*سعيد يقطين
كما نفكر أو نشتغل وقت العمل، نشتغل أو نفكر حين نأخذ العطلة أو الإجازة، إذ يتعلق الأمر بتنظيم الوقت أو استثمار الزمن.
وحين لا تكون عندنا رؤية محددة ودقيقة للزمن يتساوى عندنا زمن العمل وزمن العطلة، فيتداخلان إلى حد أننا في إجازة حتى ونحن نعمل. ولكننا مع ذلك نأبى إلا اعتبار الإجازة إجازة، فنحب الحديث عنها، ونفرح لها، وكأننا قتلنا وقت العمل قتلا، وليس وراءنا سوى التفكير في الاستراحة التامة لنستعيد «نشاطنا» للعودة إلى العمل «الجاد» و»المضني».
أتذكر، الآن، وأنا ألاحظ كيف يتم التعامل مع العطلة في وطننا العربي، كيف كنا نتعامل معها. كنت أحمل معي، منذ أن كنت طالبا العديد من الكتب المتنوعة إلى أي مكان أسافر إليه، بحيث يكون حمل الكتب أكثر من الملابس. ومتى ظهرت مجلة أو كتاب جديد بادرت إلى شرائه، والشروع في قراءته. استغنيت عن الكتاب مع ظهور الحاسوب، وأصبحت الكتب أكثر تنوعا وعددا.
وفي العطلة الصيفية كنت أتعرف على مواد مقرر السنة المقبلة، وأشتري من الرصيف والأسواق الشعبية الكتب التي تتصل به، فأجدني في الموسم الدراسي ملما بكل ما يطلب منا.
كان الأمر كذلك، وما يزال، في مدارس البعثات الأجنبية في المغرب، وفي بعض شعب اللغات، حيث تحدد للطلبة المصادر التي سيتعاملون معها في العام المقبل، في نهاية الموسم الدراسي الحالي. أما في شعب اللغة العربية، فالطالب عندنا لا يبدأ في البحث عن كتب المقرر إلا في بداية السنة الدراسية؟ لأننا لم نعوده على التعامل مع العطلة على أنها فرصة لقراءة ما لم تتح له قراءته وقت الدراسة. ومع ذلك لا نجده متصلا بعواملها، متعرفا على محتوياتها حتى خلال السنة، بل إن تلاميذ البكلوريا، لا يقرأون الروايات المقررة عليهم إلا من خلال الدراسات الموازية؟
عندما كان أبي يراني منهمكا في كتاب كان أبدا يتساءل هل يمكن للمرء أن يقرأ، وهو في عطلة؟ وما يزال بعض الأقارب أو المعارف حين يلمحونني أحمل كتابا، أو أمام الحاسوب في البيت أو المقهى، يتساءلون متعجبين: أو تشتغل في صباح الأحد وحتى في العطلة أو عصر يوم العيد؟ وكل ذلك يعني بعبارة واحدة أن هناك تمييزا بين العمل والإجازة حين يتعلق الأمر بالقراءة، أو الكتابة في لاوعينا. ويكفي أن نرى كيف يتصرف المسافر الأجنبي، والعربي، لنرى الأول في أي مكان، حتى وهو مسافر، ينتهز فرصة استقراره في أي مكان ليفتح كتابا، وهو على متن طائرة، أو على شاطئ. أما العربي فلا يزال يرى نفسه في عطلة، وعليه أن يستمتع بها كاملة غير منقوصة.لكن الأمر يختلف مع العرب القدماء الذين كانوا يستريحون من الكتاب بالكتاب.
وتقدم لنا كتب المحاضرات نماذج دالة على ذلك، حيث كانوا يعتبرون قراءة هذا النوع من الكتب، من باب الترويح عن النفس من الجهد الذي يستدعيه التحصيل الجاد والحفظ الدائم. وتروي لنا كتب التراث أخبارا عن أحمال الكتب التي كانت تصاحب بعض الرجالات في حلها وترحالها.
لم تكن عند العرب في أزهى عصورهم وسائل الترفيه الموجودة في العصر الحديث، ولذلك يمكن عد مشاهدة شريط سينمائي أو الذهاب إلى معرض أو عرض مسرحي، اليوم، مثل تعامل القدامى مع الكتاب. لكن السؤال الذي يمكن أن يطرح هو: كيف يمكن أن نتعامل مع هذه الفضاءات التي نذهب إليها في العطلة، إذا لم نستفد منها على الوجه الأحسن الذي ينمي ملكاتنا ويطور معارفنا؟ بل إن سؤالا آخر يفرض نفسه علينا، وهو كيف تمارس الثقافة عندنا في الصيف؟ فباستثناء بعض المهرجانات التي يمكن أن تقع هنا أو هناك، نجد الممارسة الثقافية شبه معطلة هي أيضا.
يمكن قول الشيء نفسه عن الشاعر والسارد، أو الرسام أو الباحث، فعندما يخرج أي منهم إلى السوق للتنزه، تجده يقرأ الملامح، وينتبه إلى تفاصيل سلوك الناس ولغاتهم، ولا يفوّت الرسام فرصة للانتباه إلى الفضاءات أو الأشخاص الذين يثيرون مخيلته، أو اللساني وهو يستمع إلى الرطانات واللغو الذي يملأ الشارع. كما أن الروائي يجد في ملامح الناس وصورهم ما يغذي حساسيته الوصفية.. فهل يمكن الحديث عن العطلة بالنسبة للمبدع أو الباحث في أي اختصاص؟ من هذا المنظور يمكن أن نفهم قول بعض الكتاب عندما يختصر حياته في الكتابة، وهو يعتبر الحياة بالنسبة إليه هي الكتابة.
ليست الحياة المنشغلة بهمّ مقتصرة على الكُتاب أو الفنانين. فكل إنسان، كيفما كان عمله، حتى وهو في عطلة في أمس الحاجة إلى التزود بمعارف جديدة تضاف إلى رصيده وتجربته. ولعل الكتاب، ورقيا أو إلكترونيا أو رقميا، إضافة إلى مختلف الوسائط، من أهم تحصيل المعارف الضرورية لإثراء الحياة والتجربة الإنسانية، لذلك فالتمييز بين العمل والعطلة في تقاليدنا وتصوراتنا لا يمكنه إلا أن يجعل حياتنا موسومة بالركود والجمود.
إننا لا نستريح من العمل، بل بآخر يمكننا تجديده وإثراؤه وتطويره.
________
*القدس العربي