*محمد مراد أباظة
خاص ( ثقافات )
الشمس، في ذلك النهار الملتهب، كانت تشوي كلَّ نسمة تهبُّ من أية جهة قبل أن تطيِّب خواطر من ازدحمت بهم منفسحات العاصمة وشوارعها واضطرتهم أقدارهم إلى تأجيل سباتهم الصيفي.
وكان ثَمَّةَ حشدٌ جماهيريٌّ عرمرم في مجمَّع من مجمَّعات انطلاق ميكروباصات السرفيس يتأفَّف، ويتململ، و”يتفلفل ويتحرقص” منتظراً وهو يتقلب بضجر قاتل على جمر الظهيرة، في حين خلا المكان مِمّا “يكرجُ” على أربع.
وكنتُ هناك أنتظر مثلهم، حالماً بساعة الوصول إلى البيت، وممنيّاً النفس بحمّام ماء بارد.
وبعد انتظار شبه يائس، لوقتٍ كان يعبر كسُلَحْفاة عجوز محمومة تجرُّ نفسّها لاهثةً، أقبل نحو الجمهور ميكروباص شبهُ متهرّئ تُشيرُ لوحتُه الاسمية إلى الجهة التي أقصِدها، ويقصِدها الكثيرون غيري.
وعلى الفور، ودون إشارة بَدْء، اندفع الجحفل المنتظر تلقائيّاً في هجوم كاسح نحو الميكرو، تقود أفرادَه غريزةُ بقاء أزليّة، وتعكس جاهزيّتُهم البدنيّة تمرُّسَهم بمثل تلك المهامّ المصيريّة، وتترجم سرعتُهم في الاندفاع معنوياتِهم القتاليّة العالية، تحت شعار ما تغنّى به المرحوم فهد بلان ذات يوم قائلاً: “إمّا قاتل أو مقتول”، وبِوَحْيِ حكمة مفتَرَضة تقول: “ميكرو تحت الأنظار ولا عشرة في علم الغيب”.
إذ ذاك، وعلى الفور ودون أيِّ تردُّد، اتَّخذتُ قراراً قطعيّاً لا تراجع عنه بعدم التفكير مطلقاً في مغامرة الانخراط في معمعة “الطَّحْش والتدفيش والنَّعْر واللَّكْز واللبط والترفيس” التي يُحييها محترفو تلك الرياضات الملحمية من روّاد النقل الدّاخلي في مثل هذه الأولمبيادات اليومية التقليدية، على الرغم من أنوفهم طبعاً، وإنْ ترتَّب على قراري ذاك سَلْقي، فيما بعد، وأنا “أُلعبط” في مِرجل الظهيرة الجهنَّمي.
فأنا، بيني وبينكم، لستُ من المؤَهَّلين بدنيّاً على الإطلاق لخوض غمار مثل تلك المعامع، لقناعتي الثابتة بأهمّية ما لماضي الشخص وحاضره الرياضي المشرِّف من فوائد تتجلّى في مثل هذه المواقف. وإذا كان خبراء الرياضة وعباقرتها قد صنَّفوا أوزان الملاكمين في قائمة تشمل مثلاً: وزن الديك ووزن الريشة ووزن الذبابة ووزن الصرصور ووزن ما لا أدري… وبما أنني أقبع خارج قائمة كلِّ تلك التصنيفات، فلن تسعفهم عبقريتُهم في اختيار حشرة تكون رمزاً يمثِّل وزني إنْ “طجّتْ في رأسي” ففكَّرت يوماً في خوض تجربة الملاكمة أو ما شابهها من الرياضات.
باختصار أنا هيكل عظميّ لا يصلح إلاّ وسيلةَ إيضاح لطلاب الطبّ، أيْ.. إنني بضع قطع عظميّة هشّة تخشخش وتقرقع في كيس جلديّ مجعَّد. فلو رأيتموني لحسبتموني أحدَ أتباع غاندي النباتيين أو مخلوقاً ممن نجوا بأعجوبة من مجاعةٍ ما من تلك المجاعات التي تنتشر على هوامش الديمقراطيات الديجيتالية. ولكي ينطبق عليَّ المثلُ القائل: “فوق الموتة عصّة قبر” جاء قصر قامتي تتويجاً لمحنتي الهيكليّة.
فهبَّة ريح متوسطّة القوة قد “تشلفني مثل رغيف التنّور” إلى مسافة بضعة أمتار، و”نَعْرة على الماشي” من يد أحد محترفي “المطاحشة” على أبواب وسائط النقل العامّة وكوى الأفران قد تكون كافيةً لِبَعْج كِرشي أو سحق قفصي الصدري. فكيف أغامر إذاً، وأخاطر، فأُلقي بنفسي إلى التهلكة؟ لكنني أعترف بأنني لم أُوَفَّق في اختيار الثغرة الآمنة التي سأنسحب عبرها تكتيكيّاً لتفادي سيل المندفعين الهادر.
وتحت وطأة الهجوم الخاطف المباغت الذي شُنَّ عليَّ من الجبهات كافَّةً وجدتُ نفسي فجأةً وسط لُجِّة بحرٍ بشريٍّ عاتٍ، فجرفتني تيّاراتُه، مسيَّراً لا مخيَّراً، باتجاه باب الميكرو الأمامي المفتوح والمدرّعات الجسديّة تكاد تهرسني.
وفي ثوانٍ كان حظّي قد حشرني جلوساً على نصف مؤخّرة، وضمن حصار حديديّ، بين راكبٍ من الوزن الثقيل وسّائق لا يقلُّ عنه وزناً. وعندما حانت مني التفاتة عفوية نحو السائق فوجئت بوجهه الذي بدا، مع عدم الاعتراض على حكمة الله وشؤونه في خَلْقه، “مُمَكيَجاً” بطبيعته، وكأنَّ “ماكييراً” عبقريّاً انتهى للتوّ من تهيئته للعب دور “زومبي” من “زومبيّات” أفلام الرعب الأمريكية. وكان الوجهُ ذاك قادراً على أن يبثَّ فيك، فور نظرك إليه أو نظره إليك، نوعاً من الذعر البدائيّ كما لو كنتَ إنسانَ ما قبل التاريخ في مواجهة قوّة جبّارة غامضة.
وكان “الزومبي”، يصرخ بالمندفعين بصوته العريض الأجشّ:
“لَكْ.. يا عالَم، يا خَلْق، على مهلكم ستقتلعون الباب. البارحة دفعْنا ما فتح ورزق لإصلاحه.. لَكْ.. هل طارت الدنيا؟”.
ثم يشتم اليومَ الذي اشتغل فيه سائقَ ميكرو، ويلعن مَن اخترع أوَّلَ سيّارة، متحسِّراً على أيّام “الطنابر” والبغال والحمير.
“لَكْ.. هناك بشر ليسوا أهلاً لركوب السيارات، الطنابر كثيرة عليهم..؟”.
ولم يكن المندفعون يهتمّون بتلك الإهانات الموجَّهَة إليهم مباشرة، فقد كان همُّهم الأوَّلُ والأخيرُ أن “يلتحشوا” داخل الميكرو.. ولْيحدث بعد ذلك ما يحدث.
وخلال ثوانٍ انحشر في جوف الميكرو عددٌ لا يتناسب مع عدد مقاعده الأُرجوحيّة “المخلخعة”، وتحوَّل إلى “ميكرو… ويف” تُطبَخُ فيه أجساد المنحشرين جلوساً وقرفصاءَ وانحناءً والتواءً على بخار الأنفاس وحرارة الجو الخانقة وهي تعوم في عَرَقها، وعبيرُ وقود نفّاذة “يُبهِّرُها”، والجميع سعداء مطمئنّون إلى كونهم قد قطفوا ثمرة انتصارهم في واحدة من أهمِّ معاركهم اليوميّة”.
وهدرَ محرّك الميكرو مُحْدِثًا هزّاتٍ ورَجّاتٍ وقرقعاتٍ وقعقعات وفرقعاتٍ متتالية، وانطلق بقدرة قادر مطلقاً نهيقاً يشبه إلى حدٍّ ما صوت ما يُفتَرَض أنه بوق سيارة، وهو يتزلزل قطعةً قطعةً بـــــــ”كذا” درجة على مقياس (ريختر)، حتى توقَّعتُ، كما توقَّع الباقون ربما، أن تنفرط تلك القطع، وتتناثر أشلاؤها بعد مسيرة مئة متر على أبعد تقدير، ولكن كرامةً لعيون المطبوخين الحالمين بالوصول إلى بيوتهم، كانت العنايةُ الإلهيّة وحدها تقود المركبة الخرافيّة.
ومنذ انحشار المخلوقات البائسة في جوف الميكرو لم يكفّ السائق المرعب عن الصياح والبعيق. وما زاد الطينَ “قطراناً” أنَّه دَسَّ في آلة التسجيل شريط كاسيت لمغنٍّ، أنا متأكِّد من أنَّ أُمَّه التي ولدته لا تطيق صوتَه، فانطلقت أُغنية صاخبة كفيلة بإيقاظ ميت في قبره، يختلط فيها “جعيرُ” المغنّي، إضافة إلى بعبعة السائق، بقرع الطبول وزعيق الزَّمامير، ترافقها بين لحظة وأخرى ولولاتٌ حادّة أعتقد أنَّ ملحِّنُها قصَدَ بها أن تكون زغاريد، والله أعلم.
وراحت الأغنية تلعلع وهي تخضخض أركان السيّارة، وكأنّها قنابل صوتية تكاد تحطِّم زجاج النوافذ، وتمزِّق “طبلات” آذان جمهور المستمعين المضطهَدين.
ولَمّا كان السائق هو قائد الأوركسترا، على نحوٍ ما،لم يجرؤ أحدنا على أنْ يطلب إليه خفضَ الصوت. وكيف يجرؤ على مخاطبته وهو الذي بدأ “يتغدّى” بنا قبل أن يخطر ببالنا حتى مجرَّد النيّة في أن “نتعشّى” به؟ فمنذ لحظة انطلاق السيارة العجيبة لم يكفَّ عن توجيه الأوامر والنَّواهي وهو يبعق:
– مَنْ ليس في جيبه “فراطة” فلييتفضَّء بالنزول.
– ليجمعْ أحدكم الغلّة.. أنا “ماني فاضي” كي أمدّ مكسورتي كلّ دقيقة وأتناول الثلاث ليرات من كلّ واحد منكم مثل الشحّاذ.
– مَن يَوَدّ النُّزول فليتكرَّم وينطق الجوهرة قبل الوصول إلى الموقف… و…
واتَّضح أنَّ الراكب ذا الوزن الثقيل، الذي حشرني بينه وبين السائق، هو من معارف قائد الأوركسترا، فدار حديثٌ بينهما صياحاً للقفز فوق صخب الأغنية، غير أنَّ الحديث كان من طرف واحد تقريباً، فالسائق قبض على زمام المبادرة، واستلم الحديث من “بابه إلى محرابه”، وراح يجعجع ويبعبع وهو يروي لصاحبه وقائعَ وحوادثَ وقصصاً تمحورت كلُّها حول شجاعته وإنجازاته البطولية التي تكفي لكتابة سيناريو فيلم “أكشن” على النمط الأمريكي.. فمن حادثةٍ “شَلَفَ” فيها راكباً من باب الميكرو لأنّه “مبوجَق ومتفذلك وحكيُه من فوق الأساطيح”، إلى حادثة أخرى لَبَخَ فيها أحد السائقين “قتلةً.. حَشْك ولَبْك” لكون هذا الأخير سدَّ عليه الطريق.. إلى قصّة جاره الحميماتي الذي كان “يبصبص” على حريمه، فهجم عليه صاحبنا بالـ”شنتيانة”، وكاد أن يُشَطِّبَهُ تشطيباً، ويجعلَ من لحمه “سيخ شاورما” لو لا تدخُّل أهل الحارة.. ، و.. و..، بالإضافة إلى صولاته وجولاته في السجن حين أُوقف قبل شهر مضى.
وخلال سرده تلك الحوادث لم يُفوِّت أيَّة فرصة للصراخ، بين الفينة والأخرى، في وجوه الرّكاب لأبسط سبب، فتحوَّلوا إلى تلاميذ أوَّل ابتدائي مؤدّبين مروَّضين، تنقصهم “الصداري” المدرسية فقط، في حضرة معلِّم حازم متسلِّح بمسطرة من خشب الزان. فحين كان أحدهم يرغب في النُّزول يرفع يده طالباً إليه ذلك بأدب جمّ وتردُّد وارتباك وتأتأة وفأفأة وكلمة “أستاذ” تكاد تسبِق طلبَه:
“بالله يا أخ.. إذا سمحت وتكرَّمت علينا.. يعني.. إذا أحببت أنزلني في أيِّ مكان هنا تراه مناسباً”.
أو: “الله يخلّيك ويوفقّك ويوقف أبناء الحلال في طريقك.. إذا ممكن.. يعني.. من بعد إذنك.. وتكون قد فضَّلتَ على رأسي من فوق إنْ أنزلتني في الموقف التالي”.
ثمّ والرّاكب يهمّ بالنُّزول لا ينسى تقديمَ جزيل الشكر إليه، والدعاءَ له بطول العمر، ودوام العافية له ولأولاده، والسَّتْر على “حريماته” لِما أسدى إليه من خدمة جليلة.
وكنتُ آنذاك أتمنى سماع ما سيقوله ذلك التلميذ المؤدَّب في حقّ بطلنا بعد نزوله.
أمّا أنا فقد كنتُ في فوَّهة المدفع هدفاً سهلاً ضمن مدى لسانه المجدي نظريّاً ومدى حركة يديه عمليّاً، حتى إنني، ولا أكتمكم سرّاً، تحاشيتُ تحريك مؤخّرتي مع أنَّ نصفها الذي أجُبرتُ على الجلوس عليه كان شبه مخدَّر، فسلَّمْتُ أمري إلى الله، واستسلمتُ للأمر الواقع.
وكان استسلامي ذاك بسبب خوفي، أولاً، من “الشَّرشَحَة والبهدَلَة”، في مواجهةٍ ما محتَمَلة مع ذلك المخلوق الذي لم يكن ثمَّة أثر واضح لعلاقة له، من قريب أو بعيد، بأيِّ نمط من أنماط السلوك الحضاري، وبالتالي لم يَلُحْ، على ضوء ذلك، أيُّ أمل في جدوى لجوءٍ منّي محتَمَل إلى استخدام العقل والمنطق والحوار الديموقراطي معه إن حدث ما لم يكن في الحسبان، لذا عملتُ بنصيحة المشي “الحيط.. الحيط”، وطلب السلامة، وتمضية بقية النهار بخير.
أمّا السبب الثاني فهو بصراحة، والحكي بيني وبينكم، أنني لم أقوَ على تخيُّل نفسي مجرَّد تخيُّل، أنا “المعصمص مثل قَصَب المصّ”، في حالة صدام خصماً لذاك الثور الضخم الأهوج الهائج المائج؛ ولكم أن تتصوَّروا ما كان باستطاعته فعله بهيكلي بخبطة يتيمة من يده لو أنني حاولتُ التصدّي له ممتطياً صهوة الـــــــ”عنتريّة”. فلو كان ثمّة تكافؤٌ جسديٌّ معقولٌ بيني وبينه لَباتَ الأمر مختلفاً، ولكن يا حسرة!.. فالعين بصيرة واليد قصيرة، والقلب الجسور وحده لا يكفي في موقف يحتاج فيه المرءُ إلى بعض العضلات.
المهمّ.. أنَّ السائق الغضنفر راح يخترق شوارع المدينة المزدحمة بسرعة جنونية كما لو كان (شوماخر) زمانه في ميادين (الفورمولا وَن) متجاوزاً ما أمامه من السيارات عن يمينها ويسارها، حتى خشيت أن تدفعه جسارته إلى التفكير في القفز من فوقها.
وراح خلال ذلك يوزِّع شتائمه مجّاناً على سائقي السيارات الأخرى والمشاة والباعة المتجوِّلين والشوارع الضيّقة والزَّحمة وشارات المرور والمطبّات والأرصفة و…. في حين كان الركّاب يبسملون، ويحوقلون، ويتشهَّدون، ويلهجون بالأدعية راجين انزياح الكابوس عن صدورهم وكلٌّ “يمسك قلبه بيده” كما يُقال، ويلعنون، في سرِّهم ربما، الساعةَ التي “اندفسوا” فيها داخل تلك العربة الأسطورية، حاملين أرواحهم على راحاتهم ليُلقوا بها في مهاوي الردى كما قال الشاعر.
وبعد تجاوزه إحدى الشارات الضوئية سمعنا صوتَ صفّارة قويّاً يطغى على “جعير” كلٍّ من المطرب والسائق، فإذا بشرطيّي مرور يقفان قرب الشارة وأحدهما يُشير إليه بالوقوف، وعلى الفور رضخ صاحبنا للأمر، وأوقفَ السيارة جانباً وهو يستعيذ بالله، ثمّ أسكت آلة التسجيل، وبدأ “البحبشة” في “تابلو” السيارة عن أوراقه الرسمية ووجهُه يُنقِّط سُمّاً.. مغمغماً: “أيْ والله.. هذا ما كان ينقصنا”.
في تلك الأثناء كان أحد الشرطيين قد اقترب من السيارة ممسكاً بدفتر المخالفات، وسرعان ما لحق به الشرطيّ الآخر.
قال له الأول: “شو؟.. هل تحسب نفسك فارساً تطارد على حصانك الغزلانَ والأرانبَ في البراري.. أم تتدرَّب على القيادة بهذه السرعة تمهيداً لاشتراكك في سباق دولي للسيارات؟”.
– والله.. يا سيدي.. الـــــــــ….
فقاطعه الشرطيّ الآخر: “هل نسيتَ أنَّك تنقل أناساً يريدون الوصول إلى بيوتهم سالمين؟”.
ترجَّل السائق، وراح يرجوهما بلهجة مستعطفة وهو موشكٌ على البكاء، طالباً إليهما أن يغضّا النظر هذه المرَّة، واعداً إيّاهما بعدم تكرار المخالفة، وشاكياً إليهما حالته المادّية الصعبة، وموضحاً أنّه يُعيل أسرةً مؤلَّفةً من عشرة أفراد، وأنَّه يعمل طوال يومه جرياً وراء رزقهم، وأنَّ مردود السيارة لا يغطّي أجرة إصلاح أعطالها ونفقات البيت، وأنَّ عمله ما هو إلاّ خدمة للناس، وأنَّ.. وأنَّ…، وكاد أن يقبِّل أيديهما. وتحوَّلَ البطل الغضنفر فجأةً إلى مخلوق ضعيف كسير الجناح يطلب الرحمة والمغفرة وعيناه تدمعان.
وخيِّل إليّ، وأنا أرى ذلك المشهد، أنَّ جثّة ذاك المخلوق المرعب الضخمة قد بدأت تفُشّ وتكشّ وتتقلَّص وتضمحلّ وتتقزَّم وتصبح في حجم “صوص منتوف الريش”.
وسمعتُ راكباً يهمس من خلف: “إيييه.. سبحان مغيِّر الأحوال!”.
وبصوت أعلى قال آخر: “كلّ فرعون وله موسى”.
خلال ذلك كان الشرطيّ الأول قد تناول منه الأوراق، وبدأ يُسطِّر مخالفة، في حين توجّه هو نحو الشرطيّ الآخر يكمل طقوس الرجاءِ والتوسُّلِ وطلبِ والصفح.
حين التفتُّ نحو الركّاب استطعتُ قراءةَ ما على وجوه بعضهم من تعبيرات، فكانوا بين مستغربٍ ذلك التحوُّلَ الفجائيّ في شخصيّة السائق، أو شامتٍ به، أو متشفٍّ منه، أو شاكرٍ اللهَ ربما لإرساله مَنْ يقتصُّ منه عقاباً له على اضطهاده إيّاهم.
وانتهى المشهد بتسطير المخالفة، وانصرف الشرطيّان، وصعد السائق إلى مقعده صامتاً “لا من فمه ولا من كُمِّه”، وجلس خلف المقود كتمثال شمعيّ أو جثّة موميائيّة جافّة، وقد فقد “مكياجُه” الطبيعيُّ تأثيرَه المرعب، وبات حَمَلاً وديعاً يأكل القطُّ عشاءَه، إذ ذاك قلتُ لنفسي: “جاءك الفَرَج”، فـــ”تبحبحْتُ” في جلستي، و”أخذتُ راحتي على الآخر”، وكأنني سلطان زماني.
أشعل صاحبُنا سيجارةً، وانطلق ببطء وهو يحملق أمامه بعينين زجاجيتين. وخيَّم الصمت على جميع مَنْ في السيارة. بعد لحظات ثقب راكب تجاوز مرحلة التلمذة بجدارة خيمةَ ذاك الصمت مخاطباً إيّاه بجرأة واضحة السخرية.
“أصلحك الله يا أخ.. لماذا لم تخبط كلَّ واحد منهما بُكْس لتخربط واجهتَه أو تنترُه ضربة شنتيانة تخلّيه يولول بالمقلوب؟”.
ألقى بطلُنا بنظرة سريعة نحو الخلف عبر المرآة العاكسة فوق رأسه، وزفر بعمق دون أن يردَّ بكلمة، وتابع رحلتَه صامتاً.