تؤسّس حقّ السّيّد؟ هل يمكن للسّيّد أن يطالب رعاياه بحقّه في أن يمارس عليهم سلطان الإماتة والإحياء؟ وما سواها من الأسئلة إنّما هي أسئلة يثيرها جدل الفلسفة السّياسيّة، وينبغي أن تطرح جانباً، ولكنّها تدلّ من جانب آخر على أنّ مشكلة الحياة بدأت تطرح على نحو إشكاليّ في حقل التّفكير السّياسيّ ومجال تحليل السّلطان السّياسيّ. ولذلك يقترح فوكو أن يتابع هذا التّحوّل في بنية السّلطان لا في مستوى النّظريّة السّياسيّة، وإنّما في مستوى الآليات والتّقنيات والتّكنولوجيّات. وبهذا المعنى يتخلّى فوكو عن نظريّة السّيادة والحقّ لدراسة تكنولوجيّات السّلطان الّذي نجده ماثلا في قوانين الحقوق والسّيادة، وإن كانت هذه القوانين تحجب الصّيغ الجديدة في ممارسة السّلطان. فالمطلوب في هذه الحالة هو فهم جديد للسّلطان. وهذا الشّرط قد صاغه فوكو على نحو خاصّ في إرادة المعرفة.
وموضوع هذا الكتاب الأساسيّ لا يتعلّق بسلطان الحياة وإنّما بالفرضيّة القمعيّة «هل آلية السّلطان من نسق قمعيّ؟». إنّ السّؤال الّذي يريد فوكو التّخلّص منه هو السّؤال القانونيّ القضائيّ الخطابيّ الّذي يحصر السّلطان في صيغ القمع والمنع وفق شكل سلبيّ. فالسّلطان عند فوكو هو آليّة إيجابيّة لأنّه يرمي إلى تكثير الحياة والزّيادة من كثافتها. يقول: « إنّنا نظلّ مشدودين إلى صورة ما عن السّلطان ـ القانون، السلطان ـ السّيادة، الّذي صاغه منظّرو الحقوق. ومن هذه الصّورة ينبغي أن نتحرّر، أي أن نتحرّر من الامتياز النّظريّ للقانون والسّيادة إن أردنا القيام بتحليل للسّلطان داخل الممارسة الملموسة والتّاريخيّة لطرائقه. ينبغي تشييد تحليليّة une analytique للسّلطان لا تتّخذ البتّة من الحقوق منوالا وقانوناً « (فوكو، إرادة المعرفة، ص 118-119). وبصفة عامّة بيّن فوكو الطّابع غير المتطابق للقانون القضائيّ السّياسيّ في الإحاطة على نحو خاص بممارسة السّلطان بما أنّ هذا القانون هو ذاته القانون الّذي بواسطته يجري تمثيل السّلطان ويُملي بنفسه كيف نفكّر فيه. يقول فوكو: « وإن صحّ أنّ القضائيّ le juridique قد أمكن استخدامه ليمثّل دون شكّ تمثيلا غير شامل سلطاناً قد تركّز أساساً على الأخذ والإماتة فإنّه قد أضحى مغايراً تمام المغايرة لطرائق السّلطان الجديدة الّتي تشتغل بالتّقنية لا بالحقوق، وبالتّنميط لا بالقانون، وبالمراقبة لا بالمعاقبة، وهو يمارس في مستويات وأشكال تتجاوز الدّولة وأجهزتها. لقد انخرطنا الآن منذ قرون في نمط من المجتمع، حيث قلّ شيئاً فشيئاً إمكان أن يقنّن القضائيُّ السّلطان أو أن يخدمه بأن يكون له جهاز تمثيل» (فوكو، إرادة المعرفة، ص 118). فالبحث عن السّلطان ينبغي أن يجري خارج مجاله التقليديّ، وبعيداً عن آلياته المعهودة، تلك التي مثّلته أو جرى تمثيله بها.
بيد أنّ تحليل فرضيّة «سلطان الحياة» سيكون مبتوراً لو اقتصرنا على وجه واحد منها ذاك الّذي يتعلّق بتحسين الحياة ومضاعفة حظوظها وإطالة الأعمار واستبعاد الحوادث وتعويض الخسائر والعجز. فقد أظهرت الممارسة مفارقات خاصّة عندما أصبحت الدّولة تستعمل القنبلة الذّرّيّة لقتل مئات الملايين من الأفراد. فالسّلطان الضّامن للحياة لم يعد بمقدوره أن يضمن الحياة الّتي أوكلت إليه منذ القرن الـ19.
يمكن أن نتساءل كيف أصبحت وظيفة «سلطان الحياة» مزدوجة تمارس حقّ القتل ووظيفة القتل في نظام سياسيّ يفترض أن تكون وظيفته الأساسيّة تنمية الحياة وتعهّدها وتوفير حظوظ استمرارها؟
يضرب فوكو لإيضاح هذه المفارقة بعض الأمثلة منها مثال العنصريّة. فبعد أن تعرّض فوكو في بداية الدّرس (بتاريخ 17 مارس 1976) لحرب الأعراق وعنصريّة الدولة يبيّن في الفقرات الأخيرة أنّ العنصريّة قد زرعت في آليات الدولة لمّا انبثق «سلطان الحياة»، فأصبحت آلية أساسيّة من آليات السّلطان، بحيث أنّ عمل الدّولة الحديثة لا ينجز إلاّ بالعنصريّة بما هي وسيلة قد أحدثت قطيعة في الحياة ذاتها بين من يحقّ له أن يحيا، ومن ينبغي له أن يموت، وأحدثت كذلك تجزئة في الحقل البيولوجيّ وذلك بتمييز الأعراق بعضها عن بعض (أعراق راقية وأعراق وضيعة)… والمهمّ في العنصريّة أنّها ليست علاقة حربيّة أو عسكريّة، وإنّما هي علاقة بيولوجيّة. فهي آلية إذا ما استخدمت صار بمقتضاها العدوّ الّذي ينبغي القضاء عليه لا يمثّل الخصم بالمعنى السّياسيّ التّقليديّ وإنّما هو الخطر الخارجيّ والدّاخليّ الّذي يهدّد حياة السّكّان. فليس الأعداء من هذا المنظور منافسين سياسيّين وإنّما هم أعداء بيولوجيّون. ولا ينبغي أن نرى في موت العدوّ ضماناً لحصانتنا، وإنّما هو إبادة عرق فاسد يجعل موته حياة العرق الباقي أسلم وأنقى. فالعنصريّة في تصوّر فوكو هي شرط ليكون القتل مقبولا في مجتمع معياريّ. فـ «سلطان الحياة» لا يوجد إلاّ في مجتمع معياريّ، يوجد بوجوده، فتغدو العنصريّة الشّرط الذي يسمح بقتل فرد أو شخص أو إماتة الآخرين. وبهذا المثال نقف على ما في «سلطان الحياة» من مفارقات في طرائق اشتغالها تقتضي في كلّ الأحوال إعادة التعريف بآليات السّلطان في الدولة الحديثة ومقاربتها بطرق مختلفة.

دروس
ولعلّ أهمّ ما ينبغي الخروج به من هذا العرض المختصر لفرضيّة «سياسة الحياة» هو أنّ هذه الفرضيّة لا تمثّل منعرجاً هامّاً في تفكير فوكو السّياسيّ فحسب، وإنّما هي قد أسّست لأنموذج جديد في برنامج التّفكير السّياسيّ بدأت الأبحاث في نطاقه تطالعنا يوماً بعد يوم. يكفي في هذا السّياق أن نذكّر بأعمال الفيلسوف الإيطاليّ جيورجيو آقمبن الذي اقترح أن يكمّل مشروع فوكو في مجال «سياسة الحياة» بفتحه على أعمال حنّة أرندت التي اشتغلت بعد الحرب العالميّة الثانية على أنظمة الدولة الكلّيانيّة. ويبدو أنّ تطبيقها قد تجاوز إطار المعتقلات القديمة، وطال ظواهر جديدة معاصرة. فالمعتقل، وهو ناموس الحداثة وبراديغم البيوسياسة الحديثة، قد تجلّى اليوم في التحوّلات التي ما فتئت تصيب الفضاء العموميّ، فقلبته إلى «مناطق انتظار» في المطارات، ومناطق خطرة في بعض ضواحي المدينة، وملاجئ، وسجون، ومدن محاصرة، وهي تصيب في الآن نفسه عدداً هائلا من سكّان المدن، والنّفوس البشريّة حينما تنقلهم نحو خطوط انفلات جديدة.
العنصريّة زرعت في آليات الدّولة لمّا انبثق «سلطان الحياة» فأصبحت آلية أساسيّة من آليات السّلطان بحيث إنّ عمل الدّولة الحديثة لا ينجز إلاّ بالعنصريّة

حق الحياة
إن حق الحياة والموت، بشكله الحديث النسبي والمحدود، كما بشكله القديم والمطلق، هو حق لا متماثل. فالسلطان لا يمارس حقه بشأن الحياة إلا باستعمال حقه في القتل أو بالاحتفاظ به، لا يعبر عن سلطته على الحياة إلا بالموت الذي هو قادر على فرضه. إن الحق المعبر عنه بصيغة «الحياة والموت» هو في الواقع حق القتل أو الإبقاء على الحياة. والسيف هو رمزه في النهاية. لعلّه ينبغي أن نعزو هذا الشكل القانوني إلى طراز مجتمعي تاريخي معين، حيث كانت السلطة تمارس أساسياً كسلطة اقتطاع وأخذ، وكآلية اختلاس، وكحق اغتصاب جزء من ثروات الرعايا، ومفروض عليهم، وسلب منتجاتهم وممتلكاتهم وخدماتهم وعملهم ودمهم. في ذلك المجتمع، كانت السلطة قبل كل شيء حق استيلاء: على الأشياء والوقت والأجساد، وأخيراً على الحياة. وكانت تبلغ أوجها في امتياز الاستيلاء على هذه الحياة من أجل إزالتها.
إرادة المعرفة، الفصل الخامس
ص (138 -139)
حروب حيويّة!
لم يحدث أن كانت الحروب أشد دموية منذ القرن التاسع عشر، كذلك لم يحدث قط أن مارست الأنظمة (الحاكمة) قبل هذا التاريخ ضد شعوبها مثل هذه المذابح، مع مراعاة الفوارق بينهما طبعاً، لكن سلطة الموت الهائلة هذه – ولعلّ هذا قد يمنحها جزءاً من قوتها، ومن الصلافة التي بها وسعت حدودها إلى هذا القدر – تظهر الآن كجزء متمم لسلطة تمارس إيجابياً على الحياة، وتحاول أن تديرها وتزيد قيمتها وتكثر منها، وتمارس عليها مراقبات دقيقة، وضوابط شاملة. لم تعد الحروب تشن باسم السلطة التي يجب الدفاع عنها، بل تخاض باسم وجود الجميع، تحرَّضُ شعوب بأسرها على التقاتل باسم ضرورة بقائها على قيد الحياة.
إرادة المعرفة، الفصل الخامس
(ص: 139 – 140)
تحوّلات الموت
حلّت محل الحق القديم في فعل القتل، أو الإبقاء على الحياة، سلطة الإحياء أو فعل ردِّه إلى الموت. ربما هكذا يفسر الحط من شأن الموت الذي يدلّ على البطلان الحديث للطقوس التي كانت ترافقه. إن الاهتمام المبذول من أجل تجنب الموت لا يرتبط بقلق جديد لا تطيقه مجتمعاتنا بقدر ما هو متعلق بكون الإجراءات السلطوية لا تكف عن تجاهله. فمع الانتقال من عالم إلى آخر، كان الموت هو إبدال سيادة أرضية بأخرى، أقوى منها بكثير؛ والأبهة التي كانت تحيط بالقتل هي جزء من المراسيم السياسية. أما اليوم، فحول الحياة وطوال سياقها، تُحكم السلطة من قبضتها؛ الموت هو حدّها واللحظة التي تفوتها؛ لقد أصبح النقطة الأكثر سرية من الوجود، والأكثر «خصوصية».
_______
*الاتحاد

شاهد أيضاً

العولمة بين الهيمنة والفشل

(ثقافات) العولمة بين الهيمنة والفشل قراءة في كتاب “ايديولوجية العولمة، دراسة في آليات السيطرة الرأسمالية” لصاجبه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *