* يوسف ضمرة
يشدد الروائي الكبير، عبدالرحمن منيف، على كلمات لها دلالات ومفاهيم مغايرة لمفهوم البطولة، إنه يتحدث عن الصدق والجرأة، ثم يشير إلى أننا بحاجة إلى كثير من الدم للوصول إلى الديمقراطية، ويؤكد أن موضوع الصدق نسبي.
واللافت هنا هو أن موضوع الجرأة نسبي أيضاً، ولكن منيف لا يذكر ذلك، فثمة فرق بين التهور والجرأة، والذين يقومون بعمليات انتحارية ليسوا جريئين كما قد يتوهم البعض، بمقدار ما هم مرضى، أو مصابون بعمى أيديولوجي، أو عطب في ميكانيزمات العقل البشري.
حين ننكر البطل، فإن علينا أن ننكر البطولة، لكننا حين نؤكد الجسارة فإننا نؤكد وجود الجسور. لكن إذا كان الصدق نسبياً، والجسارة نسبية، فلماذا نصر على إنكار البطولة، واستبدال مفاهيم أخرى بها؟ لماذا لا نقول إن هناك بطولة أيضاً، ولكنها نسبية؟
السبب كما أظن ـ وليس كل الظن إثماً ـ هو أن مفهوم البطولة يلغي إلى حد كبير دور الجماعة، حتى لو كان أثرها موجوداً في البطل. أي أن منيف الذي عايش الاستبداد العربي بصنوف شتى، يرغب في منح الجماعة دوراً أكبر من دور الفرد. لكننا حين نقارن بين رغبته هذه وتوقه إلى الديمقراطية، وتركيزه على الجماعة، وبين أبطاله الروائيين، نكتشف أن للبطل الروائي هالته المميزة والخاصة. حتى في شرق المتوسط، وشرق المتوسط مرة أخرى، الروايتين اللتين تعريان الاستبداد العربي وتهجوانه، نعثر على شخصية مميزة ـ بطولية بشكل أو بآخر ـ لأنها قادرة على الصمود في وجه الجحيم.
لكن البطل الحقيقي عند منيف يتمثل في «متعب الهذال» الشخصية الرئيسة في «التيه»، الجزء الأول من رواية مدن الملح، وفي إلياس نخلة بطل رواية الأشجار واغتيال مرزوق.
فإلياس نخلة لا يعبر عن أحلام الجماعة، بمقدار ما يقدم رؤية جديدة للحياة، قوامها المغامرة والجسارة والحب. فهو لم يقاتل أحداً ولم يهزم جيوشاً مثل عنترة العبسي، لكنه يتجسد بطلاً إنسانياً شديد الحساسية تجاه الحياة وقيمها ومفاهيمها وهواجسها. وهو يذكرنا بأبطال آخرين مثل هكتور عند هومير، وزوربا، وكنكان العوام.
لم يكن هكتور يود أن يدخل الحرب، وهو لم يشارك منذ البداية، لكنه حين رأى أن جيش إسبارطة على وشك اقتحام المدينة (طروادة) اضطر إلى التدخل ومنع العدو من اجتياح طروادة، إلى أن قام أوديسيوس بلعبته المتمثلة في حصان طروادة الخشبي!
لكن الأكثر أهمية شخصية مثل الشنفرى، الذي خلع نفسه من القبيلة، وهدم المعمار السائد في القصيدة العربية، التي كانت تمثل حينها أسياد القبيلة، وتحفظ هيبتهم وتثبت نفوذهم وتقويه.
يبدو مفهوم البطل والبطولة مرادفاً للخلاص في ثقافتنا العربية، بل وربما في الثقافة البشرية. وهو مفهوم شعبي أكثر منه مفهوماً علمياً بالطبع. إنه مفهوم يعيد إنتاج أفكار المتلقي الذي يعثر على نفسه في مفهوم كهذا.
يشير الروائي، عبدالرحمن منيف، إلى ما يقوم به الفقراء والمسحوقون في مواجهة المعاناة البشرية والانتصار عليها، أو التصدي لها. وهي إشارة جميلة ومهمة قطعاً، لأنها تنقل مفهوم البطل والبطولة من المربع النمطي إلى الدائرة الإنسانية الأوسع والأكثر شمولاً. نعم، فالمرأة المسحوقة التي تسعى لتوفير لقمة العيش في مجامعنا لأطفالها المعدمين، تمثل البطولة عن جدارة، وتستحق لقب «البطل»، من دون أن تحمل سيفاً أو تقوم بحز رقاب الآلاف في اليوم الواحد، على غرار عنترة / الأكذوبة «البطولية» شعبياً وتاريخياً!
____
الإمارات اليوم